... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قضايا

   
عمر و التشيع . . . ح 8

حسن العلوي

تاريخ النشر       15/10/2007 06:00 AM


التشيّع العلماني على مذهب المصريين
المدرسة المصرية عند العلمانيين العراقيين من أصول شيعية
علي الوردي رائداً
يحدد الدكتور علي الوردي ثنائية الانقسام بفصل موسع من كتابه (مهزلة العقل البشري).على ضوء قوانين علم الاجتماع، وببساطة وعفويّة وبحياد وشجاعة رائدة مما يوجبُ علينا التوقف عن السرد والاستطراد، لنفسح المجال لرؤية الوردي أن تأخذ مداها الكامل، باعتباره أول عالم اجتماع وأديب ينتسب إلى أسرة شيعية فيسخر من المنهج الصفوي ورواياته مثلما ينتقد المنهج الأموي في تفسير التاريخ الإسلامي، والذي يبدو أن علي شريعتي، قد تأثر بمنهج الوردي أو أن الوردي هو الذي أيقظ في روح هذا المفكر عنفوان الاحتجاج والتمرد.
يقول علي الوردي: أصبح النزاع بين الشيعة وأهل السنة في العصور المتأخرة، كأنه نزاع بين علي وعمر.
وصار الناس يطلقون على الشيعة اسم "ربع علي" وعلى أهل السنة " ربع عمر".
وظهر هذا بجلاءٍ في العراق في العهد العثماني يوم كان التنافس شديداً بين الصفويين والعثمانيين.
وانهمك العوام في هذا الموضوع انهماكاً غريباً حتى خيل للناظر أن علياً وعمر كانا في حياتهما متباغضين تباغضاً عنيفاً.
وأخذ المداحون والقصاصون يزيدون في النار لهيباً.
فكان كل فريق منهم يبالغ في تبيان فضائل صاحبه ليكسف بها فضائل خصمه المزعوم.
ومن يدرس الكتب التي تخرجها المطابع في أيامنا هذه حول هذا الموضوع يجد أثر ذلك واضحاً.
ولا يجب أن نضع أصابعنا على ما جاء في هذه الكتب، لكي لا نزيد في الطنبور نغمة جديدة.
ومشكلة العقل البشري أنه إذا ركّز انتباهه على مناقب شخص أو على مثالبه، استطاع أن يأتي منها بشيءٍ كثير.
فهو إذا أحبّ شخصاً استطاع أن يجعل كل أعماله مناقب، وإذا أبغضه حولها إلى مثالب.
وهذا أمر نلاحظه في حياتنا اليومية. فالمحبوب هو فاضل في جميع أعماله وأقواله.
وإذا رأينا منه شيئاً يستوجب المذمة أو اللوم لجأنا إلى منطق التبرير والتسويغ وقلبناه إلى حق لا مراء فيه.
سألني بعض الأجانب عن هذا النزاع بين علي وعمر، ما هو مصدره ومنشؤه؟
وهذا السؤال له أهميته الاجتماعية. فالأجانب حين يقرأون تاريخ الإسلام الأول يجدون الصفاء تاماً بين علي وعمر.
فقد تزوج عمر من ابنة علي، وتولى أصحاب علي الولايات المهمة في عهد عمر.
وكان عمر يستشير علياً في كثير من القضايا ويمدحه، كذلك كان علي يمدح عمر في حياته وبعد مماته كما جاء في نهج البلاغة.
فما هو السبب الذي جعلهما متباعدين بعد موتهما بينما كانا في حياتهما متقاربين تقارباً واضحاً؟
هنا يأتي الافلاطونيون فيحاولون أن يفسروا هذه الظاهرة الاجتماعية العجيبة بمنطقهم البالي العتيق.
يقول فريق منهم: "إن السبب كله راجع إلى الملعون بن الملعون عبد الله بن سبأ، فهو الذي صوّر علياً بصورة المبغض لعمر، وهو الذي هدم الإسلام بهذا التفريق الشائن".
ويأتي الفريق الآخر فيقول: "كلا وألف كلا إن السبب هو عمر نفسه. إذ كان يكره علياً كراهة عميقة ويريد الإضرار به والانتقاص من فضله الذي كان كالشمس في رابعة النهار ".
إن البحوث الاجتماعية تخالف هذين الرأيين معاً. فالرأي الأول تافه لا يعتد به.
فليس من السهل على شخص واحد، مهما كان عبقرياً في دهائه وحيلته، أن يعبث بالإسلام ذلك العبث الهائل، دون أن يصده صاد أو يعاقبه أحد.
أما الرأي الثاني فهو سخيف لا تقره وقائع التاريخ فلو كان عمر يكره علياً كرها شديداً لما تزوج من ابنته ولما ولّى أصحابه في الولايات المهمة.
لا ننكر أنه قد حدث شيء من الخصومة والمنابذة بين علي وعمر بعد وفاة النبي مباشرة، لاسيما في حياة السيدة فاطمة.
وقد أشار إلى ذلك كثير من المؤرخين. ولكن ذلك كان أمراً مؤقتاً انتهى بموت فاطمة كما هو معروف.
حيث يقول بعض الغلاة: إن علياً كان يداري بعمر من باب التقية وأنه رضي بتزويج ابنته منه بعد أن هدده عمر تهديداً شديداً.
وذهب بعضهم إلى القول بأن عمر لم يتزوج ابنة علي بالذات، إنما تزوج امرأة من الجن على صورتها بينما كانت ابنة علي لا تزال في بيت أبيها عذراء.
إن هذه الأقاويل يمكن أن يتحدث العوام بها في المقاهي، ولكنها غير جديرة أن تطرح على بساط البحث العلمي.
الواقع أن علياً وعمر وأبا بكر كانوا من حزب واحد، وهو حزب الثورة المحمدية.
ولهذا وجدناهم يناوئون قريشاً ويفضلون عليها سلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي.
أما ما حدث بينهم من خصومة طفيفة في يوم من الأيام فلا يستوجب أن يكون شعاراً لنزاع اجتماعي عام يقتل الناس فيه ويتلاعنون.
