... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
المرأة الحلم في شعر المتنبي

د.ثائر العذاري

تاريخ النشر       10/09/2007 06:00 AM


على الرغم من الحضور القوي للمرأة في ديوان أبي الطيب المتنبي ، فإن من ترجموا لحياته لم يستطيعوا الإتيان بأية معلومات نافعة عن المرأة في حياته الحقيقية، فنحن لا نعرف على وجه التحقيق الا امرأتين ، هما جدته لأمه ، وزوجته (أم محسّد)، وحتى تينك المرأتين لا نعرف عنهما أي شيء محدد ، فالأولى عرفناها بعد موتها ، من خلال المرثية الخالدة التي رثاها بها:

ألا لا أرى الأحداث حمدا ولا ذمّا فما بطشها جهلا ولا كفها حلما

وأما زوجنه فنحن لا نعرف عنها شيئا لولا الأخبار التي تواترت عن أن المتنبي كان له ولد أسماه محسّدا ، وأنه قتل معه يوم داهمه فاتك الأسدي في دير العاقول.

ان اغفال كتب التراجم ذكر نساء كان لهن دور في حياة شاعر عالمي عظيم مثل المتنبي يرشح احتمال أن تكون المرأة التي احتلت صدور قصائد أبي الطيب ليست الا امرأة المثال أو الحلم الذي بحث عنه طيلة حياته وربما لم يجده أبدا، وثمة أبيات في ديوانه ربما تكون تعبيرا عن هذا المعنى:

أَبلى الهَوى أَسَفاً يَومَ النَوى بَدَني

 

وَفَرَّقَ الهَجرُ بَينَ الجَفنِ وَالوَسَنِ

روحٌ تَرَدَّدُ في مِثلِ الخِلالِ إِذا

 

أَطارَتِ الريحُ عَنهُ الثَوبَ لَم يَبِنِ

كَفى بِجِسمي نُحولاً أَنَّني رَجُلٌ

 

لَولا مُخاطَبَتي إِيّاكَ لَم تَرَني

فمنذ صبا الرجل كان باحثا عن إمرأته النموذج الذي كان يتشوق الى لقياها من غير أن يستدل عليها ، وفي هذه المقالة نحاول تلمس صفات هذه المرأة الحلم ورسم صورتها من خلال شعره.

تقدم المقدمات الغزلية في شعر المتنبي صورة لا بأس بوضوحها لتلك المرأة، مثل قوله في إحداها:

وهل أنا بعدَكُم عائشٌ

 

وقد بنتَ عنّي وبانَ السكَن

فدى ذلكَ الوجه بدرُ الدجى

 

وذاك التثنّي تثنّي الغُصُن

فما للفراق وما للجميع

 

وما للرياح وما للدِمَن

كأنْ لم يكن بعد أن كان لي

 

كما كان لي بعد أن لم يكُن

لا يذكر المتنبي أوصاف المرأة الا بعد أن يذكر الفراق المر ، والهجر الأليم ، حتى لنشعر أنه لم يحظى بوصالها أبدا، وفي هذه الأبيات فعل الشيء ذاته ، فهو يرى أن حياته كالموت في فراقه مع حبيبته التي ركز في البيت التالي على رسم صورة خارجية لها ، فهي ذات وجه كالبدر وقوام رشيق كالغصن.

وهنا لابد أن ننبه الى أن الذائقة العربية لم تكن تصف الحبيبة بالرشاقة بل كانوا ينجذبون الى المرأة الخاملة بسبب امتلاء جسمها ، والمتنبي هنا يقدم صورة حبيبته مختلفة عن الذائقة السائدة.

وفي البيت الأخير الذي بناه الشاعر بناءً معقدا يكاد يصرح بأن هذه الحبيبة ليست الا حلما في خياله ، فهي له قبل أن تخلق ، وهي ليست له بعد أن خلقت.

وفي قطعة أخرى يقول:

نَرى عِظَماً بِالبَينِ وَالصَدُّ أَعظَمُ

 

وَنَتَّهِمُ الواشينَ وَالدَمعُ مِنهُمُ

وَلَمّا اِلتَقَينا وَالنَوى وَرَقيبُنا

 

غَفولانِ عَنّا ظِلتُ أَبكي وَتَبسِمُ

فَلَم أَرَ بَدراً ضاحِكاً قَبلَ وَجهِها

 

وَلَم تَرَ قَبلي مَيِّتاً يَتَكَلَّمُ

ظَلومٌ كَمَتنَيها لِصَبٍّ كَخَصرِها

 

