من السمات الشكلية في الشعر الحديث عدم الالتزام بالقافية وخلط الاوزان في القصيدة الواحدة ... ولكن السمة الاهم والابرز في الشعر الحديث هي في كيفية بناء القصيدة حيث بتجنب الشعراء بيت الشعر القائم بنفسه الكامل المعنى ، واعتمدوا وحدة المعنى في المقطع الشعري او حتى في القصيدة الكاملة ، فانت عندما تقرأ قصيدة حديثة - مهما كان طولها- تقرأها كوحدة متصلة كاملة لتستوعبها بسبب ترابط معنى ابياتها، حيث ينعطف فيها الكلام من بيت الى بيت لاستكمال الصورة الشعرية ! اما في شعرنا الكلاسيكية فاننا غالباً ما نجد المعنى كاملاً في البيت الواحد ؛ فنردده مستشهدين به بعد ان تحول الى قول مأثور اوحكمة او يعبر عن حالة وجدانية كاملة ...

لقد لخص ابن خلدون الرؤية الكلاسيكية للفصيدة العربية بقوله : ( هو كلام مفصل قطعاً قطعاً متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رَوِيّا وقافية، ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة ، وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده، وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو نسيب أو رثاء.)

يقول الباحثون ان هذه المفاهيم عن البنية الشعرية قد اختلفت مع النهضة العربية الحديثة ، اختلفت عن الشعر القديم في أساليبه،وفي مضامينه، وفي بنياته الفنية والموسيقية، وفي أغراضه وموضوعاته،وفي أنواعه المستجدة والمختلفة.

فهل هذه السمات هي فعلاً من ابتكار الشعراء المجددين في القرن العشرين الذين تبجحوا بانهم قد حرروا الشعر من سجن البيت المقفى والموزون ؛ وابتكروا للقصيدة العربية بناء معماريا" لغويا" حديثاً ؟؟! هل القصيدة المتصلة المعنى التي تتلاحم فيها ابياتها هي بنت هذا العصر ؟! الا توجد لها جذور تراثية ؟!

لقد قادني اهتمامي بالبرامج التلفزيونية التي تتكأ على التراث والتاريخ الى الاستعانة بالادب والشعر لتطوير وتنمية البنية الدرامية والابداعية في الاحداث التاريخية المجردة ، وقد وجدت في جولاتي في بطون الكتب نماذج شعرية عديدة تحمل سمات تبدو غريبة عن المالوف في عصرها حيث ذهب بعض شعراءنا الكلاسيكيين الى ابعد من تنوع القافية في القصيدة الواحدة ، فقد لجأوا الى التجديد في الاوزان والتحايل على رتابتها في القصيدة الواحدة ، كما كتبوا ايضا" القصيدة ذات المعنى المتواصل بين ابياتها المتلاحمة الكلام ...

وقد سمى النقاد القدامى هذا النوع من النظم ( تضمين - المضمن ) واعتبروه من عيوب الشعر ، فقد كانوا يعتبرون ان خير الشعر ما قامت ابياته بنفسها !!

وقد ادت ادانة النقاد القدامى لهذا النوع من النظم الى ضموره ؛ ولو كان موقفهم غير ذلك لحدث ربما تطور جوهري في قالب القصيدة العربية وبنائها الموسيقي واللغوي منذ تلك العصور!!

فيما يأتي استشهد بقصيدة بعنوان ( عيناه ) تعود الى اكثر من الف سنة ؛ لا يمكن ان تقرأها الا كقطعة واحدة متصلة المعنى ، اذ ان المعنى لا يستقيم ولا يكتمل عند نهاية كل بيت منها بالرغم من انه ينتهي بقافية موحدة !!

ولكي نتعرف على تركيب الابيات ونهاياتها(القافية) المألوفة ساضع خطًا تحت قافية كل بيت وينبغي كي نفهم المعنى ان نقرأ القافية مع بداية البيت التالي :

يا ذا الذي في الحب يلحى اما والله لو كُـلفتَ منه ؛ لما *

كلفتُ من حب رخيم ؛ لما لمتَ علي الحب..فذرني وما *

القى ..فاني لستُ ادري بما بليت ؛الا انني بينما *

انا بباب القصر في بعض ما اطوف في قصورهم اذ رمى

قلبي غزال بسهم ، فما اخطأ بها قلبي ، ولكنما *

سهماه عينان له ..كلما اراد قتلي بهما سلما * .

والان لنكتبها كما يكتب الشعر الحديث بنقل مفردة القافية الى جملتها في السياق :

يا ذا الذي في الحب يلحى ؛

اما والله لو كُـلفتَ منه ؛

لما كلفتُ من حب رخيم ؛

لما لمتَ علي الحب..

فذرني وما القى ..

فاني لستُ ادري بما بليت ؛

الا انني بينما انا بباب القصر ،

في بعض ما اطوف في قصورهم

اذ رمى قلبي غزال بسهم ،

فما اخطأ بها قلبي ،

ولكنما سهماه

عينان له ..

كلما اراد قتلي بهما

سلما * .

هذه القصيدة ذات النظم االمتميز عمرها حوالي اثني عشر قرنا" ، للشاعر المبدع اسماعيل بن القاسم بن سويد العيني العنزي أبي إسحاق المولود في عين تمر - على طريق القوافل من الكوفة الى الشام - عام 130 للهجرة (748 م) ، ثم انتقل إلى الكوفة وكان بائعا للجرار، مال إلى العلم والأدب ونظم الشعر حتى نبغ فيه، ثم انتقل إلى بغداد ، فمدح المهدي والهادي والرشيد .توفي في بغداد عام 211 هـ (826م ) ..

لم تسمعوا به ؟!؟ ...

هو ابو العتاهية !.