من الحقائق التي يجب أن يفهمها هؤلاء المغفلون: أن عمر وعلياً كانا من حزب واحد واتجاه متقارب.
ولا يستطيع أي مؤرخ أن ينكر أن أصحاب علي أيدوا عمر في خلافته كما أن أصحاب عمر أيدوا علي في خلافته.
فالصحابة الذين اشتهروا بالتشيع لعلي كانوا في عهد عمر عمالاً وقُواداً يأتمرون بأمر الخليفة ويخدمون الإسلام بالتعاون معه.
نخص بالذكر منهم: عمار بن ياسر وسلمان الفارسي والبراء بن عازب وحذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وحجر بن عدى وهاشم المرقال ومالك الأشتر والأحنف بن قيس وعدى بن حاتم الطائي.
وعندما سافر عمر إلى الشام ولّى علياً مكانه في المدينة.
ونجد من الناحية الأخرى أن الذين بايعوا عمر وآزروه في خلافته هم أنفسهم الذين بايعوا علياً بعد ذلك وقاتلوا تحت رايته.
بايع علياً أكثر المهاجرين والأنصار. وهذا أمر لا مجال للشك فيه. وقد صرح علي غير مرة أنه بايعه الذين بايعوا أبا بكر وعمر من قبل. فلم يرد عليه أو يكذب دعواه أحد.
يقول الألوسي: إن ثمانمائة من أصحاب بيعة الرضوان كانوا يقاتلون معاوية تحت راية علي في صفين. وقد قتل منهم ثلاثمائة.
وأصحاب بيعة الرضوان هؤلاء هم نخبة الصحابة وقوام المهاجرين والأنصار.
وقد حدثت بيعة الرضوان في عام الحديبية حيث جدد المهاجرون والأنصار بيعتهم للنبي وعزموا على الموت.
وهم إذن يختلفون عن أولئك الناس الذين دخلوا الإسلام بعد الفتح وكان كثير منهم منافقين، حيث أسلموا رهبة أو رغبة.
إن هذه الوثائق التاريخية الصارخة يجب أن تكون موضع نظر لدى الشيعة وأهل السنة.
وعليهم أن يفهموها قبل أن ينشغلوا بجدلهم العقيم الذي لا طائل وراءه.
ماركسي وعلماني.. ونموذجه عمري !.
وجدت في حياة شقيقي هادي العلوي أكثر من عشرين خصلة مستلهمة من تراث عمر بن الخطاب، عثرت عليها فيما بعد أثناء دراستي له.
أوشك هادي أن يمزق ستائر منزلي في الشام، كما مزق عمر ستائر يزيد بن أبي سفيان يوم قدم إلى الشام.
ورفض هادي أن يركب معي في سيارتي، قائلاً: إن عمر بن الخطاب كان يحرم على نفسه ركوب البرذون، وهي نوع من الحمير والبغال العالية والمدربة والمفضلة عند الأغنياء، وقال: إنها تقابل المرسيدس في أيامنا هذه، ولو كان عمر حياً لما فضل غير السيارات الروسية، ولحرّم امتطاء السيارات الفارهة.
وجاءني مرة طالباً أن أشتري منه كيساً من الرز البسمتي الممتاز الذي اعتاد أن يبعثه صديقه من البحرين فيتقبله على ألا يدخل بيته ويفرض عليّ شراءه بثمنه ما يزيد على (300) كيلو من الرز التايلندي الشعبي، ليوزعه على عوائل عراقية في حي السيدة زينب على أن أقوم أنا بالتوزيع، وهو معي.
وكان يقول للإسلاميين هناك: لماذا لا توزعون بطونكم وتتشبهون بعلي إن كنتم من مدرسة أهل البيت. ولا أقول عمر لبعده وبعدكم عنه؟. وكان يشير بذلك إلى رواية تقول: إن عمر بن الخطاب كان يذهب إلى القصاب الذي يدير (ملحمة) كبيرة تابعة للزبير بن العوام وهي الوحيدة في المدينة، فإذا رأى رجلاً اشترى لحماً يومين متتاليين ضربه بالدرة قائلاً:
ألا طويت بطنك لجارك وابن عمك؟.
وطلب إليّ مرةً أن استنسخ على الآلة الكاتبة نسخاً من تعاليم عمر وتعريفه بأصحاب الكروش كما يسميهم الماركسيون، وهم المبطانون بمصطلح العرب.
أيها الناس إياكم والبطنة عن الطعام فإنها مكسلة عن الصلاة، مفسدة للجسم، مورثة للسقم وعليكم بالقصد في قوتكم، فإنه أدنى من الصلاح.
ويذكر ابن الجوزي كما يقول الصلابي أن عمر رأى رجلاً عظيم البطن، فقال: ما هذا؟ قال: بركة من الله.
فقال عمر: بل عذاب من الله.
وكان الجواهري يستلهم عمر بصب العذاب على تلك الكروش في قصيدته.
(أطبق دجى):
أطبق على هذي الكروش يمُطِّها شـحمٌ مـذاب
وينتقد هادي العلوي موقف أغنياء التشيع ومؤسساتهم الدينية إزاء العراقيين الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، فانتزعت أموالهم ونهبت محلاتهم التجارية، وشرّد الآخرون لأسباب سياسية فتشاركوا العيش في غرف مظلمة في حي السيدة زينب بالشام. وكأنهم دخلوا في سنواتهم إلى عام الرمادة المستمر سوى أنهم رعية بلا راع، وفقراء بلا عمر، وشيعة بلا علي. وكأنه يشـير إلى موائـد عمـر في عام الرمادة، التي اتسعت لعشرة آلاف، فضلاً عن (50) ألفاً يرسل إليهم الطعام في المدينة، فيما عشرات الآلاف من العراقيين لم يجدوا في رمضان مايكسرون به الصوم في ساعة الإفطار. وموائد ممثلي بعض المرجعيات الدينية، لا ترقى إليها سوى موائد الأمويين في عزّ خلافتهم.
وهادي العلوي يطبق على نفسه معتقداته الفكرية، فإذا دوّن نصاً في الزهد سارع إلى الأخذ به في حياته البسيطة، وكان يقرّ بنظرية القدوة. والنموذج المشع والمؤثر في المجتمع. ويعطي لعمر بن الخطاب نصيباً أوفر للنموذج الجاذب وفي أبحاثه النظرية تلتحم السير المحمدية مع بعضها في ثلاثية أبي بكر وعمر وعلي.
يقول في كتابه "خلاصات في السياسة والفكر السياسي في الإسلام":
فهناك نصوص تتحدث عن تفاعل أحادي بين الدولة والمجتمع يترتب عليه تغير متناسب في أخلاقية الشعب باتجاه السياسة الرسمية السائدة. ويحدث التغير من خلال تأثير ميكانيكي يعتمد على فكرة النموذج والقدوة.
وعن ابن الأثير يقول هادي العلوي:
كان الوليد بن عبد الملك صاحب بناء واتخاذ المصانع والضياع، فكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضاً عن البناء. وكان سليمان صاحب طعام ونكاح فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن النكاح والطعام. وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن الخبر: وماوردك الليلة وكم تحفظ من القرآن وكم تصوم من الشهر..؟
يريد ابن الأثير من هذه الحكاية، التي لا تخلو من مبالغة، تأكيد تبعية سلوك الناس للخليفة، بوصفه قدوة لهم. والتبعية هنا مباشرة وبسيطة تتمثل في ملاحظة سلوك الخليفة والاقتداء به عن وعي وقصد. وترجع فكرة القدوة إلى وقت مبكر، وقد نص القرآن على ضرورة الاقتداء بالنبي(ص) كأسوة حسنة للمؤمنين، تبصرهم بأبعاد السلوك المثالي. وهناك تصور مقارب يرد في روايات من عهد عمر.
ففي الطبري: لما جيء بسيف كسرى ومنطقته وزِبرِجه إلى عمر قال: إن قوماً أدوا هذا لذوو أمانة." فعقب علي بن أبي طالب: " إنك عففت فعفت الرعية".
ويتردد رأي في نفس المعنى يقول ابن سعد وابن الجوزي: إن عمر كتب به في جملة وصاياه إلى عماله. وإحدى صيغه تقول:" إن الرعية مؤدية إلى الإمام ما أدى الإمام إلى الله، فإذا رتع الإمام رتعوا " وتصدر هذه الملاحظات عن فكرة القدوة، فرجل الحكم إذا كان نزيهاً لزم الناس – ومنهم المسؤولون الثانويون- جانب العفة. وإذا كان سارقاً فلنا أن نتوقع أن يكون الناس سراقاً مثله (هل يحتاج العربي المعاصر إلى دليل نظري على صحة هذه القاعدة؟).
وهنا ترتد سياسة السلطة على المجتمع، فتكسبه صبغتها الخاصة بها. بهذا المعنى ترد عبارة ينسبها ابن شعبة إلى علي بن أبي طالب تقول:" الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم..".
الخليلي والشرقي والجواهري :
إن حركة التنوير في سلالات التشيع العراقي المعاصر لم تتوقف عند الدكتور علي الوردي الذي ظهرت كتاباته في وقت متقارب مع الإعلان الشيعي الأول الفريد الصادر عن المرجع الكبير محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه (أصل الشيعة وأصولها) في مطلع الخمسينات، حول مبايعة الإمام علي الشيخين والعمل المشترك معهما.
ولو أتيح لباحث أن يتخصص بهذا الحقل لاتسعت أمامه فرص الكتابة لتشمل باحثين وشعراء كجعفر الخليلي والشيخ علي الشرقي والمؤرخ هاشم معروف الحسني، والشيخ عبد الله النعمة ومحسن الأمين العاملي في لبنان.
إن جعفر الخليلي مثلاً وضع موسوعة العتبات المقدسة، وصارت مرجعاً للدراسات الدينية والأكاديمية، لكنه لم يوفق في تعميم نموذجه المستقل في الأوساط الدينية التي كان قريباً منها.
أما الشيخ علي الشرقي، وهو فقيه وكان أستاذاً للجواهري، وابن عمته فلم يقترب من النزاعات الطائفية، وبقي بعيداًَ عن منهج نقد الصحابة، وكان يرى من الأفضل للأجيال القادمة، وللمجتمع الإسلامي المعاصر أن ينأى عن دوران الحديث حول الخلافات التي حصلت في العصور الإسلامية واجترار روايات النزاع قائلاً:
وخل واقعة الجمل
والنحل تعمل للعسل
أرأيت مزرعـــة البصـل ؟دع عنك مروان الحمار
للسع نعمل دائماً
بلـــدي رؤوس كــــله
أما الجواهري، أهم شاعر في تاريخ العرب المعاصر، وهو نجفي من سلالة فقهاء، فقد نأى بنفسه عن تداول لغة النزاع، وتأخذ الحوزات العلمية عليه أنه لم يلتفت مرة خلال ثمانين عاماً من تجربته الشعرية إلى القبب الذهبية حوله فيشير إليها بقصيدة أو بيت أو شطر.
وفي استقرائي الخاص، أنه كان يفضل أي مدينة في العالم على مدينته ومسقط رأسه النجف، مما حداني إلى إثارة هذا الجانب في جلسة تلفزيونية نقلت من بغداد عام 1969، واشترك فيها علامة النحو الكوفي الدكتور مهدي المخزومي، والشاعران شاذل طاقة وشفيق الكمالي، وكاتب السطور بالإضافة إلى مدير الجلسة، إذ قلت:
إن الجواهري نجفي عاق، وعقوقه هي التي أنجبت شاعراً من هذا الطراز. وبشكل عام، فقد تحرر الكتاب القوميون واليساريون الشيعة من عقدة عمر في ميراثهم الطويل، كما تجاوزتها دوائر الصراع، ونأى عنها في وقت مبكر، الزعيم السياسي ورئيس المجمع اللغوي العراقي الشيخ محمد رضا الشبيبي وشقيقه الشاعر محمد باقر الشبيبي والدكتور عبد الرزاق محي الدين، وهم في دائرة التشيع الديني لكنهم لم يقتربوا من تدوين ذلك في كتاب أو مقالة.


من تجارب المشاركة العلوية العمرية
بعد أن انتهى الإمام الخميني من تأسيس جمهوريته العلوية،
وجدنا التجربة العمرية شاخصة.
جمهورية الخميني العلوية والتجربة العمرية
في تاريخ الفقه الشيعي الحديث ينفرد المفكر الفقيه الإيراني شيخ الإسلام محمد حسين النائيني ـ نزيل النجف في العراق ـ برأي خطير، وهو يدلل على مشروعية تولي غير المجتهدين للسلطة الإسلامية، فيقرر، كما يقول المفكر السعودي الشيعي توفيق السيف(*)، ترجيح رأي الولي النوعي، في مجال عمله ومشروعية عمله تبعاً لترجيحاته اذا كان مأذونا في الولاية.
إن الولي النوعي المقصود هنا هو صاحب الكفاءة، الذي يتولى عملا من أعمال الدولة، فيكون صاحب اختصاص فيه. وهذا مشابه لما ذهب إليه قليل من الفقهاء الذين اشترطوا الخبرة النوعية في صاحب الولاية مثل كاشف الغطاء والخميني.
وفي هذا الرأي اعتراف ضمني، وإن لم يُصرح به بصواب نظرية عمر بن الخطاب في اعتماد (غير المجتهدين) ولاة وأمراء ممن يطلق عليهم الشيخ النائيني في رسالته المثيرة: (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) الولي النوعي. ويفهم الدكتور توفيق السيف أن الخبرة النوعية في أمر الولاية مقدمة على الاجتهاد في الفقه بالمعنى المتداول مع الاحتياط ونيل الأذن من الفقيه الأعلى.
أصدر عمر بن الخطاب بعد الإطاحة بالسلالة الكسروية، أمراً أبلغه سعد بن أبي وقاص يستصفي ماكان لآل كسرى، ومن لجّ معهم من الدهاقين والقادة، من أموال، ووجد عمر كما يقول محمود شلبي في كتابه حياة عمر، طبقتين في بلاد فارس، عالية شامخة ظالمة تمتلك كثيراً. وأغلبية مستضعفة لا تمتلك شيئا، فصادر أملاك آل كسرى وأملاك الكبراء والأمراء والدهاقين، فأصبحت تلك الأملاك ملكاً للدولة، لا يجوز التعامل فيه، ولا بيعه، ولاشراؤه، حبساً على منفعة الناس، وكانت تلك من قرارات التأميم المبكرة في تاريخ البشرية، كما اعتبر الأراضي الزراعية المؤممة ملكاً خاصاً للدولة يعمل فيها الفلاحون القدماء أنفسهم، وجعل المنافع العامة من مجاري المياه وسلك البريد ملكاً عاماً أيضاً.
وأقول كشاهد ومراقب لتاريخ الثورة الإسلامية في إيران، إن الخميني طبق هذه الإجراءات عند إطاحته بنظام كسرى بحذافيرها، فصادر ممتلكات الأسرة الكسروية ووزع أراضي الإقطاعيين على الفلاحين، وجعلها أملاكاً للدولة، رغم أن صعوبات واجهته من داخل المؤسسة في المضي بمشروع الثورة الزراعية.
ليس تشابه التجربتين والمرحلتين، وكلتاهما أدت لتحويل بلاد فارس من نظام كسروي إلى نظام إسلامي، مقتصراً على السلوك الخاص والسمات الشخصية كالورع والزهد والتواضع وإنما في تشابه الإجراءات كما أسلفنا.
ونضيف أن الخميني لم يوصِ بدور لابنه في خلافته، وإنما ترك الأمر لمجلس الخبراء، الذي يشبه مجلس الشورى عند عمر، وكما أُبعد عبد الله بن عمر عن دور أساسي في اختيار الخلف، أبعد أحمد الخميني عن دور له حسب وصية والده.
وتوفي عمر، ولم يترك إرثاً لأحد من ابناءه، وهو الذي كانت عليه عائلة الخميني بعد رحيله.
وعلى ما كانت عليه مهابة عمر وعلو مكانته مؤسساً لأول دولة عربية بالخارطة الحالية للوطن العربي، وعلى ما فيه من شجاعة ونفوذ، فقد سمحت بعض قوى العراق ومحلات بغدادية بجعله شخصية كاريكاتورية، ومادة للكوميديا الجاهلية، تغري الصبيان والسوقة بتسخيفه والضحك عليه، سُمح أيضاً، وفي البلد نفسه، لأن يتحول الخميني بتقواه ومهابته وشجاعته وزهده وعزمه، إلى مادة للكوميديا، في مسرحيات يشترك فيها سقطة القوم بسفسان الكلام.
ولو كان الخميني في دوره هذا فقيهاً عربياً سنياً، وثورته في بلد عربي سني، لنعمت الأمة بعصر جديد من العصور المحمدية العلوية، وقد أحال بينه وبين هذا الحلم أنه إيراني، والمنطقة عربية، وشيعي والمنطقة سنية، ولهذا كنت أكرر القول في نشاطي السياسي والإعلامي، إن حرب النيابة الأمريكية لتحجيم ثورة الخميني لم تكن ضرورية، فهذه الثورة محجمة بالعاملين إياهما، ومحددة الحركة بحدود إيران، وبالحجم السكاني للمسلمين الشيعة في المحيط السني الواسع.
وفي الختام سيكون الاعتراف أو السؤال: بأن الخميني، مادام من أتباع الإمام علي، فلم جعلتم مشترك إجراءاته شبيهاً لسنة عمر ونهجه، ولماذا قد أقحمنا عمر فيها.
فأقول: إن الجواب هو السؤال فحيثما كان الفقيه ملتزما بالسياسة الإسلامية، مقيداً بقيودها، فسيكون صعباً تصنيف اتجاهات الدولة إلى علوية وعمرية، لتوحدهما بتوحد المصدر.
وسيكون في الوقت ذاته، سهلاً على المصنفين أن ينسبوا المنهج السياسي وأسلوب الحكم إلى أي منهما، فيكون محسوباً على الإمام علي أم على عمر بن الخطاب.
وسيكون من باب التوفيق، والإصابة لمنهج الكتاب، وعنوانه، ومضمونه أن العلوي الخالص لوجه الله والمحمدي المتصل بعقيدته هو العمري الخالص لوجه الله المتصل بعقيدته.