ضَعيفِ القُوى مِن فِعلِها يَتَظَلَّمُ

بِفَرعٍ يُعيدُ اللَيلَ وَالصُبحُ نَيِّرٌ

 

وَوَجهٍ يُعيدُ الصُبحَ وَاللَيلُ مُظلِمُ

هذه الأبيات تقدم مزيدا من الصفات ، ولكن لابد من الملاحظة الابتداء بذكر الفراق (البين)، وهنا يعود أبو الطيب لتشبيه الوجه بالبدر، غير أن من النافع أن نلاحظ المقابلة الجميلة بين وجه الحبيبة وحاله هو ، فبينما تتألق هي بدرا ضاحكا، كان هو ساكنا غير قادر على الاستجابة (ميتا يتكلم) لوقوعه بين نار القرب مع العفة، ونار الفراق مع الشوق.

ويبني الشاعر في البيت الرابع وصفا معقدا له ولحبيبته اعتمادا على جملة واحدة عجيبة، فهذه الحبيبة ظالمة لحبيبها بهجرها له وظلمها يشبه ظلم متنها الثقيل لخصرها النحيل، أما حبيبها فلا يملك الا الشكوى من الظلم كحال خصرها الذي يتثنى من ظلم متنها.

وفي البيت الأخير نجد أنفسنا أمام مقابلة وصفية أخرى ، فأنت ترى في وجه هذه الحبيبة الليل والصبح معا ، لشدة سواد شعرها الذي يحاكي الليل ، وشدة بياض وجهها الذي يحاكي الصبح.

وقال أبو الطيب في قصيدة أخرى:

دِيارُ اللَواتي دارُهُنَّ عَزيزَةٌ

 

بِطولِ القَنا يُحفَظنَ لا بِالتَمائِمِ

حِسانُ التَثَنّي يَنقُشُ الوَشيُ مِثلَهُ

 

إِذا مِسنَ في أَجسامِهِنَّ النَواعِمِ

وَيَبسِمنَ عَن دُرٍّ تَقَلَّدنَ مِثلَهُ

 

كَأَنَّ التَراقي وُشِّحَت بِالمَباسِمِ

في هذه الأبيات يقدم لنا الشاعر وصفا للمكانة الاجتماعية للمرأة الحلم ، فهي ليست امرأة عادية ، بل تقيم في قصر يحرسه فرسان ضخام يدل على ضخامتهم وقوتهم طول أسيافهم، وهي امرأة مترفة وصف نعومة بشرتها في البيت الثاني ، فالوشي أو النقش في ثيابها يترك أثرا مثله على بشرتها حين تسير ، لرقة تلك البشرة. وهذا طبعا لا يكون الا لامرأة من طبقة مترفة مرفهة.وأوضح ذلك في البيت الثالث فهذه المرأة تتمتع بأسنان جميلة معتنى بها حتى انها تشبه الدر الذي تتقلده في جيدها، وهو هنا يصل الى هدفين بجملة واحدة ؛ وصف مفاتن حبيبته ووصف منزلتها التي دل عليها الدر الذي تتقلده.ويرد هذا المعنى في مواضع كثيرة من ديوانه ، غير أن من الأبيات الجميلة التي يصل اليه من خلالها كما يعبر عن أنوثة الحبيبة الحلم قوله:

وَأَرى تَدَلُّلَكِ الكَثيرَ مُحَبَّباً وَأَرى قَليلَ تَدَلُّلٍ مَملولا

والمتنبي بعد ذلك لا ينظر الى تلك الحبيبة النظرة البدائية الشهوانية التي كانت تطبع علاقة الرجل بالمرأة في عصره ، بل هو يصور حبه تصويرا جميلا بحيث يعطيه معنى روحيا يرتفع على مفاتن الجسد وشهواته:

إِلامَ طَماعِيَةُ العاذِلِ

 

وَلا رَأى في الحُبِّ لِلعاقِلِ

وَإِنّي لَأَعشَقُ مِن عِشقِكُم

 

نُحولي وَكُلَّ اِمرِئٍ ناحِلِ

وَلَو زُلتُمُ ثُمَّ لَم أَبكِكُم

 

بَكَيتُ عَلى حُبِّيَ الزائِلِ

أَيُنكِرُ خَدّي دُموعي وَقَد

 

جَرَت مِنهُ في مَسلَكٍ سابِلِ

ليس هذا النوع من الغزل من الأنماط العربية الشائعة، فهو هنا يرتفع تماما فوق الشهوة الجسدية ليحلق في عالم رفيع من الحب الشفاف الذي ليس للعقل سلطان عليه والذي يجبر المحب على البكاء في كل أحواله.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  د.ثائر العذاري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni