... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قضايا

   
عمر و التشيع . . . ح 6

حسن العلوي

تاريخ النشر       05/10/2007 06:00 AM


البــاب الثاني

 عمر في المنظور الشيعي

 المشاركة عند فقهاء العرب
 والقطيعة عند فقهاء المثالب


فقه القطيـعـة .. وفقهاء المثالب:
المتغلبون في الدرس والأسطورة والمنبر

عمر والقطيعة.. المناصفة الخاسرة
المتفرج على الحاضر الإسلامي، وقارئ المرويات التاريخية، وجليس المنابر والشاشات مقتنع، دون ريب، بانشطار الجسد الإسلامي إلى فريقين، هذا لعمر وذاك عليه. فربح القائلون بالقطيعة نصف التاريخ، واستقلوا بنصف الخطاب ونصف الاهتمام، وأكثر من نصف الاستشكالات الراهنة.
وهذه خطيئة الأخطاء، وخديعة الرؤية، والقصور عن التفريق بين ظاهرتي الانشطار والانشقاق.
إن عمر في رؤية الانشطار، يتطفف نصفا من التاريخ، ونصفاً من الناس، ونصفاً من المكانة. فخرج الرجل خاسراً في قسمة تعطي المنشقين صفة الانشطار، وتترك الجسد الإسلامي وكأنه مقسوم من الوسط.
وعمر تسعون، وانزل إلى السبعين وليس للآخرين مابقي من المائة. إذ لا يجمع التشيّع على كراهة عمر، وإنما انشق من داخله تيار سرعان مااتسع حجمه، هو الذي نصطلح عليه بالقطيعة، معتمداً منهج الأقلية في اللجوء إلى التشهير.
إن منهج القطيعة لم يظهر في العصور الإسلامية الأولى، يوم كان أهل البيت يقودون أتباعهم على منهج الإمام الأول، شريكاً مع شريك، ومؤسساً مع مؤسس.
والشيعة تعني في أصلها اللغوي الأتباع والأنصار والأعوان، وكل جماعة اجتمعوا على أمر فهم شيعة، واشتهرت هذه اللفظة عند إطلاقها على من يوالي الإمام علي بن أبي طالب وأهل بيته، حتى صار اسماً خاصاً بهم، وإلى ذلك يذهب ابن خلدون في مقدمته، فيقول:
الشيعة لغة هم الصحب والأتباع، ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه.
تذهب مصادر شيعية إلى أن أول اسم ظهر في الإسلام على عهد رسول الله (ص) هو الشيعة. ويؤيد مرجع سني هو الأستاذ محمد كرد علي، في كتاب (خطط الشام) أن جماعة من كبار الصحابة عرفوا بموالاة علي في عصر الرسول (ص)، مثل سلمان الفارسي وأبي سعيد الخدري وأبي ذر الغفاري وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، وخزيمة بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري، وخالد بن سعيد بن العاص، وقيس بن سعد بن عبادة، ويضاف إليهم صحابة آخرون كعامر بن وائله والمقداد بن الأسود.
لعل القائلين بالقطيعة قد استفادوا من هذه الحالة التاريخية، فأوحوا في مروياتهم أن هؤلاء الصحابة الذين شكلوا تجمعاً تنظمه رؤية واحدة في مولاة الإمام علي كأنهم مؤسسو تجمع مذهبي وحزبي وسياسي. والى هذا انتبه الفقيه الشيعي عبد الله النعمة في كتابه روح التشيع، فأنكر أن يكون لهذه الجماعة أهداف خاصة.
ولم يكن لهؤلاء الأفراد في ذلك العهد أي مركز قوة معارضة داخل ذلك المجتمع، وكانت رؤيتها قائمة على قناعة بأن هذه الموالاة هي من صميم الإسلام وروحه.
إلاّ أن اتجاهات القطيعة كرست عكس ما يذهب إليه الشيخ عبد الله النعمة، فصار هؤلاء الصحابة هم اللبنة الأولى في مذهب التشيّع، مقابل جماعة من الصحابة يتزعمهم أبو بكر الذي شكل أول خلية في تنظيم الإسلام ضمّت عبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان وآخرين. وكان سعد بن أبي وقاص أصغر عضو فيها، وهي التي كبرت سنة بعد أخرى. ولم يشكل هؤلاء مجموعة من الموالين لأبي بكر، وإنما اجتمعوا على ضوء ماكان يصلهم من تعاليم النبي (ص)، ولم يكن عمر بن الخطاب قد أسلم بعد، ولم يلتق بأبي بكر إلا بعد ست سنوات، ولم يكن الإمام علي هو الآخر عضواً في هذه الخلية لحداثة سنه قياساً لمعدل أعمار هذه الخلية، إذ الفرق سيربو على أكثر من عشرين عاماً. ولأن الإمام علي كان في ذلك الوقت ربيب النبي (ص) ومريده، وقد توهج اسمه بعد أن كلفه النبي (ص) بالنوم في فراشه أثناء هجرته إلى المدينة، وما تركه هذا التكليف على تركيز الاهتمام بشخصية هذا الفتى وفدائيته العالية.
وبدأت إشعاعات الإمام علي تجتذب إلى شخصيته الكثير من الصحابة بعد عشر سنوات على الأقل من ظهور خلية أبي بكر، فلم تكن الموالاة للإمام ردّ فعل على تلك الجماعة ولا نقيضاً لها. وكانت معارك الرسول الأولى في المدينة قد ألقت أضواءً أخرى على شخصية الإمام علي الذي لم يخسر أو يتراجع أو يتردد في معركة منها.
إن تسع نظريات على الأقل اختلفت في زمن ظهور التشيّع، فالمصادر الشيعية تسحب الزمن إلى الوراء وصولاً إلى زمن صدر الإسلام، وبعض المصادر السنية تؤخر في ظهور التشيّع، حتى نسب بعضها ظهوره إلى فاجعة كربلاء ومقتل الإمام الحسين. وبين هذين التاريخين يمكن الإشارة إلى يوم السقيفة باعتباره اليوم الذي ظهر فيه التشيّع، عندما تخلف الإمام علي عن مبايعة أبي بكر في طائفة من الصحابة.
ومنهم من يفترض ولادة الشيعة يوم الشورى، بعد وفاة عمر بن الخطاب، ومنهم من يفترض يوم الدار حين أحاط المتظاهرون بعثمان بن عفان وحاصروه في داره وقتلوه، ومنهم من يفترض يوم واقعة الجمل.
لكن كثيرين يشيرون إلى معركة صفين بين الإمام علي ومعاوية.
ولا ننسى من يؤرخ ولادة الشيعة بظهور عبد الله بن سبأ، وهي الرواية الشائعة حالياً، والمضعفة عند كثير من المؤرخين.
وقد ننزل مع التاريخ إلى المائة الثانية للهجرة، فينسب ظهور التشيّع إلى زمن الإمام جعفر الصادق وتلميذه هشام بن الحكم، الذي قام بدور التشكيل الهندسي والبناء الفكري لفكر الإمام جعفر الصادق، يشبه إلى حد دور الفقيه أبي يوسف تلميذ أبي حنيفة في صياغة المذهب الحنفي.
ولو أجرى معهد غالوب المعروف بدقته استبياناً في أروقة القطيعة لحصل الإجماع على يوم السقيفة، حيث يشخص عمر بن الخطاب وجها لوجه، فيصب على وجهه مصبوب المرويات منذ ذلك التاريخ. فكأن الأمة قد انشطرت بالسقيفة إلى شطرين. وعنهما نجمت ثنائية عمر وعلي، ولعل هذه النتائج المفترضة ستكون أخف ضرراً من تأصيل الفرقة بزمن النبي (ص)، وكأن الإسلام ولد مشطوراً. وكأن النبي (ص) كان يتحرك بجناحين، على غرار الواقع السياسي الراهن، جناح لعلي وآخر لأبي يكر، ولا بأس أن يسارع حملة الأيدولوجيا إلى تسمية أحدهما باليسار، وثانيهما باليمين، ويصبح الإمام علي زعيم اليسار، وأبو بكر زعيم اليمين، فيسقط التاريخ بإسقاطات الحاضر.
فقهاء التنقيص!!.
إن الكتابة الآن في عمر اختراق لحملة التنقيص التي تضرب التاريخ الإسلامي والإسلاميين من خارجهم، بعد أن كان منهج التنقيص محصوراً في إطار الثقافة والمثقفين الإسلاميين المستغرقين في صراعاتهم، فلا يدخل ميدان التنقيص، إلا فقيه بالمذاهب، وعالم بالرجال، ومحدث يستوعب علم الحديث ومدارسه. ومنطيق درس أرسطو، وأديب تعلم في مدارس البلاغة.
وباستمرار المناقصات، تتضاءل حجوم الرجال الأوائل، وتطغى المثالب على المكارم.
إن فقهاء الخلاف هم المتخصصون بهذا المنهج، لم يشاركهم غيرهم فيه، فإذا كتب العلمانيون في مطلع القرن الماضي، وحتى ربعه الثالث، فإنما يخضعون لقوانين الصراع الاجتماعي، ومفسرات السايكولوجية البشرية، وفي الحالتين يبدو عامة الناس عاجزين عن دور كهذا. والناس مبرأون من مثالب التنقيص. لكنهم يتلقون معلومات العلماء والمؤرخين عن طريق وسيط فتتحول الأحداث في مخيلتهم إلى نقائضها. أو يضاف إليها، فإذا ضعفت المعلومات بعوامل النسيان والاندثار، طلع عليهم الدعاة بما يجدد شبابها، فيعيد الحياة إلى عمر ذئباً يترصد علياً، أو قد يصبح قاتل الحسين هو قاتل الفتنة.
ولهذا فإن الاعتقاد بدور كبير للمتنورين من علماء اجتماع وكتاب وشعراء سيبدو غير دقيق، وعاجزاً عن التأثير في معتقدات معمرة، ومشاعر متأصلة.
إن التنقيص، هو المقابل اللغوي لنزعة الهجاء التي تجد لها دعاة ومستمعين، سوى أنه هجاء يستهدف الشخصيات الكبيرة، من أهل البيت، والصحابة، ورؤوساء المذاهب، ومن هنا خطورة التنقيص على سلامة المعلومات التاريخية. لا سيما أنه من شغل الكبار، فقد اشتغل أعظم أديب عربي، كالجاحظ في منهج التنقيص، في كتابه (العثمانية) الذي لم يتورع فيه عن سلب الإمام علي فضائله المنصوص عليها في كلام الله. وحديث رسوله، وعلى لسان الصحابة، فيرد على معتزل البصرة معتزلي من مدرسة بغداد، هو أبو جعفر الاسكافي، مدافعاً عن الأمانة التاريخية، والمكارم العلوية، فما الذي يستطيع فعله الفقراء والجهلاء والدهماء المتهمون، بأنهم حملة الفصل والتشهير الطائفي؟.
وتؤكد الموجة الحالية لحملة التنقيص وجهة نظرنا هذه ورجال التنقيص أدباء ومؤرخون وكتاب، خرجوا من حمأة الصراع الطائفي متسامين عليه، متساقطين في حمأة التشكيك، لينالوا بالدرجة الأولى من شخصية النبي (ص)، وفصل حركته عن إرادة السماء، واعتبارها سلكاً موصولاً بحلم السيادة القرشية، والرغبة الهاشمية القديمة بإقامة دولة مكة.
وأوغل كتاب الموجة النزقة في التعريض الشخصي، فدخلوا غرفة نومه، وبين أزواجه، مما تشكل الرسوم الدانماركية، قياساً لكتابات تصدرها مؤسسات عربية مسلمة، مجرد طرفة!.
وطالما أن الحملة أنجزت مشروع الفصل وسارت على النبي محمد(ص) رجلاً حالماً، بدولة قرشية، سهل عليهم أن يجردوا أصحابه ورجاله المؤسسين من حلة الاحترام، مستفيدين من ميراث وافر لفقهاء التنقيص الأوائل، يردون على أقوال من يطعنهم بالتشهير، وليس عليهم أن يصنعوا الروايات، أو يكتبوا التاريخ من جديد، فالمتناول من الأقوال مٌستمد من كتب الفقهاء والعلماء والأدباء الأوائل المتورطين في حملة التنقيص.
ومن الإنصاف أن كتاب الموجة النزقة قد يتوقفون عن نقل روايات لم يتوقف عن ترديدها فقهاء الصراع تجنباً لمساءلات قانونية أو ردات فعل شعبية. ولم يجرؤ كاتب من الملاحدة أن يترضى عن قاتل عمر بن الخطاب فيقول أبو لؤلؤة رضي الله عنه، ولا أن يترضى عن قاتل حفيد نبي المسلمين،وسبي حفيداته، حافيات من الكوفة إلى الشام. فيما كان عمر يرفض سبي نساء العرب في قبائل مرتدة، معترضاً على صاحبه أبي بكر، فأعاد السبي إلى ديارهم. إن كتب الفرق والطوائف والمذاهب شكلت مادة أساسية للتشهير الاستشراقي والعلماني بالإسلام.
ثنائية القطيعة والمشاركة:
أغلب الظن أن الانشقاق الإسلامي سيأخذ بعداً تلتبس فيه الانتماءات لو استفرغ الفقهاء والمثقفون بعض جهدهم، فيما نتعارف عليه بثنائية القطيعة والمشاركة، وهل كان الإمام علي في الأولى أم في الثانية بعد وفاة النبي (ص) وظهور الخلافة الراشدة. فلعل الناس سنة وشيعة يخنفون حدة القسمة وهم فريقان: أحدهما يأخذ بنظرية القطيعة، والآخر بنظرية المشاركة.
وأغلبية الناس على مبدأ المشاركة، وأن الإمام لم يستمر في معتكف القطيعة بعد وفاة النبي (ص) أكثر من ستة أشهر، فأعطى بيعته وتبعه بنو هاشم وبعض الصحابة ممن لم يكن قد دخل في البيعة بعد.
إن التاريخ الإسلامي العام، وهو مدون بحرفية أكاديمية عالية، يصادق على القول بنظرية المشاركة. ولم يتحفظ مؤرخ إسلامي محترف، عن القول بها، وإن قطيعة الإمام لم تكن أبدية، وأنه جمَّد أو أجّل ماكان ينسب إليه من اعتراض على الخليفة الأول، وإن لم تكن درجة الاتصال بدار الخلافة قد تطورت إلى مرتبة المشاركة الواسعة في الخلافة الثانية. فنشأت بين الإمام والخليفة ثنائية استعاد فيها عمر ثنائيته مع أبي بكر، وكان يصغي للإمام علي، والإمام لا يضن عليه برأي الناصح، ولا بموقف عاضد.
ويتفق على حصول تطور إلى حد الانعطاف في نظرية المشاركة كل من ابن سعد في طبقاته والطبري في تاريخ الملوك والمسعودي في مروج الذهب واليعقوبي في تاريخه والأصبهاني في أغانيه.
والثلاثة الاخيرون محسوبون على التشيع.
وعند رجال البحث الأكاديمي المعاصر إجماع لم يخرج عنه إسلامي أو علماني على القول بالمشاركة. فيلتقي طه حسين بغريمه عباس محمود العقاد، والأزهري محمد أبو زهرة بالعلماني عبد الرحمن الشرقاوي، وتنفرد المدرسة المصرية بثقة لم تكتسبها مدرسة معاصرة أخرى، وواحد من عناصر الثقة بها يقوم على نشاطها المحمدي في حقل المشاركة العلوية – العمرية.
إن نفوذ القائلين بنظرية المشاركة هو المؤكد علمياً، والغالب عددياً، والنافذ المفعول في الثقافة المدنية القائمة على دراسة مستقلة وحرة للتاريخ، فطرقت أبواب التشيع في مركز عصب الخلاف، ولم تكن الاستجابة كبيرة في عصرنا، لكن مرجعاً كالإمام محمد الحسين كاشف الغطاء لم يتأخر عن إصدار الإعلان الشيعي الشجاع والأصيل في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) الصادر منتصف الخمسينات الميلادية والقائل بثقل حجية المشاركة. وكان باحثون أكاديميون وموسوعيون في الجانبين الإسلامي والعلماني من دعاة المشاركة، كجعفر الخليلي وعلي الوردي وحسين مروة وهادي العلوي وهاشم معروف الحسني، وهم أصحاب كتب ودراسات.
ولربما أيقظت هذه المدرسة في باحث إيراني شاب روحاً نقدية ألهبت إحساسه الإسلامي، هو الدكتور علي شريعتي، ليصبح أخطر مفكر إيراني وشيعي يجاهر بفكرة المشاركة في تحديات خرجت من عقر حسينية إرشاد في طهران، وهو صاحب نظرية التشيع العلوي والتشيع الصفوي، وواضع أسباب الانقسام ومجذر رسومها وأصولها بظهور الدولة الصفوية عام 1500 ميلادية.
ومن الإنصاف أن الصفويين لم يبتدعوا نظرية القطيعة، وقد كانت قائمة في مرويات محدودة لكن الصفويين نجحوا في أدلجة القطيعة ووضع مناهج خاصة بها في البحث التاريخي وثبتت لها القواعد القائمة على (الأدلة النقلية والبراهين العقلية) ووضعت موازنات لهذا المشروع، تحت تصرف أرفع العقول وأبهى الأسماء الفقهية في لبنان والعراق وإيران. ومنح فقيه الدولة الأول الشيخ علي الكركي صلاحيات الشاه، فصار حرامه حرام الدولة وحلاله حلالها. فعارضته المؤسسة الدينية في العراق والبحرين والإحساء والقطيف، واصطدمت بمعارضة كان طرفاها يختلفان في شرعية السلطان الصفوي ويتفقان في نظرية القطيعة، وإن كانت المعارضة أقل اندفاعاً في هذا الاتجاه، وأسلس روحاً وألطف عبارة. بينما دجج العلماء والمثقفون الصفويون القائلون بروح القطيعة الصارمة والأبدية، فنشروا المرويات الغريبة وأشاعوا الضعيف من الأسانيد. وكأنهم يستعيدون مرحلة مرت في التاريخ الإسلامي كانت الدولة الأموية تشتط بعيداً في هذا الاتجاه، وكأن التاريخ لا يبدو حيوياً إلا بتوازن السوء فينشأ تشيع صفوي وتسنن أموي.
ومادامت الأكثرية العددية بين المسلمين والنوعية في البحث الأكاديمي التاريخي العام، منذ طبقات ابن سعد، تأخذ بنظرية المشاركة العلوية مع الإدارة العمرية لتصريف أمور الدولة، فكيف أتيح للقائلين بالقطيعة كالسيد العلامة كاظم القزويني في أحدث كتاب له هو الإمام علي من المهد إلى اللحد وضع فصل مستقل: إن الإمام علي كان جليس البيت، منذ وفاة النبي (ص) حتى وفاة عمر عام 23، للهجرة مسلوب الإمكانيات على حد تعبيره. بينما كانت جيوش المسلمين تدق أبواب أسيا القصوى وإفريقيا الشمالية؟.
إن المنهج الصفوي يسعف العلامة القزويني بقواعد فقهية وإخراج رواية على لسان الإمام الصادق يخاطب أتباع أهل البيت، قائلاً: في حالة اختلاف الروايات واتفاق بعضها عند بعض الأئمة من أهل البيت:
خذوا ما خالف القوم أو خالفوا ماوافق العامة.
ولأن القوم المسلم قد أجمع على نظرية المشاركة العلوية في إدارة الدولة، وإلى جانبه روايات عن الأئمة، ومنهم الصادق وعن أهل البيت، ومنهم زيد بن علي، فالصحيح الصفوي هو الأخذ برواية القطيعة مادامت تخالف أهل السنة.
وهكذا حسم النزاع ويحسم في قضايا الخلاف، فيكون إجماع المسلمين على أمر سبباً للشك في الرواية، والمطلوب الأخذ بما خالف القوم!.
ولم يعد مما يقوي الشيعي القائل بالمشاركة،الاستشهاد برواية تقر حصول بيعة الإمام علي ومشاركته أبا بكر وعمر في إدارة الدولة.
فمن الذي حرم الإمام علي من المشاركة في إدارة الدولة سوى القائلين بالقطيعة؟. وما المذموم في أصل فكرة المشاركة الصادرة أساساً من وعي عقائدي حميم إلا من يُعتم على دور الإمام المؤسس والشريك؟.
إن فكرة الاعتزال إن لم تكن محرمة فهي لاتليق بالشريك المؤسس حامل أول لقب لفتى الإسلام.
وفي ذات السياق تركزت الجهود الفكرية والفقهية والدعائية على ربط عمر بن الخطاب في التأسيس السفياني للدولة الأموية بتعيين معاوية والياً على الشام وتوزيع المناصب القيادية على صحابة قادمين من المعسكر السفياني أو من البيت الأموي، وهو الأمر الذي لاقى ويلاقي رضا الفريقين.
فأهل السنة، وبحسب مبدأ وحدة الصحابة، وكون الإسلام يجبُّ ماقبله، وبقوة الأدوار التي نهض بها هؤلاء القادة في عصر الفتوحات سيكون من لطف الله عندهم أن تتعاشق وشائج الود والفهم المشترك بين سياسة عمر وفقهه وإدارته للازمات بتاريخ رجاله من قريش ومن بني أمية فيتساوى الرجل مع غيره في وحدة الصحابة ويدفع اللوم والتأنيب ونبش الماضي عن رجال قريش إذعاناً لقاعدة الإسلام يجب ماقبله، وهي عندي من أرقى المبادئ في العلاقات الإنسانية وأذكاها في إطفاء حرائق الفتن وأكثرها علمية في نشوء الدول.
إن عمر بن الخطاب يكاد أن يدمج مع الأمويين عند بعض أهل السنة وعند عموم أهل التشيع، والمهمة النبيلة للفقهاء والباحثين العمل على امتلاك القدرة العلمية والذهنية لاستلال عمر من انتساب لم ينتسب إليه، وبيت لم يكن منه، ولعل المدرسة المصرية أجابت عن هذه الحاجة الحضارية وحسمت الأمر لصالح القول بالمشاركة.
يروى أن عثمان بن عفان قال للإمام على: إنني لم أخرج عما كان عليه عمر في أمر تعيين الأمراء والولاة والقادة، فلماذا رضيتم به؟.
أجابه الإمام علي: إن عمر كان يتابعهم ويراقبهم ويعاقبهم بالعزل وبغيره إن لم يسيروا سيرة حسنة. ولم يترك لهم الأمر.
ويقول الدكتور علي الوردي:
إن معاوية مع عمر لم يكن ذاته مع عثمان، كان معاوية مع عمر محكوماً مطيعاً، لكنه في ولاية عثمان كان حاكماً وصاحب صلاحيات، وقد صارت الشام كأنها عاصمة الخلافة.
ومن الأمثلة على طريقة عمر التي أشار إليها الإمام علي أنه كان يعزل الوالي، وإن كان المعزول ممن أبلوا في الفتوح بلاءاً مثيراً للإعجاب، وقد عزل المغيرة بن شعبة عن البصرة وأمره أن يشخص إليه ليحاكمه في تهمة زنا، في الوقت الذي كان فيه المغيرة يلحق الهزائم في الجيش الفارسي في الأهواز.
وعزل قائداً وصحابياً كسعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة، كما عزل شرحبيل بن حسنة عن ولاية الشام لسبب سئل عنه عمر، فأشار إلى تفضيله الإداري القوي على الإداري الضعيف، وليس لسخطه عليه.
وقصته مع خالد بن الوليد وعزله معروفة.
رضي الله عنه وعليه السلام:
من وظائف فقه الخلاف توسع الفقيه في المرويات والآراء وإنجاب لُغة ومصطلحات تُرضي نزعة الافتراق.
فصار لكل فئةٍ لغة خاصة يتعرف الناس بها على مذهب الكاتب والمُتحدث، وشمل ذلك جملة الصلاة والسلام على النبي، هل هي له وحده أم يلحق به آله فقط كما يقول الشيعة، أم هي عليه وعلى آله وأصحابه، كما يقول أهل السنة؟
وهل سنقف عند هذه الصيغة أم نلحقها بمفردةٍ أخرى، مثل أجمعين، فيتشارك مع النبي في الصلاة والسلام أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو سفيان وعبد الله بن أبي سرح وعمرو بن العاص. حسب منطوق وحدة الصحابة. ومبدأ التسوية بينهم فيعترض فريقٌ من المسلمين على مفردة أجمعين. ويعترض أغلبية المسلمين على الآذان الشيعي في أكثر من مورد كحي على خير العمل والشهادة الثالثة؟.
و فقهاء التشيع يرون في حي على خير العمل، جملة واجبة الوجود في الأذان.
أما الشهادة الثالثة فهي مستحبة عند فريق من الفقهاء، ويمكن الاستغناء عنها، وعلى ذلك جرى الإمام محمد مهدي الخالصي فأثيرت حوله وعليه ضجة لم تهدأ.
فلماذا لم يترك المُستحب ويُستغنى عما أضيف هنا وهناك كي يكون الآذان واحداً؟.
أجيب، ومن وجهة نظر لا علاقة لها باجتهادات الفقهاء، أن الأمر ليس بهذه البساطة، فاللغة عند أهل المذهب قد توظف للتعبير عن الملامح، قبل المضامين، فإذا صرنا إلى الاستغناء عن مفردة خاصة ضاعت الملامح ولم يعد ممكناً التعرف على هوية المُتحدث والمؤذن وستنتفي الحاجة إلى فقه الخلاف!..
و في هذا السياق لم يُترك النبي محمد وحده ليصلي الله عليه ويُسلم. فألحق معه الآل أو الأصحاب ولو أن الآية 56 من سورة الأحزاب تقول: "إن الله وملائكته يصلون على النبي. ياأيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلّموا تسليماً" فيكون الأسلم والأجمل أن يصلي الله ويُسلم على نبيهِ دون أن يشترك معه أحدٌ من أهل القرابة والصحابة.
ولعلّي أميل إلى عبارة صلى الله عليه وسلم، وأستخدمها في أحاديثي، فحدث وكنت أُحاضر في حسينية الولاية في حي السيدة زينب بدمشق عن استشهاد الإمام الحُسين بين جمع من المدعوين شيعة وسُنّة، ولدى انتهائي من المحاضرة. كان أحد الفقهاء يتصدر المجلس، فهمس في أُذني أني لا ألتزم بلغة الإسلام، وظننت الأمر يتعلق بمنهجي المُستقل الخارج عن مناهج البحث الفقهي.
لكن السيد الفقيه استدلّ بعبارة (صلى الله عليه وسلم) ليكون النطق بها سبباً لجعلي غير ملتزم بلغة الإسلام. إذ المقطوع نهائياً أن تُلحق بالعبارة إياها جملة وعلى آله.
ولو نطقت بها لأعترض الحاضرون من أهل السنة، ولاتهمت بالممالأة.
فهل كثيرٌ على النبي أن يُخص بصلاة الله وسلامه وقد خصه الله وحده بالآية الكريمة؟.
وفي هذا السياق استبدّت صيغتان بأسماء أئمة أهل البيت والصحابة، بما يجعل الخروج عنهما أشبه بالخروج عن المقبول الديني لدى الفريقين، فاختص أهل السنة بصيغة رضي الله عنه للصحابي وللأئمة من أهل البيت ورفض الشيعة إطلاقها على الاثنين، فهي عندهم كثيرة على الصحابة وقليلة على الأئمة، إلاّ إذا كان الصحابي مقرباً من الإمام علي وللإمام صيغة عليه السلام وليس لبقية الصحابة صيغة رسمية في لغة التشيع.
وفي التحليل اللغوي وعلاقة كل من الصيغتين بالروح، تبدو صيغة رضي الله عنه مُناسبة للجميع إذ لا تقويم يعلو على تقويم الله الحاصل في الرضا والرضوان عمن هو جدير برضوان الله فإذا رضي الله عنك فما قيمة أن تغضب الخليقة عليك؟
ومن رضي الله عنهم لا يحتاجون إلى طلبِ أحدٍ منا إلى الله بالترضي والرضوان عليهم بعد أكثر من 1420عاماً على صدور الإرادة الإلهية بمنحهم رضوانه وقوله تعالى في سورة الفتح الآية 18 " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فانزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً عظيماً "
لكن منهج القطيعة يطوي المسافات وقد يعبر الآيات، فإذا وصل إلى تلك الشجرة ورأى عمر بن الخطاب تحتها مع من بايع الرسول ونزل فيه قرآن توقف المنهج سالكاً طريقاً لا يمر عند تلك الشجرة، ولو أننا اخترنا أيّ مقطع من هذه الآية الكريمة وألحقنا به اسم رجلٍ ممن كانوا تحت الشجرة لما خرجنا على مضمون الآية فنقول: إن عمر رضي الله عنه، أو أن عمر أنزل الله عليه السكينة، أو عمر المثاب بالفتح العظيم.
ونحن نميل إلى ترك الأمر إلى الله وهو صاحب الرضوان.
أمّا السلام عليه الذي يُلحق بأسماء الأئمة من أهل البيت، فلعلها صيغة مستعارة من آيات قرآنية منها:
" سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " / الرعد 24 /
" وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيّاً " / مريم 15 /
" قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى " / النحل 59 /
" سلامٌ على نوح في العالمين " / الصافات 79 /
" سلام على إبراهيم " / الصافات 109 /
" سلام على موسى وهارون في العالمين " / الصافات 120 /
" وسلام على المرسلين " / الصافات 181 /
فالذين ألقى الله عليهم بالسلام هم الأنبياء، والأنبياء بدرجة أعلى من الصحابة، فخصَّ أئمة أهل البيت بما خُصَّ به الأنبياء والمرسلون وعباده الذين اصطفى والصابرون فنعم عُقبى الدار.
يبدو أنها خيارات لتلوين اللغة وتطويعها حتى تكون خاصةً بهذا الفريق أو ذاك، وليست خاصةً بمجموع المسلمين.
إن إشكالاً آخر سيقع فيه المستمع للتلاوة القرآنية.
فكما أن النبي (ص) هو المشترك للمسلمين كافة وضرورة الخلاف تستدعي وضع إشارة بجانبه، حتى يعرف المتحدث شيعياً أم سنياً، فالمشترك الأعظم والأول للمسلمين هو القرآن.
فإذا تلي على الناس، فقد يضيعُ على المستمع هوية المقرئ وهوية المكان، هل هو في جامع سُني أم شيعي؟ وتدعو ضرورة الخلاف إزالة الإشكال عند مستمع التلاوة.
وقد تم ذلك مؤخراً إذ يعرف القارئ الشيعي عند انتهاء تلاوته بجملة «صدق الله العلي العظيم» بدلاً من «صدق الله العظيم» التي أصبحت سُنيّة.
روزه خون القطيعة!
لعب المنبر الحسيني الدور الشعبي الأوسع تأثيراً في شحذ الوجدان الشيعي وصياغة ذهنية التشيع عند عامة الناس. فأدى وظيفة إعلامية ضخمة يوم لم تظهر بعد وسائل الاتصال والإعلام، وقبل أن يتحول العزاء الحسيني إلى فضائية مرتبطة بالأقمار الصناعية. وكان المصدر الرئيسي لمعلومات القارئ الذي يسمى الروزخون(*)، كما يقول د. علي الوردي، مجلدات بحار الأنوار للملا محمد باقر المجلسي الذي يصفه علي شريعتي، بأنه داعية السلطنة الصفوية ومروّج مشروعها السياسي والروحي.
ويدير الروزخون حديثه على روايات عاطفية ترتكز على قلة العدد وقسوة العدو وخذلان الناصر التي تنتهي عادةً بالفجيعة.
وساهم المنبر الحسيني بخلق وحدة نفسية لدى حاضري المجلس، تتجاوز انتماءات الطبقة والعنصر ومستوى التحصيل العلمي، فيبكي الجميع، وفي المقدمة منهم كاتب السطور الذي تتسارع دموعه في اللحظة التي يتنحنح بها القارئ، قبل النطق بالبسلمة. وهي لحظة شعورية موروثة تستحضر رمم جدي، وعظام أخي. وعباءة أمي، وشجى الصوت بلحن الفاجعة، ويدٌ مقطوعة الإصبع، وعمامة محمدية معلقة بحوافر الخيول، ومن بقي من أحفاد الرسول ورؤوس على الرماح، وبنات النبي سبايا فأين منهن عمر، وقراره الأول في اليوم الأول من ولايته بعد وفاة أبي بكر بمنع سبي العرب وإطلاق نسائهم وإن كانوا من أهل الردة.
وقد قال الإمام الحسين لعبد الله بن عمر الذي طالبه بعدم الذهاب إلى العراق، ومقاتلة الخليفة الأموي في الشام: لو كان أبوك معنا لنصرنا. لكن الروزخون يتعامى عن هذا النص، فيشتط به المجلسي إلى عمر بن الخطاب ليكون هو خصم الحسين وعدوه، فيستقر كلامه في أذهان الأتباع والمريدين والحاضرين، وكأن حقائقه لا ينفيها إلاّ قتلة الإمام الحسين.
وفي تطور متوقع، حدث انعطاف في اتجاهات المنبر الحسيني، الذي اعتلاه مفكرون ومؤرخون وكان رائدهم الشيخ الدكتور أحمد الوائلي خريج جامعة النجف وجامعة القاهرة والفقيه المؤرخ والأديب الشاعر ولم يعد المجلس الحسيني دعوةً للبكاء واستخداماً غير مفيد لأحداث التاريخ.
تشريع قانون لسب عمر:
وفي المنهج الصفوي، يجوز لفقيه صغير الخروج على مرجع اكبر، وتفنيد رأي له أو خبر، إذا تعلق الأمر بنفي فضيلة وإبطال رواية تورط المرجع بذكرها والمستفاد منها (أبناء العامة)، وسيكون الجمهور مع الفقيه الصغير ضد المرجع الكبير.
وهذا ما حدث مؤخراً للمفكر والمرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله، الذي شكك في رواية هجوم عمر على بيت الإمام علي وكسر ضلع الزهراء.
إن الشيخ محمد جميل حمود يكتب في هذا التأسيس القديم، فيقول: "لاكبار ولا سلاطين ولا فقهاء أمام تراب أقدام آل محمد ". ولم يكن هؤلاء الكبار والسلاطين والفقهاء في حقيقة الأمر إلا من مريدي هذا التراب الطاهر، لكن الشيخ حمود كان بصدد إبطال رواية تحدثت عن حصول زواج عمر من بنت الإمام علي بن أبي طالب.
إن وحدة القياس في المنهج الصفوي تتصل عند فحص الرواية بمدى قوتها لإحداث نوع من الانشقاق، وقدرتها على ترويع الطرف الإسلامي الآخر. وعندما يقول الإمام جعفر الصادق: " إننا نبرأ إلى الله ممن يسب أبا بكر وعمر" فهي رواية غير معترف بها، وليس فيها رشاد لأنها مما يوافق العامة.
وكان الشاه الصفوي قد وجه مبعوثين إلى فقهاء النجف وجبل عامل للالتحاق به، وأرسل الهدايا الثمينة، فاستجاب لدعوته الشيخ علي الكركي، وهو من أهالي قرية (كرك نوح) في بعلبك بلبنان، وكان عند استدعائه يسكن النجف، ورفضها فقيه آخر كان يقيم معه في النجف، ويناظره في المرتبة العلمية، وهو الشيخ إبراهيم القطيفي- من أهالي القطيف والإحساء – ورفض هدية الشاه، وحرم على الشاه أخذ الخراج من الناس واعتبره غصباً.
يقول على الوردي: إن الشيخ على الكركي أفرط في تأييد مستحدثات الدولة الصفوية، بحيث وافق على أمور لا يجوز في الشرع الموافقة عليها كلها أو بعضها – ولعل هذا هو الذي جعل الخصوم – خصوم الاتجاه الصفوي – يطلقون على الكركي لقب مخترع الشيعة.
ومن مخترعاته، رسالة فقهية قدمت المسوغات الشرعية لسب عمر بن الخطاب وأبي بكر، بعنوان نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت.. ولم يكن الجبت والطاغوت في عرفه سوى عمر بن الخطاب.
إن الجدال الشديد الذي نشب بين الكركي والقطيفي أدى إلى انقسام علماء الشيعة في حينه إلى فريقين متنازعين، ولكن هذا الانقسام لم يدم طويلاً حتى انتهى بانتصار الكركي وأتباعه كما يقول الوردي وليس من الصعب اكتشاف السبب الذي أدى إلى هذا الانتصار، وهو متوقع وينسجم مع طبيعة الحياة الاجتماعية، فالدولة بما لديها من أموال ومناصب مغرية قادرة أن تقوي جانب العلماء الذين يؤيدونها وتضعف جانب الذين يعارضونها.
ولم تتراجع السيادة الصفوية وسيطرة مناهجها، على اتجاهات البحث العلمي وقواعد الاحتجاج التاريخي، منذ ذلك الوقت من عام 1530 إلى أيامنا هذه، ولم يعد منهج الشيخ إبراهيم القطيفي معروفاً في تلك الأوساط.
وكان عمر بن الخطاب ضحية هذا الانتصار المؤسف، ولاينبغي إغلاق هذا الملف قبل الإشادة بدور الإمام السيد محسن الأمين العاملي، الذي كانت موسوعته أعيان الشيعة وكتاباته الأخرى المصدر المعتمد في تسجيل تلك الأحداث ومنه أخذ الدكتور علي الوردي المعلومات الخاصة بذلك الصراع.
المجلسي رائداً:
يقول علي الوردي في كتابه لمحات اجتماعية من تاريخ العراق – الجزء الأول:
إن الملا محمد باقر المجلسي الذي توفي في عام 1699 كان شديد التعصب لعقيدته، وقد أغرى الدولة باضطهاد جميع المخالفين، الذين كانوا موجودين في داخل الحدود الإيرانية، وقد أوقف الشاه الصفوي بعض أملاكه الخاصة في سبيل نسخ كتابه بحار الأنوار، الذي يقع في (25) جزء وتوفيره للطلبة.
ويُعد (بحار الأنوار) أضخم كتاب لدى الشيعة، وفي رأي بعض الباحثين والكلام للوردي أن المجلسي أساء للتشيع بهذا الكتاب أكثر مما نفعه، فهو قد جمع فيه كل ما عثر عليه من الأخبار والقصص والأساطير، لا فرق بين الغث والسمين منها، ثم وضعها في متناول كل من يريد الاغتراف منها، وجاء بعدئذ قرّاء التعزية وخطباء المنابر فصاروا يأخذون منه ما يروق لهم وبذا ملأوا أذهان الناس بالغلو والخرافة وجعلوهم يحلقون في عالم من الأوهام. وقد تبنت الدولة القاجارية هي الأخرى هذا الكتاب، فكان أول المؤلفات التي طبعت بعد دخول المطبعة الحجرية في إيران، وقد وردت إلى العراق منه نسخ كثيرة مما أدى إلى انتشار معلوماته الغثة في أوساط الشعب العراقي على منوال ما حدث في إيران.
ولك أن تختزل خمسين كتاباً صدر لجماعة " المستبصرين " بكونها استنسخت الكثير من تلك المعلومات في الكتب التي صدرت لهؤلاء المتحولين.
وكان الإمام الخميني قد أوقف طباعة أجزاء من موسوعة البحار حرصاً على وحدة المسلمين، وحفظ الأجيال الجديدة من تسرب تلك المعلومات اليها.
والمجلسي متخصص في روايات التشهير بعمر بن الخطاب، حيث يمكن ردّ ما يتداوله الإعلاميون والمتعلمون والمتحدثون وبعض الفقهاء من معلومات حول عمر إلى مصادر المجلسي.
ويشترك مع المجلسي مؤرخ موسوعي آخر هو السيد البروجردي الكاظميني في كتابه جواهر الولاية.
يقول علي شريعتي في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي، إن المجلسي، وهو أبرز وجوه التشيع الصفوي، يرسم للإمام السجاد صورة أعتقد أن أعداء آل علي الذين نصبوا لهم السيف يخجلون من نسبتها إليه. فإن العزة والوقار والهيبة واليها صفات معروفة لبني هاشم لاتنكرها حتى الجاهلية، وإن المجلسي ينقل أخباراً مثيرة للغثيان!.
إن علي شريعتي يشك في علمية المجلسي، ويسخر من رواياته ويقدم نموذجاً لها قصة زواج الإمام الحسين من ابنة كسرى يزدجرد.
إفحام الفحول: الشيخ محمد جميل حمود
توشجت العلاقات بين عمر والإمام علي بعد وفاة أبي بكر، واستمرت في التلاحم والتفاهم إلى الحد الذي يدفعنا لجعل ولاية عمر بن الخطاب حكماً مشتركاً مع الإمام علي.
وكان عمر حريصاً على تطور وتطوير تلك العلاقة، فلم يحدث بينهما ما يعكرها إلا في مخيلة رواة القطيعة ومن يتلذذ ويستأنس العيش في تخوم الخلاف.
كان عمر يسعى لأن يرحل عن الدنيا وله نسب وسبب مع رسول الله، إذ لم يوفق الله ابنته حفصة زوجة النبي (ص) ”بالانجاب وحديثه كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي يغري عمر وبقية الصحابة في مصاهرة بني هاشم، ولم يكن للرسول إلا فاطمة، ولم يكن للزهراء سوى بنت غير متزوجة أم كلثوم، وهي آخر حفيدة لرسول الله، وأم كلثوم كانت ماتزال يافعة، وقد اختلف في عمرها عند طلب عمر الزواج منها كما اختلف في عمر عائشة في سنة زواجها بالرسول (ص)، وأنجبت أم كلثوم لعمر ابنا اسماه زيداً تيمناً باسم أحب أشقائه إليه زيد بن الخطاب. غير أن العاملين في مدرسة الانشقاق قد ساءهم أن يكون لعلي وعمر حفيد مشترك وأن يصبح مقام أم كلثوم عند عمر كمقام عائشة عند النبي (ص) حباً ودلالاً ومصاهرة.
إن روايات أهل البيت لم تنف حصول الزواج، فكيف يتصرف منهج القطيعة مع خبر مرفوع عن الأئمة؟.
هنا يتدخل منطق الانشقاق فتقحم روايات، إما باعتبار الزواج اغتصاباً أو تهديداً أو أنه لم يحصل أساسا، وأن الله بعث إلى عمر كما يقول المجلسي في (بحار الأنوار) جنية تشبهها فيما تم إخفاء أم كلثوم عن الأنظار حتى وفاة عمر.
حول هذه القضية، كتب العلامة اللبناني الشيخ محمد جميل حمود رسالة بعنوان (افحام الفحول) في شبهة تزويج عمر بأم كلثوم صدرت عن مركز الفكر في بيروت عام 2003، ونفذت طبعتها الأولى في عشرين يوماً والتي بين أيدينا هي الطبعة الثانية الصادرة في العام نفسه.
ولأن خبر الزواج، متواتر عند أهل البيت، فقد استعان الشيخ حمود بمقولة ابن حنظلة، وقد توفر له خبر بنفي حصول الزواج، وباعتبار أن أهل السنة ممن يوافقهم خبر الزواج لا نفيه واستناداً إلى الخبر المنسوب إلى الإمام الصادق (إذ ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما خالف القوم) فقد أخذ الشيخ بخبر عدم حصول الزواج.
ولإيجاد مسوغ آخر لمناقشة خبر حصول الزواج، أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل جنية من أهل نجران يهودية يقال لها سحيقة بنت جريرة فأمرها فتمثلت بمثال أم كلثوم، وحجبت الأبصار عن أم كلثوم، وبعث بها إلى عمر، فلم تزل عنده حتى أنه استراب بها يوماً، فقال: ما في الأرض أهل بيت أسحر من بني هاشم.
ثم أراد أن يظهر ذلك للناس، فقتل وانصرفت الجنية إلى نجران، واظهر أمير المؤمنين الإمام علي أم كلثوم.
ويقول الشيخ المجلسي: إن هذا لايدل على وقوع تزويج أم كلثوم (رض) من (الملعون المنافق)، وكان فقيه عراقي معاصر هو السيد علي الميلاني قد استنكر هذا الخبر لأنه يشتمل على ما لا يصدقه الناس فهوجم السيد الميلاني لصالح الشيخ محمد باقر المجلسي وجماعته.
ويروي الشيخ حمود ما تسمى حسنة زرارة، إذ ينسب للإمام الصادق قوله بما يشير إلى حصول الغصب في الزواج واجلالاً لمقام الإمام أحجمنا عن إيراد نص الخبر لما يتضمنه من إساءة بالغة للإمام ومقام الإمامة.
أبو لؤلؤة رضي الله عنه
يقول الشيخ محمد جميل حمود: إن عمر بن الخطاب هدد الإمام علي بقطع يده بعد اتهامه بالسرقة إن لم يوافق على تزويجه من أم كلثوم، وينسب كلامه هذا إلى رواة ثقاة في مدرسة أهل البيت وأن عمر كان يسعى لاهانة الإمام علي باهانة عرضه وتحقيره وتوهينه بالدوس على كرامته، وهو أي الإمام علي مكتوف الأيدي تكبله وصية رسول الله بعدم جهاد عصابة النفاق. ولأنه أي عمر ماكر خبيث، فإن إصراره على الزواج كان يخفي وراءه حقداً دفيناً على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. من هنا ارتأى أن يقهر كرامته بوطء عرضه الغالي والمقدس، لكن يد الغيب الطاهرة كانت له بالمرصاد فكانت طعنات نافذة من أبي لؤلؤة (رض) فأودت بحياة من أراد التطاول على شرف المرتضى قبل أن يتمكن من أن يتبع خطوته الأولى بأي خطوة أخرى.
ويستكمل صاحب إفحام الفحول مناقشته لنفي زواج عمر من أم كلثوم أن الإمام علي قد وكلّ العباس عم النبي (ص) بمهمة قتل عمر إن أصّر على الزواج، كما أنه من المقطوع به أن الإمام علي كان يعلم بدنو قتل عمر بواسطة أبي لؤلؤة إن لم يكن قتله إيماء منه. وكل هذه الاحتمالات صحيحة.
إن كتاب إفحام الفحول هو النموذج الأخير المتكامل الجوانب للمنهج االذي لا يتأخر عن جعل الإمام علي كما يقول صاحب الكتاب ذليلاً ومهاناً بل ومهدداً بقطع يده، كما لو كان طفلاً يتلاعب بمشيئة خاطف متمرس بالقتل ، مقابل أن لا يتحدث التاريخ عن وشيجة إنسانية وشرعية بين اثنين من الصحابة المحمديين، ويستخدم خبراً على لسان الإمام الصادق تستنكف من تدوينه مجلات الجنس المشاعة في بيروت، لكن ما لم يكن في بال عربي ومسلم ومستشرق ومؤرخ وقارئ سيرة أن يردف أحد القتلة بعبارة رضي الله عنه الخاصة بالصحابة الأوائل والأولياء الأطهار.
ولكي يبعد هذا المنهج علياً عن عمر بنفي حصول الزواج، يقدم الشيخ حمود شهادة مكتوبة ضد الإمام علي بن أبي طالب بأنه هو الذي أوصى لأبي لؤلؤة بقتل عمر، وهو ما لم تقله منابر التشهير السبعين ألفاً التي نشرها الأمويون لشتم الإمام علي والطعن به.
موقف الدولة الإيرانية حالياً:
حملت كتاب افحام الفحول إلى مسؤول كبير جداً في الجمهورية الإسلامية الإيرانية وفقيه من مساعدي السيد الإمام الخامنئي. وأشرت إلى مسؤولية الجمهورية الإسلامية عن صدور مثل هذه الكتب والمواقف، التي توسع الفجوة بينها وبين المسلمين، واستغربت أن يترضى عالم دين مسلم على قاتل مثل أبي لؤلؤة وهو مجوسي، واقترحت أن يوصل رأيي هذا إلى سماحة الإمام الخامئني، ودعوت إلى تشكيل هيئة شيعية عليا لفحص المطبوعات التاريخية، أسوة بما هو موجود في الأزهر الشريف، صوناً لكرامة الأئمة واحتراماً لتاريخ الإسلام وحفظاً لوحدة المسلمين، وكانت المفاجأة بعد أن أصغى إليّ الرجل باهتمام قوله: إنَّ هناك روايات متوفرة لدى رواة أهل البيت أن الذي قتل في المدينة بعد مقتل عمر هو ليس أبا لؤلؤة، الذي تمكن من الهرب والوصول إلى إيران وسألته: وهل هذا يعني أن ما يقال عن وجود قبر يزار لأبي لؤلؤة في إيران صحيح، وهو عندي من المدسوس على الإيرانيين؟. قال المسؤول الفقيه: نعم.
السيد كاظم القزويني: الإمام علي جليس البيت
ليس من الصعوبة أن نعثر على مكان وجود الإمام علي في الفترة التي غيّب عنها في مصادر القطيعة.
يُجيبنا العلاّمة الخطيب السيد محمد كاظم القزويني على هذا التساؤل في كتابه الرائج (الإمام علي من المهد إلى اللحد) منشورات مؤسسة النور بيروت 1993 / قائلاً وقد وضع عنواناً لفصل من كتابه هو: الإمام علي (ع) جليس البيت: جاء فيه (حديثنا الليلة حول الفترة التي انقضت على أمير المؤمنين (ع) وهو جليس البيت، مسلوب الإمكانيات، وقد ابتدأت تلك الفترة من يوم وفاة رسول الله (ص) واستيلاء أبي بكر على مسند الحكم, ولمّا انقضت أيام أبي بكر، أوصى من بعده إلى عمر بن الخطاب وكانت أيام حكمه عشر سنوات وشهوراً، ولمّا طعن وأحسّ بالوفاة, جعل الخلافة شورى ورشح ستةً من الصحابة وأمرهم أن ينتخبوا واحداً من أنفسهم)ـ.
انتهى نص العلامة القزويني فشرع يروي أحداث الشورى، حيث ظهر فيها الإمام علي لأول مرة على مسرح الحياة السياسية بعد أن أمضى ما يقارب ثلاثة عشر عاماً جليسَ البيت مسلوب الإمكانيات.
إن جوابي على جواب العلامة محمد كاظم القزويني، سيظهر عليه شيء من ميول الانحياز الكبير للإمام علي مما لا أستطيع السيطرة عليه في حالةٍ تعتريني كلما صدمتني رواية وصفعني مشهد يزكم النفس، فتتضرى عبارتي وتتوحش آدابي ومن سيمنع عني ذلك، وأنا العلوي المحب لبني قومي، وأهلي الذاب عنهم كيد خصومهم ومحبيهم فأرى إمامي الأول في معتكف الاختيار، وأبو بكر يؤدب المرتدين ويعيدهم إلى حيازة المدينة، وعمر يصول بين جرجان وطبرستان ويجولُ في إيلياء وفي بيت ماله مرصعات التيجان؟.
كيف أسكت عن رواية تحجر الإمام جليس بيت مسلوب الإمكانيات، في أخطر مرحلة تأسيسية في تاريخ الإسلام، معزولاً عن المشاركة في الجهاد، تاركاً لغيره لواءه، فتدخل جيوش الفتح إلى العراق، وتقيم البصرة والكوفة وتدخل الشام وتفتح أبواب الإسكندرية، وبيد عمر مفاتيح بيت المقدس، وتشاد الفسطاط والمسلمون في سواحل بحر قزوين، فتقام على ظاهر الشرق دولةٌ عظمى، وإمام المسلمين الأول جليسَ البيت مسلوب الإمكانيات، فيتحول المعصوم إلى معتصم في عقر داره، ولم يحاول السيد القزويني أن يكسر هذا الاعتصام ليُطلّ عليه لعل خبراً يأتينا من داخل معتصمهِ.
إن لوحة الإمام علي في خطاب القطيعة هي دائماً هكذا... رجل منكسر ونفس محطمة، مسلوب الإمكانيات، لا يدافع عن نفسه ولا يدفع عنه شر خصومه مدةَ ثلاثة عشر عاماً. ويتكرر مشهده كلما رغب صانع الخطاب باستخراج قيح الكراهية والبغضاء بين أبي بكر وعمر فيجرده من عناصر القوة للاستدلال على رواية يخرج الفقيه منها رابحاً جمهوره المخدوع وإن خسر الإمام.
و إذا كان الناتج السلبي حاصلاً عن كون هذا الخطاب محسوباً في باب الغلو فهو ليس غلواً في حب الإمام، وقد كثر هذا الميل عند المسلمين وتوزع على كافة المذاهب والمدارس، وإنما يركز المنهج على الغلو في الكراهية.
إنه لا يغلو في حب الإمام علي كما يغلو في بغض عمر وكراهية الصحابة، ولا بأس عنده وهو مخمور بروح الكيد أن تكون الرواية والرأي اللذان يستدل بهما مسيئين للإمام علي، كما يحصل في كتاب السيد محمد كاظم القزويني وفي كتب أخرى تعبيراً عن هذا المنهج.
وستُعرض علينا لوحات يؤخذ فيها الفارس، الذي لم يخسر معركةً مكتوف اليدين مسلوب الحركة ليرغم على بيعة أو أن عمر بن الخطاب يغتصب بالقوة ابنته الصغرى من فاطمة ليتزوج منها.
وكمحب لأهل البيت ومريد للإمام علي الذي يتعرض تاريخه للتشويه، أناشد السيد الإمام علي الخامنئي من موقعه، أن يؤسس هيئةً علميةً عُليا للنظر في صلاحية الكتاب المتعلق بأهل البيت، وبتاريخ الإسلام عامةً، أسوةً بما عليه مشيخة الأزهر الشريف، وأسوةً بالخطاب الرسمي في المؤسسات الإيرانية الرسمية، التي تمنع الإساءة والتشهير وما يمس وحدة المسلمين.
وإذ لا نطوي صفحة الإخفاء غير النزيه لهذا المقطع الأساسي من تاريخ نشوء الدولة الإسلامية والإسلام، نطل على صفحة أخرى من الكيد والإهمال والإغفال لعلي بن أبي طالب في روايات وكتب ودراسات تنشر في هذه المدرسة أو تلك. إذ يصدم المتابع أن بعض المصادر تتحدث في قضايا تمس مصائر الأمة، وأحداث ساخنة، فلا ترى فيها الإمام علياً حاضراًَ، وإذا ماحضر، فليس لك أن ترى اسمه إلاّ بمكبرة الحروف.
إن مساحة المدينة وتعدادها السكاني يجعلان من غير المعقول غياب شخصية بحجم علي بن أبي طالب عن أحداث التاريخ.
ففي وفاة أبي بكر استشار الخليفة عدداً من الصحابة لم يظهر علي بينهم، والخليفة يحتضر، ويستشير في لحظة مصيرية تتعلق بإمامة المسلمين.
تقول تلك المصادر: إن أبا بكر دعا عبد الرحمن بن عوف، ثم عثمان بن عفان، ثم أُسيد بن خُضير، ثم سعيد بن زيد، وعدداً من المهاجرين والأنصار.
فإذا كان الإمام علي حاضراّ، فلربما أستعيضَ عن اسم حضوره، بجملة عدد من المهاجرين والأنصار..!!
وكان رأي من استشارهم أبو بكر واحداً في عمر، إلا طلحة بن عبيد الله الخائف من شدته وغلظته.
إن هذه المرويات تكرس أمرين، مثلهما مثل خطباء القطيعة الذين يركزون في كتاباتهم على مقاطعة الإمام لأبي بكر، أو أنها تؤكد للجانب الآخر عدم أهمية الإمام علي عند أبي بكر وفي تلك الحالة فهناك غدرٌ وظلم يلتقيان في مشاهد مُدوّنة عند الفريقين، وهذا يدخل في مذهب التنقيص.
في ذات السياق فإن العلامة الشيخ علي الكوراني أعاد النظر في حقيقة اعتكاف الإمام علي بداره فيما المسلمون يفتحون الأمصار، فيقر بحديث نقلته فضائية الأنوار (الشيعية) يوم 9/9/2006 بأن الإمام علي هو فاتح بلاد فارس وأنه هو الذي أشار على عمر بذلك, وإن معظم تلامذته كانوا في مقدمة جيوش الفتح (انتهى كلام الشيخ الكوراني).
وهذا الكلام خطوة متقدمة قد تعيد للإمام علي دوراً أنكره عليه محبوه والموالون له، وهو اعتراف ضمني وواضح بأن عمر بن الخطاب والإمام علي كانا يشتركان في الكثير من القرارات الاستراتيجية(*).
كسر ضلع الزهراء
يستند شارع القطيعة على رواية لم ينفها كثير من المؤرخين الإسلاميين في توجه عمر بن الخطاب مع جمع من مؤيديه إلى بيت الإمام علي, لأخذ البيعة لأبي بكر في يوم السقيفة، لكنها تختلف في ما حصل عند الباب، وهل تسبب ذلك في كسر ضلع الزهراء وإسقاط جنينها محسن؟
ليس من منهج الكتاب الخوض في روايات الخلاف, والرواية تندرج في هذا السياق. وقد شكك بها بعض الفقهاء الشيعة، وجعلها المؤرخ الشيعي هاشم معروف الحسني واحدة من ثلاث روايات أخرى في تلك الحادثة، وليس من شك عندي أن عمر بن الخطاب قد توجه في ذلك اليوم الخطير إلى بيت الإمام علي، وليس من شك عندي أن فاطمة الزهراء قد أسقطت جنينها بعد وفاة والدها, إنما الشك في ربط هذا بذاك.
إن حركة عمر في هذه الرواية هي أقرب إلى شخصيته وإلى طريقته, لا سيما في لحظة تأسيسية لمشروع الدولة بعد رحيل قائدها ومؤسسها, وأن يتصرف عمر بعنفوانه المعهود, وأن يحدث شيء من الحوار الساخن بينه وبين من كان حاضراً في بيت الإمام ومنهم الزبير بن العوام الذي تقترب شخصيته في بعض جوانبها من عنفوان عمر,وان يكون أحدهما أو كلاهما قد شهر سيفه، فما موقع الزهراء في ذلك الحوار الخطير؟.
لم استسلم بعد إلى زج فاطمة الزهراء في تلك الحادثة، وليس معقولاً ولا لائقاً أن تتحدث الرواية عن إسراعها إلى الباب في تلك اللحظة.
إن المهابة والمكانة والمناسبة اعتبارات تمنع وحيدة النبي أن تقترب من الباب بين أفواج من رجال قريش، ومن وضع الرواية تجاهل حزن الزهراء، على فقد أبيها ووفاتها كمداً عليه في روايات أبعدها زمناً ستة شهور، وتجاهل مهابتها فجعلها واحدة من المتخاصمات في يوم الحزن وأحال إسقاط الجنين إلى مصرع الباب بدلاً من أن يكون بسبب مصرع والدها النبي (ص) مثلاً.
إن وفاة النبي (ص) عند فاطمة الزهراء، كان سيجهضها دون سجال. ولطالما أجهضت نساء لوفاة ابن أو زوج أو أب، فكيف والسيدة هي فاطمة. وكيف والفقيد نبي الله الخاتم، فلماذا يقلل من شأن رحيل النبي(ص) في رواية الإجهاض سوى أن يكون عمر هو المتهم؟.
لم يكن من عادات العرب ردّ المرأة على طارق الباب، وفي البيت رجالٌ آخرون، ولم يكن بيت علي قصراً من تلك القصور العباسية ذات الأبواب والحريم والجواري في العصور التي كتبت فيها الرواية حتى تخرج امرأة لطارق الباب، فهل يعقل أن تترك فاطمة حزنها المقيم وفجيعتها المرّة لكي تفتح الباب أو تخرج إليه؟.
ربما لاحظت الرواية هذا الجانب فاستعانت بالزهراء لتصد مع الرجال هجوم عمر.
وتقول: إن الزهراء توجهت إلى عمر وأخذته من تلابيبه. وهذه فقرة ستكون الزهراء أجلّ وأعلى من أن تنسب إليها ولا نقترب من معالجتها، وإن كان السؤال قائماً. إذ كيف تمكنت الزهراء منه وهو طويل القامة وضخم، فهل أراد صاحب الرواية ومروجها أن الزهراء قفزت عليه؟.
إن الرواية لم تتوقف عند شيء من أنفة الزهراء وعزتها وكبريائها وروحها الاستشهادية، التي سجلت في ألواح الفداء. وكأنها استشهدت طوعاً بعد رحيل النبي. ولم تكن امرأة في بني هاشم، تنافس مكانها ومقامها وفضلها في الزعامة، لو أتيح للمرأة أن تتزعم ولم يحدث لفتاة في ريعانها أن يحدث موت أبيها رد فعل يودي بحياتها، وإذا ما سمحت مناهج الدفاع عن أهل البيت بالإساءة إليهم، إذا تعلق الأمر بالإساءة إلى عمر بن الخطاب، وضعت فاطمة الزهراء على باب الخصومة وأجهضتها وراء الباب، فمرويات أخرى في مناهج القطيعة تأخذ بالزهراء مع الإمام علي إلى أقل من ذلك. وتستشهد كتب القطيعة وآخرها كتاب (المواجهة مع رسول الله) للمحامي الأردني أحمد حسين يعقوب المتحول للتشيع، إذ يكرس رواية لصاحب كتاب (الإمامة والسياسة) أن علياً حمل فاطمة على حمار، وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار، يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار، فكان الأنصار يقولون يا بنت رسول الله. قد مضت بيعتنا لهذا الرجل. ولو أن ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به.
وروي عن معاوية أنه أعاب على الإمام علي حمل قعيدة بيته على حمار، ويداه في يدي الحسن والحسين، يوم بويع أبو بكر، فلم يدع (الإمام علي) أحداً من أهل بدر والسابقين، إلا دعاه إلى نفسه، ومشى إليهم بامرأته (وإدللت إليهم بأبنيك فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة). وقد ورد كلام معاوية هذا في شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد.
وبهذه السهولة يفترى على الإمام علي. وترسم عنه لوحة تقشعر لها الأبدان. وكلتا الروايتين لم تحدثا، فلا علي يسمح لنفسه طارقاً الأبواب في الليل على حمار، ومعه المفجوعة برحيل والدها، وليس لمعاوية أن يستشهد بما لم يكن معروفاً آنذاك.
إن الأتباع يفخرون عادةً بشعبية زعمائهم، وكثرة جمهورهم، لكن روايات القطيعة تجعل الإمام علياً دائماً وحده. وهكذا كان وحدهم جميع الأئمة، فلم يستجب حتى الأنصار لعلي، أما فاطمة في هذه الرواية، فهي المغلوبة الكسيرة التي تسترحم عطف الناس ولا من مجيب.
وإذا كانت في الرواية الأولى، قد سارعت إلى طارق الباب، ففي الرواية الثانية كانت هي التي تطرق الأبواب.
فأين منها الحزن الذي قتلها بعد أشهر؟. وأين الجنين القتيل الذي أجهضه عمر بن الخطاب قبل ساعات؟ وفاطمة في ذات الليلة تركب مع علي حماراً. وتطرق أبواب الأنصار؟.
وتعود ذات الرواية المنسوبة لأبن قتيبة(*) في الإمامة والسياسة، على لسان اليعقوبي، في تاريخه ويضيف ابن قتيبة، أن عمر هدد علياً بالقتل أمام المهاجرين والأنصار. ولم يحركوا ساكناً، ولم ينكر منهم منكر. فأضفت الرواية على الأنصار ما تضفيه الروايات على أهل الكوفة الذين لم ينتصروا للإمام الحسين فيما المتداول التاريخي أن الأنصار كانوا أقرب إلى الإمام من قريش.
التنافس على قصور الكوثرية في الجنة:
كتب الفقيه السيد محمد رضا الهندي، وهو من علماء النجف، قصيدته على زنة الآية الكريمة، إنا أعطيناك الكوثر، وسميت فعلاً بالكوثرية التي هي الآن وبعد أكثر من سبعين عاماً على نشرها مطلوبة ومقروءة ولها شعبية وقدسية.
والسيد محمد رضا الهندي عاش تقياً ورعاً، لكنه أهال المعاصي على نفسه في هذه القصيدة، فأغرقها في خمرة لم يذقها، وكسرها بعود لم يسمعه، ودعا الناس للمعاقرة والمراقصة والمعاشرة، لكي يقول لهم، إن هذه المعاصي والموبقات والكبائر لن تُسألوا عنها إذا ما اعترفتم بولاية الإمام علي، الذي جميع (الخصوم المناوئين) له لن يساووا نعلي خادمه المرحوم قنبر.
وعندما اطلع عليها الفقيه المؤرخ العلامة الأميني صاحب الغدير أشهر موسوعة إمامية رأى في منامه أن قصره في الجنة أصغر من قصر صاحب الكوثرية، فأحتج العلامة الأميني على الموكلين في الجنة، كيف يكون ذلك؟. وكتاب الغدير أحد عشر مجلداً وكان تعبي عليه لمدة عشرين سنة متواصلة؟. فأجابه الموكلون: هكذا كان الحكم الإلهي!.
وعند الصباح، مضى الأميني لزيارة صاحب الكوثرية السيد محمد رضا الهندي، وطلب منه استبدال ثواب القصيدة الكوثرية بثواب كتاب الغدير فرفض السيد الهندي، وقال له: هيهات، هيهات، فإن منامك قد رأيته!.
لكن الشيخ عبد الله نعمة، رئيس المحكمة الجعفرية في لبنان والفقيه المؤرخ المرموق يعدها ويعد قائلها من الغلاة. في كتابه " روح التشيع" الصادر عن دار الفكر في بيروت. ولا أظن الشيخ نعمة، وهو قاض ومؤرخ شيعي كبير، يجهل قائل البيتين اللذين استشهد بهما على الغلو، أو أنه لا يعرف الكوثرية. ولتعزيز موقفه الاستدلالي، استعرض الشيخ نعمة الموقف الشرعي، في روايات للإمام علي زين العابدين، والإمام الصادق، في هذا النص المنقول عن روح التشيع:
" لكن هذه الرؤية قد تحولت لدى بعض العوام الى ذهنية خاطئة، مغرقة في الانحراف، بتأثير الغلاة والمتصوفة، وسرت هذه الذهنية بسوء فهم لبعض تلك الأحاديث، والأخذ بظاهرها، وتفسيرها على غير وجهها. ويقوم هذا الفهم الخاطئ على أن محبة الإمام علي وأهل بيته هي الوسيلة الوحيدة لنيل رضا رب العالمين، وللنجاة يوم الدين، دون حاجة إلى أي عمل صالح، ولا يضر من رزق هذه المحبة والولاء ما يفعله من الموبقات والكبائر، مهما كانت، وانعكس هذا الفهم الخاطئ على قول بعض الغلاة:
كُلّ من والـى عليَّ المرتضـى لا يخـافَنّ عظيـم السـيئات
حبة الأكسـير لـو ذُرّ علـى سيئات الخلق عادت حسـنات
ويبدو أن هذه الذهنية كانت سائدة عند بعضهم منذ القرن الثاني الهجري، فقد جاء في رواية محمد بن مارد: " قلت للإمام الصادق: حديث روي لنا أنك قلت: إذا عرفت الإمام فاعمل ما شئت؟ فقال: قد قلت ذلك، قال: قلت وإن زنوا أو سرقوا أو شربوا الخمر فقال لي: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله، ما أنصفونا أن نكون أخذنا بالعمل ووضع عنهم، إنما قلت: إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير، وكثيره فإنه يقبل منك ".
وأولئك قد اعتمدوا ظاهر بعض الأحاديث دون أن يلقوا بالاً على الأحاديث الأخرى، التي تجعل المقياس لنيل رضا الله والنجاة يوم الحساب هو العمل الصالح، منه قول الإمام الباقر: " لا تنال ولا يتنا إلا بالعمل والورع ".
وقول الإمام علي بن الحسين وهو يخاطب طاووس اليماني وقد رآه يطوف حول الكعبة ويتضرع ويبكي، فقال له: يا ابن رسول الله، ما هذا التضرع والبكاء؟ نحن أولى بهذا، أما أنت فأبوك الحسين وأمك فاطمة وجدك رسول الله، فنظر إليه زين العابدين وقال: " هيهات هيهات ياطاووس، دع عنك حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً. أما سمعت قوله تعالى: ﴿فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون﴾ والله لا ينفعك غداً إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح"
وقول رسول الله:" يا فاطمة ابنة محمد اعملي، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، يا عباس ياعم رسول الله اعمل، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً، ثم اقبل على الناس وقال: أيها الناس، لا يدّعي مدعٍ ولا يتمنى متمنٍ، والذي بعثني بالحق نبياً لا ينجيني إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت، اللهم هل بلغت قالها ثلاثاً ".
إن هذه الأحاديث وغيرها تفسر لنا تلك الأحاديث المطلقة، بأن المقياس الذي ننال به مرضاة الله والنجاة يوم الدين هو العمل الصالح. فالحب والموالاة دون أتباع علي وأهل بيته في أعمالهم وورعهم وطاعتهم، ليس من الحب والموالاة في شيء، والى هذا المعنى يشير الله تبارك وتعالى: ﴿قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾ آل عمران:31
وكان الشيخ محمد هويدي قد حقق وأشرف على طبعة أنيقة من الكوثرية، والشيخ هويدي من فقراء شيوخ التشيع وكادحيهم، فسألته عن حقوق النشر، فاستشهد بالآية الكريمة 23 من سورة الشورى قال تعالى:
﴿قل لا أسألكم عليه أجراً، إلا المودة في القربى ﴾
يقول السيد الهندي:
بََكّر للهو ونيل الصـفـ وِ، فصـفوُ العيـش لمن بكـّر
و اشغل يمناك بصب الكأ س وخـلّ يسـارك للمزهـر
فدمُ العنقود ولحن العـو دِ يعيـدُ الخيـر وينفي الشـر
ويخاطب الإمام علي:
أنّى سـاووك بمن ناووك وهل سـاووا نعـلي قنـبر؟.
وعمر في الكوثرية هو حبتر، أي الثعلب الماكر.
أقول: إذا كانت وحدة القياس، تختبر الناس بمدى كراهيتهم لعمر، فلن يكونوا مؤهلين للقب (محبي أهل البيت)، فوحدة القياس عند أهل البيت ترتبط بمدى قدرة محبيهم على استيعاب منهجهم الإسلامي في الوحدة والتوحيد، وحماية الخط، الذي اقتفاه أهل البيت المحمدي. وعلي شريعتي من منتقدي القصيدة الكوثرية، ويشير إليها بالإشارة إلى مقطع مشهور فيها – سوّدت صحيفة أعمالي ـ فيقول في كتابه التشيع العلوي والتشيع الصفوي:
قانون (يبدل الله سيئاتهم حسنات) تفهمه الصفوية على هذا المنوال:
إن سيئات الإنسان تتبدل يوم القيامة إلى حسنات، وليس أنها تمحى عنه فقط. ومعنى ذلك أن الإنسان يعتبر مغفلاً للغاية إذا لم يسرف في ارتكاب الذنوب، ولم يسود صحيفة أعماله، إذ لن تكون لديه مادة وفيرة صالحة لتبديلها إلى حسنات.
كيف يمكن الاحتيال على الله الذي لايغرب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وإن كل شيء عنده إلا بمقدار، كل ذلك على أساس قرآنه الذي يوجه لوماً للنبي العزيز(ص) لمجرد أنه عبس وجهه في وجه الأعمى الذي زاحمه، وهو عاكف على تبليغ رسالة السماء”.
كيف يغفر ذات الإله عن سيئات الخلق...؟ ولماذا تضع الصفوية أبا الأئمة، وفتى الإسلام وشيخه وشهيده، شفيعاً للسكارى والعصاة ومرتكبي الكبائر؟. أيدخل هذا في غلو الحب، أم في غلو الكراهية، والتعرض للكرامات العلوية السامية؟.
يحدث هذا عندما يسخّر الدين لأهداف العنصر القوي في مزيج ينتهي بسب عمر وخسارة علي.
يظهر من هذا أن في مقابل أي فقيه ومؤرخ على المنهج القطيعة، فقيهاً ومؤرخاً على منهج التشيع العلوي. مما يبطل قول المتقول بتعميم ما يصدر عن الفريق الصفوي، وكأنه لسان التشيع، وأن ما يحكم به وما يرويه مقطوع به عند عموم الشيعة.
إن تقسيم التشيع إلى علوي وصفوي، رغم أنه يستخدم للتشهير الإعلامي بدافع سياسي ضد عامة الشيعة، فإنه يدرأ الأذى عن أهل البيت. ويصد عن محبيهم كيد منهج قد لا ينزل مرتبة عن المراتب الصفوية في رفض الآخر وإلغائه، وقذفه بحمم الفتوى إلى حمم جهنم. فلماذا يتطير بعض الدعاة الشيعة من قسمة لتنزيه أهل التشيع عن الوقوع في العزلة، وهم يخوضون غمرات السياسة اليومية، ويتصارعون على الفضاء وعند أزقة بغداد وفي أحياء كراتشي؟.
أما الكوثرية، فلم تعد ثمنا لقصر العلامة الهندي في الجنة، والذي أثارت ضخامته احتجاج العلامة الأميني على الموكلين لكون قصره هناك دون قصر صاحبها. فهي اليوم موضع افتراق بين منهجين ومدرستين، وكلتاهما تزاحم الأخرى على صدق الانتماء، واستقامة النهج!.
ومن يدريك، فقد يكون قصري في الجنة قد انتهى تشييده في اليوم الذي انتهيت به من تشييد كتابي هذا عن عمر بن الخطاب، مادامت قصور الجنة محجوزة للشعراء والكتاب. وإن كانت مشكلتي أكبر من صاحب الكوثرية، إذ يرفض ابن حنتمة الوقوف على باب الجنة، لأنه يرفض الشفاعة وليس ممن يرشى بكتاب، ولست ممن يرتضي لإمامه الأول أن يقف شفيعاً لأمثالي وإن كنت من أحفاده، يوم يعرف المجرمون بسيماهم.
القطيعة ستحاصر الشيعة العرب
وعلى سعة نفوذها المحكم على المؤسسة الدينية وسيطرتها على الذهن الشعبي، لم يقدر لنظرية القطيعة أن تجد لها صالة أكاديمية ومريدين متنورين في الوسط الشيعي على الأقل في مقاسات النخب النوعية.
إن أكثر الأسـماء بريقاً في العراق وأحياناً في البلدان العربية والإسلامية تنتمي إلى القول بمبدأ المشـاركة والتجـانس بين الإمامة والخلافة في العهد الراشد.
ففي الجانب المشارك تلمع أسماء ريادية لم ينافسها اسم في مدرسة القطيعة، التي تبدو أكاديمياً شبه مهجورة في العراق ليس لغلبة النشاط السني الداعم والمبشر بنظرية المشاركة، بل لعبقريات خرجت من مدن التشيع إلى العالمين العربي والإسلامي برؤية تنويرية رائدة.
فعسى أن نلملم شتاتنا لقيام مدرسة لوحدة المشاركة بأساتذتها وأتباعها وإنتاجها الفكري والإعلامي، وبهذا قد نصون وحدة التاريخ العربي ونصون قبل ذلك حياة المنتمين لمدرسة أهل البيت، ونتسامى من حمأة الكراهية والدماء إلى رحاب السلم الأهلي، لاسيما وأهل التشيع هم الأقلية في محيطهم العربي، ومثل ذلك في عالمهم الإسلامي، بدل المواجهة الإعلامية التي طالما تقود في مرحلة تالية أصحابها إلى سكاكين الذبح.
إن دعاة القطيعة لا يقتصر أداؤهم السلبي على مرحلة في التاريخ الإسلامي فحسب، بل أيضاً على قطيعة اجتماعية وسياسية وحياتية بشكل عام مع مجتمعنا العربي.
ومع ارتفاع وتيرة التحريض في خطاب القطيعة ترتفع إجراءات القطيعة العربية لحاملي هوية التشيع، فيصبح الوسط الشيعي هو المقاطَع والمركون في حجر العزلة.
وإذا كانت نظرية القطيعة قد أقامت في إيران إمبراطوريات كبرى، وساهمت في إيجاد وحدة تقوم على التمذهب القومي، فلأن إيران عالم خاص يعيش في شبه قارة، لها عناصر قوة لا تتوفر لأهل التشيع في بلد آخر. وليس لإيران مجال حيوي غير بلاد فارس، فيما المجال الحيوي للشيعة العرب مفتوح على عالم يمتد من ثراء الخليج وينتهي بثراء المحيطات، وسيحول بين أبنائنا وحق الحياة في امتدادهم العربي، قول أبائهم بنظرية القطيعة مما يدفعني إلى التصريح أن نظرية المشاركة لاتقف عند اندماج الإمام علي مع الدولة والمحيط في التاريخ الإسلامي الأول، وإنما تدعو إلى اندماج بشري وقومي وإنساني واندماج المصالح للمنحدرين من سلالات شيعية مع مجتمعهم العربي، ومن دون ذلك فسيكون عبور شيعي عراقي إلى الخليج كعبور الخليجي السني إلى جنوب العراق في هذه الأيام من أواخر عام 2006. وهكذا يتحد الحرص على المصالحة التاريخية بالحرص على الصلح الاجتماعي مع الماضي والحاضر.
إن كتاب (أصل الشيعة وأصولها) للإمام كاشف الغطاء ومهزلة العقل البشري لعلي الوردي وفصول من تاريخ الإسلام لهادي العلوي وشيء من هذه المحاولة هي جوازات مرور تخترق جدران القطيعة، التي يستفاد منها في إيران لكنها ستضرب مصالح الشيعة العرب أينما ولوّا وجوههم.
وفي منهج الوردي يمكن عرض الملاحظات التالية لعل جيلاً سينتبه إلى أهميتها مثلما استيقظ العراقيون بعد الحرب العراقية – الإيرانية على صوت الوردي وعادوا يستنجدون بمناهجه العلمية.
لقد أشاح الوردي عن التاريخ " ابراده القشب" وتحدث إليه بمثل ماتحدث طه حسين وجهاً إلى وجه، وأتاح ذلك له التحاور الإنساني مع المقدس، ووضع رجاله على طاولات التشريح الاجتماعي العلمي باعتبارهم بشراً، وقد استخرج من تاريخ الصراع المذهبي المرويات المشتركة والخاصة لإبطال القائلين بنظرية القطيعة ليس فقط بين عمر وعلي بل أعطى أمثلة ونصوصاً لفقهاء المذاهب الأربعة وميلهم لأهل البيت، واستل الوردي عمر بن الخطاب بمهارة وعفوية من امويته المخترعة، وعاد به إلى الخط المحمدي فأبطل مطروحات فقهاء الخلاف وأحالها إلى عاملين:
صراع المصالح الخاصة، وعامل يتصل بطبيعة النفس البشرية وتعقيداتها، والتقط الممتع والجاذب من تاريخ الإسلام. فحبب إليه من لم تكنّ لهم مصالح في القطيعة، بينما كان الفقهاء ورجال الدين من أوائل المتطوعين لوضع كتب في الرد عليه، وأبرز من كتب في نقد الوردي آية الله السيد مرتضى العسكري ورضا صادق و عبد المنعم الكاظمي وصالح القزويني.


رجوع


مقالات متعلقة
  • عمر و التشيع . . . ح 1


  • 100% 75% 50% 25% 0%


    مقالات اخرى لــ  حسن العلوي


     
     

    ابحث في الموقع

    Search Help

    بحث عن الكتاب


    انضموا الى قائمتنا البريدية

    الاسم:

    البريد الالكتروني:

     


    دليل الفنانيين التشكيليين

    Powered by IraqiArt.com 


     

     

     
     
     

    Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

     

     

    Developed by
    Ali Zayni