وفي سوى ذلك، فالمسلمون على نهج التنقيص، سواء كان المستهدف علياً أم عمر.
إن التركيز على هذا الفصل هو خلاصة هذا المنهج، الذي يأبى المتنقصون من الطرفين أن يطلوا عليه بروح محمدية وبروح الحياد المنهجي.
ولو كان حكام العراق على هذا الفهم، أو لو كانوا عمريين، لحافظوا على إبقاء الخميني في ظاهر الكوفة، يقود المسلمين من العراق كما فعل عمر من قبل، لا أن يطرد إلى بلد غير عربي، وغير مسلم، فتفقد الكوفة دوراً مفصلياً لها، كان يمكن أن يتصل بدورها الأول، وباعتبارها قاهرة الدولة الساسانية.
لم أكن أجهل هذا ونحن في الأيام الأخيرة من صلتنا المشتركة مع صدام حسين، وكان نائباً فسألته هذا السؤال، وكنا على الحدود الإيرانية، لماذا لم ندعم الثورة الإيرانية، وهي تطارد مؤسسات الموساد والمنظمات الماسونية والدعاة الإسرائيليين هناك. فقال بالنص الحرفي: (إن ربعك غشوني) فمن هم ربعي؟.
ربما قصد بهم علماء الحوزة المتواطئين مع السلطة، والذين كانوا يهزؤون من الخميني ونفوذه، أو من المنظمة الحزبية في النجف التي كتبت لصدام حسين شيئاً من هذا القبيل. فلم يتصور أن للخميني هذه القدرة.
وتقضي الصدف، بلغة علمانية، وإرادة الله، بلغة دينية أن تكون مدة ولاية عمر على رأس الدولة تمتد إلى 128 شهراً. وولاية الخميني تمتد إلى 136 شهراً. فيقترب الزمان بالمكان وتتقارب التجارب، ولم يترك سوى شهور قليلة هي بقدر الخلاف في الاجتهاد بين تجربتين عاشتهما إيران في صراعها ضد السلالات الكسروية.
على خطى عمر:
فكما رفض عمر أن تفرش على عباءته في المسجد النبوي تيجان كسرى وصولجانه وخزائن الماس والذهب، رفض الخميني أن يقترب من رؤية هذا العرش المرصع بالماس. وكما فضل عمر بن الخطاب صحن الخزف على الأواني المصنوعة من الذهب والمرصعة باللؤلؤ، فتركها ووزع ثمنها للمستحقين، أو أعادها إلى بيت المال، وجلس على حصيرته في المسجد النبوي، يقضم كسرة الخبز اليابس ويرطِّبُها بقليل من اللبن في صحن الطين، جلس الخميني على حصيره في مصلى جمران ووجبته وجبة عمر، وهي وجبة النبي (ص) يشارك ابنته وزوجها.
أجل إن عاطفتنا تتسع، فتقفز من الذاكرة الملتهبة إلى شبكة العين صورة رسمها الشاعر محمد مهدي الجواهري لأبي العلاء المعري، فخرجت منه، ومن المعري إلى من كانوا ظاهرة في التاريخ البشري، أنبياء بحجم محمد (ص)، وأئمة بحجم علي، وخلفاء بحجم عمر، وفقهاء من طراز الخميني:
على الحصير وكـوز الماء يرفده وذهنـه ورفوف تحمـل الكتبا
أقام بالضجـة الدنيا وأقعـدها شيخ أطل عليها مشفقاً حـدبا
بكى لأوجاع ماضيها وحاضرها وشامَ مسـتقبلاً منها ومرتقبـا
حِّنا على كل مغصوب فضمده وشجَّ من كان أياً كان مغتصبـا
وإذا تجرأنا على نقل ما تحدث وتتحدث به كتب ودراسات لمفكرين إسلاميين من غير المدرسة السلفية، وأخرى علمانية من ضمنها المدرسة المصرية المحايدة، فسنكون في مواجهة فقهية صعبة، وعناوين تتحدث عن اجتهاد عمر بن الخطاب في أكثر من موضع، وهي تسير باتجاهين متعاكسين.
إن طه حسين وعلي الوردي وهادي العلوي مثلاً يشيرون إلى تلك المواضع كأدلة على قدرة عمر على الاجتهاد وقوته على محاورة النص، وفهمه الضرورة بطريقته الخاصة بينما تسعى كتب المذاهب والفرق للتشهير بعمر وطعنه بالخروج على النصوص التي لا اجتهاد فيها.
وشمل اجتهاد عمر منع عطاء المؤلفة قلوبهم. وإمضاء طلاق الثلاث بكلمة واحدة، ونهى عن رواية الحديث، وكان يأبى كتابة السنن ويدرأ الحد بسبب الاضطرار، ويأبى قسمة الأرض في بلاد فارس بين المسلمين الذين فتحوها. وله اجتهاد خاص عزله عن غيره من البلاد.
إن المدرسة المصرية أقرب إلى المعقول والرضا في تفسير اجتهادات عمر، من المدرسة السعودية التي تقلل ماوسعها ذلك من أمر الاجتهاد، وتحصره بما يجعل عمر تابعاً مثل غيره خشية من أن يوصم بالابتداع أو البدعة.
أما المدرسة الصفوية فهي تتلقف اجتهادات عمر، لا للفخر به، كما يفعل المصريون، وإنما للتشهير والتجريح والتدليل على عدم التزامه بنصوص القرآن.
وبالمصطلح المعاصر يصبح عمر بن الخطاب تحريفياً عند هذا الفريق!.
وكان فقهاء التشيع في إيران والعراق قد طعنوا الخميني بالتحريف، ولأن الخلاف في الحوزات الدينية يتخذ طابعاً تشهيرياً، تطرف بعضهم، فصار يطالب بتطهير الكأس التي يشرب ابنه مصطفى، إشارة إلى ارتداده عن الدين فتحاشوا حضور دروسه ومجالسه إلا القليل منهم.
وفي السياق نفسه، واجه الخميني بعد الثورة الإسلامية في إيران، خصومات فقهية لدى أغلبية الفقهاء المحافظين الذين ينكرون عليه إقامة الدولة الإمامية بغياب (الإمام المعصوم)، وهم من يصطلح عليهم بـ (الحجتية)، فضلاً عن عامة فقهاء التشيع الذين لا يأخذون بالولاية المطلقة للفقيه، ويحصرونها بالاحوال الشخصية دون التوسع بها.
إن ولاية الفقيه حسب المنظور الخميني، والتي يتطير من ذكرها الفقهاء شيعة وسنّة، هي الاسم الشيعي الذي استخدمه الخميني بما يعادل مفهوم الخلافة السنية.
فكما الخليفة خليفة رسول الله (ص) بعد رحيله، فولاية الفقيه هي خلافة الإمام الغائب والنيابة عنه. وصلاحيات الولي الفقيه والخليفة واحدة، وهي في الحالتين ليست طرازاً من الدكتاتورية والاستبداد الفردي بأمور المجتمع، وإنما مركز سياسي وفقهي وديني، له حق إرسال الجند إلى الثغور وحمايتها، وجباية أموال الخراج، والصدقة، وما إلى ذلك من الأمور الحسبية.
ومع تمتع الصحابة بحق الاجتهاد، يبقى الرأي الأخير لما يقره الخليفة، وهكذا الأمر في ولاية الفقيه.
وعرف اهتمام عمر بشؤون الرعية، وكان عام المجاعة امتحاناً ربانياً وانسانياً لرؤية عمر على الطبيعة، فجاع مع جوع المدينة، واستحال وهو الخليفة شخصاً من فقرائها لا يأكل ما لا يقدر عليه جياع البدو النازحين ممن ضربهم القحط والجفاف، فشحب لونه، ومال وجهه إلى الجفاف، وبدا عليه ما يبدو على الجياع في مشاهد التاريخ والحاضر فسمي (ابو العيال).
ولا عجب، فهؤلاء هم دفاعه الشعبي ومركز قوته بعد الله.
وعلى هذه الصورة كانت حياة الخميني، وإن لم يمر في إيران عام الرمادة وكان يقول:
إن الحفاة هم أولياء نعمتنا، ولو عملنا لهم العمر بعد العمر فلن نرد لهم الجميل.
إن الحفاة الجياع هم القادرون على منع الطغاة من اعتقالنا وسجننا. ومن يعتمد عليهم بعد الله، فلا يفكر بأنه سيهلك تحت وطأة الطغاة.
وفي خطبته الأولى كرر عمر بن الخطاب مبدأ القوة والتواضع، وفقر الحاكم في ثراء الدولة، وأقسم أن يأخذ الحق من القوي إلى الضعيف.
يقول طه حسين في الفتنة الكبرى:
"إن سنة عمر جرت على أن يسمع من الرعية كل ما يعيبون على ولاتهم، بمشهد من هؤلاء الولاة والعمال، أو من يغيب منهم، وكان يحقق كل ما يرفع إليه من ذلك، تحرياً للعدل وإبراء لذمته أمام الله والناس".
وهذا أسلوب يأخذ به أهل الديمقراطيات الغربية تحت قبة البرلمان، أو في صحف تنبه وتترك التحقيق لمؤسسات القانون، وكان عمر يترك الولاة يعملون فيراقبهم بعيونه وبمؤسسة البريد.
أما الخميني، فيقول المفكر والمرجع الإسلامي محمد حسين فضل الله في كتاب ثورة الفقيه ودولته الذي ساهم كاتب السطور بتدوين فصل مع كتاب آخرين: إنه أي الخميني كان يترك للمسؤولين أن يعيشوا تجربتهم، وكان يراقبها، فإذا أخطأوا في موقف أو كلمة أو ما أشبه ذلك كان ينبههم.
ومن الإيجابيات الكبيرة التي تسجل له أنه كان ينبههم إلى ذلك من خلال الشعب أو في الهواء الطلق، ولم يكن ينبههم في السر، حتى يتعلم الشعب أن لا يعيش المجاملات وأجواء ماوراء الكواليس، بل كان يؤمن بالوضوح. فلما كان واضحاً مع الناس. كان يريد للمسؤولين أن يكونوا واضحين معه. وكان يريد أن يكون واضحاً مع الشعب في تنبيه المسؤولين على أخطائهم.
وفي سياسة التعيينات ينهج الخميني أسلوباً مرّ بمرحلتين فقد أختار في أول الأمر التكنوقراط والليبراليين وأهل الإدارة، وإن لم يكونوا من قدامى الإسلاميين، فاختار الليبرالي مهدي بازركان لرئاسة الوزراء، وبني صدر لرئاسة الجمهورية، وإبراهيم يزدي للخارجية، ففشلت التجربة، فعاد إلى الأدوات الإسلامية من رجال الثورة ليكونوا على رأس قيادات الدولة ومراتبها المتقدمة.
ولعل شجاعته، كما يقول السيد فضل الله، أنه كان يتراجع عما يتبين فشله من خلال التجربة.
لعل السيد محمد حسين فضل الله يشير إلى مبدأ في سياسة الإمام علي يقدم على عدم حجب الأسرار عن الرعية، وكان الإمام علي يفتح لجيشه وأصحابه قلبه، فلا يخفي عليهم شيئاً مما يفكر القيام به، مادام يواجه المتصدين، وهو ما كان عليه عمر بن الخطاب الذي أثار مناقشة القضايا حتى الاستراتيجية منها في جلسات مفتوحة على أرض المسجد النبوي في المدينة.
أقول: لو وضعت هذه الفقرة ونسبت إلى عمر بن الخطاب، أما كانت سليمة، سوى أن تراتب المرحلتين مختلف، فقد بدأ عمر بن الخطاب بإسناد الولايات والإمارات لأصحاب القدم في الإسلام، فعين عمار بن ياسر على الكوفة وسلمان الفارسي على المدائن، ثم اكتشف بالتجربة أنهم لم يكونوا حازمين وحاسمين في ضبط مجتمع يخرج إلى الحياة الجديدة من بين قسوة القحط وعنفوان القبيلة، فاستبدلهم بالتكنوقراط ممن يمتلكون مهارة قريش وتجربتها في الزعامة والإدارة والقيادة. كالمغيرة بن شعبة ويزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، فابتلي عمر على عمره. لتعيينه المتأخرين في الإسلام، مثلما ابتلي الخميني في المدرسة الليبرالية، أنه استبدل أهل الدراية والتجربة بأهل التقوى ودعاة الثورية.
انتقدت مصادر مختلفة أن يزج عمر بجيشه إلى الثغور في ظروف صعبة، مما أوقع في جيشه خسائر بشرية شملت قادة كباراً كالنعمان بن مقرن والمثنى بن حارثة. ومصادر كثيرة انتقدت الخميني، أنه زج بأتباعه لمواجهة غير متكافئة مع قوى الجيش، فمشت الدبابات على أجسادهم.
أما عمر فقد تعهد في وقت مبكر من استلامه المسؤولية للناس أن لا يلقيهم في المهالك ولا يجمرهم في الثغور، لكنها الحرب، فالذين يقتلون هم ليسوا ضحايا سياسيين حصدتهم أجهزة عمر وسلطته. وفي حالة الثورة الخمينية كانت تعاليم الخميني تركز على المواجهة المباشرة بين الشعب الإيراني، وسلطته الكسروية بدلا من طرق ثورية أخرى تستخدم الاغتيال السياسي وتفجير المؤسسات وتفخيخ السيارات.

النطفة التي قتلت عمر
من وراءها ؟... سادة قريش أم عبيدها،
أم ارتداد المدن المفتوحة؟.
الإمام علي يحذر من اغتيال عمر
هل استشرف الإمام علي مصير صاحبه الذي ستقتله بلاد فارس، فحذره قبيل معركة نهاوند عام 21 للهجرة، من التوجه إلى أرض الميدان وقيادة جيش الفتح، وتحصين المدن المفتوحة لمواجهة حركة انتقاض فيها أوشكت أن تهدد مركز الكوفة؟
لقد أصغى عمر بن الخطاب لرأي الإمام، وأخذ به، وأنت أمير العرب وأصل العرب فإذا اقتربت منهم اشتد كَلَبُهم عليك.. وانفرط العقد والنظام! وكأن مسامع الهرمزان الذي كان حاضراً في المسجد النبوي قد اتسعت مرتين لالتقاط الإنذار، ولعله فكر بطريقة أيسر، فإذا لم يذهب “المطلوب” سنذهب إليه، ولماذا نذهب؟ ونحن على بعد ذراعين منه غير محروس، وغير مسلح... وخفق الخنجر المسموم ـ غير خفق الدرة!.
أما عمر فلأنه تخصص باستبطان العرب وقادتهم، فلم يكن يولي أي حَذَر سيأتيه من سبي فارسي أنقذ رأسه من التدحرج تحت قدميه، ولا سيخيفه مولى من عبيد قريش، والحذر المفترض سيتجه إلى سادة قريش، وليس إلى عبيدها!! وقد طغى على سريرته حسن الظن بمن أحسن بهم الظن، فيصرع فاتح العراق، والمدائن، وميديا وخرا سان وبيت المقدس، وبرقة... بخنجر، لم يستطل هامته المديدة، ولا استطال قريباَ من القلب، فأصاب إصابة في النصف الأسفل، وهي الحدود السفلى لمبغى الاغتيال.
النطفة القاتلة
لا نظن باحثاً سيضيف إلى دراما مقتل عمر المحكمة الحلقات بعد أن أغلق عثمان بن عفان ملف الاغتيال بمهارة مشهودة، وأفرج عن عبيد الله بتسديد دية الهرمزان، الذي لم يكن له ولي أمر فصار الخليفة الجديد ولي أمره.
وقاتل عمر بالإجماع التاريخي هو فيروز أبو لؤلؤة المجوسي مولى المغيرة بن شعبة، وأداة القتل خنجر مسموم له نصلان ومقبض من الوسط. وسبب القتل المعلن عدم انتصار عمر له في شكواه من ثقل الضريبة التي يتقاضاها منه المغيرة بن شعبة، والسبب المجمع عليه أن أبا لؤلؤة ثأر لبني قومه الفرس الذين غلبهم عمر وأخذت جيوشه نساءهم أسرى.
تبدو حادثة اغتيال عمر شبيهة باغتيال الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1963، إذ قتل القاتل ولم يعرف خيوط الجريمة بعد نصف قرن وما زال من وراء القاتل مجهولاً.
وفي مقتل عمر لم يجر تحقيق مع شهادة الشاهد عبد الرحمن بن أبي بكر أنه رأى الهرمزان مع جفينة، مولى لسعد بن أبي وقاص، جاء به من العراق وكان نصرانياً مع أبي لؤلؤة ورأى الشاهد خنجراً يسقط على الأرض هو ذاته الذي استخدم في قتل عمر. مما يعده عباس محمود العقاد سيناريو مؤامرة مخطط لها. فثار عبيد الله بن عمر عند سماعه كلام عبد الرحمن بن أبي بكر فقتل الهرمزان وجفينة وبنتاً صغيرة لأبي لؤلؤة.
ووجه الشبه بين اغتيال عمر واغتيال كنيدي ورود رواية في أكثر من مصدر تشير إلى شخص يدعى ذو البرنس العراقي وقد خرج من مكان ما ليضع البرنس فوق أبي لؤلؤة، وكأنه يصطاده كما تصاد السمكة بالشباك، وانتهى الأمر بالقول إن أبا لؤلؤة قتل نفسه لأنه أحس بأنه سيقتل.
يمكن الشك بأن ذا البرنس هو الذي قتل أبا لؤلؤة، أما من يكون هذا فليس لنا من الأدلة ما يساعدنا على كشف هويته، وهناك احتمالان كلاهما يرتبط بمخطط الاغتيال.
إما أن يكون من قريش أو أن يكون مكلفاً من قبل ذات المجموعة الفارسية التي خططت لاغتيال عمر بقتل القاتل.
وفي نظرنا أن حادثة الاغتيال تمتد إلى أبعد مما ذهب إليه الأستاذ العقاد والقائلون بنظريته.
وأغلب الظن عندنا أن اغتيال عمر يرتبط بحركة فارسية مضادة بدأت عام 21 للهجرة، بانتفاضات في نهاوند واصطخر ومناطق أخرى نجح فيها الفرس من إخراج الإدارة العربية، فاضطر عمر بن الخطاب إلى إعادة فتحها، وبقيت مناطق قلقة، ولم يمض على الوجود العربي سوى ثلاثة أعوام في بعض المناطق، وعام في مدن أخرى، وهي مدة غير كافية لتثبيت الاستقرار وقد تركت مدن كثيرة على مجوسيتها مقابل دفع الجزية.
وكان اغتيال عمر، سينعش الحركات المضادة هناك والبدء بانتفاضات لإعادة النظام الكسروي لا سيما وأن أحد أهم أمرائهم وهو الهرمزان موجود قريباً من عمر وهو عقل استراتيجي ومخطط، ولعله هو صاحب فكرة اغتيال عمر بن الخطاب، ولم تكن شهادة عبد الرحمن بن أبي بكر عابرة.
هـل شاركت قريش بقتله؟
يقول بعض الباحثين بمسؤولية قريش المحتملة باغتيال عمر، وقد أثقل عليها وأرهقها وأخذها من حلاقيمها، وما كان غيره قادراً على تطبيع قريش وترويضها.
وهي وجهة نظر فيها كثير مما يغري القارئ الأخذ بها، ومن أهم من أشار إلى مسؤولية قريش الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري) وهادي العلوي في كتابه (الاغتيال في الإسلام).
يقول الوردي:
إن عمر انتهج سياسة خاصة للعطاء حسب منزلة الرجل في الدين وسابقته في الإسلام وجهاده في سبيله، فغضبت قريش لأنها أخر الناس إسلاماً وأقلهم سابقة فيه، وبقيت قريش تكره عمر وتكره خلافته حتى قتل, ويقال أنها هي التي حرضت على قتله.
يقول هادي العلوي متشككاً بدور لقريش في اغتيال عمر، إن خيوط مؤامرة خفية تتجمع في مجمل ما يروى في قصة اغتيال عمر قد تكون حيكت من خارج المجموعة الفارسية الصغيرة التي اتهمت بالتواطؤ مع القاتل.
ولعل عبيد الله بن عمر كان مطلعاًَ، أو على الأقل متحسساً بملابسات من هذا القبيل حين هدد بقتل آخرين قال إنهم اشتركوا في الجريمة، إذ صح ما نقله الطبري.
وقد حال الإسراع بالقبض عليه دون تنفيذ تهديداته، وبالتالي أدى إلى كتمان أسماء كان يمكن أن تظهر للعلن مع لمعان سيف الولد الموتور..
ولكن لماذا لم يتفوه عبيد الله بذكر هذه الأسماء بعد أن قبض عليه.؟ هنا قد نجد أنفسنا أمام سر آخر يتعين علينا كي نستشفه أن نعرف من كان يقصدهم عبيد الله بالتهديد.
وهم في حالتنا هذه أحد ثلاثة: قريش أو أنصار علي بن أبي طالب، أو ورثة وأعوان سعد بن عبادة. وكان هؤلاء الثلاثة قد استقطبوا في جبهتين متخاصمتين ستخوضان حرباً أهلية بعد قليل، تضم الأولى قريشاً وتضم الثانية الفريقين الآخرين. وقريش هي التي استلمت الخلافة في شخص عثمان، وهي التي احتجزت عبيد الله وتحكمت فيه.
وبالتالي فلو أنه كان يقصد بتهديده الفريق الآخر، فقد كان من مصلحتها أن لا يسكت لكنه وقد سكت لا بد أن يكون المقصود بالتهديد رجال من قريش وبالطبع فإن قريش، الحاكمة، تملك القدرة على إسكاته.
وثمة عامل هام يفترض أنه أثر على موقف عبيد الله وهو مطالبة علي بن أبي طالب بإعدامه لقتله الهرمزان، وكان علي يصدر في هذه المطالبة عن موقف شرعي بحت.
وعلي معروف بعدم مرونته في هذا الجانب، وقد لج في مطالبة عثمان بعد استخلافه بإعدام عبيد الله إلى أن حسم عثمان القضية بتخريج قانوني قال فيه إنه، أي عثمان، ولي الهرمزان لأن الهرمزان لا ولي له (يقصد ليس له أقرباء يطالبون بدمه، وفي هذه الحالة يكون الخليفة هو الولي) وإنه بالتالي قد تنازل عن دمه وقرر العفو عن قاتله.
وهكذا وجد عبيد الله نفسه في حماية قريش والأمويين بالأخص فكان من الطبيعي أن ينحاز إليهم ويعتبر قضية والده منتهية إلى هذا الحد.
لا مجال مع ذلك لأي قدر من الجزم بنتيجة قاطعة. وإن كنت لألمح من الضجيج الذي أثاره القدماء والمتأخرون من رواة التاريخ حول هذه “الجريمة الفارسية” دوراً في التميع والتستر رأينا له منذ عشرين سنة مثالاً في تقرير لجنة وارن الأمريكية حول ملابسات اغتيال جون كنيدي رئيس الولايات المتحدة، الذي دخلت سياسته في تعارض الفئات الأكثر تطرفاً في قيادة الإمبريالية الأميركية.
ومعروف أن هذا التقرير لم يفعل رغم لغته القانونية المحكمة أكثر من إلقاء ضوء أسود على الأسماء التي وقفت وراء القاتل الفرد إوز والد.
وبقدر ما بقي الكشف عن قتلة كندي الأصليين شبه متعذر قد يكون بقي كذلك بالنسبة لقتلة الخليفة الثاني للمسلمين... على أننا لنملك حق البت في الحقيقة التالية، وهي أن مقتل عمر قد استجاب لمصالح اجتماعية إن لم تكن هي التي دبرت قتله، فإنها كانت المستفيد الأوحد من هذه العملية، وأنه ليبدو لنا الآن دون أن نجد حافزاً إضافياً لمواصلة الطخ على أبي لؤلؤة المجوسي، أن الفاتح العظيم قد ذهب ضحية ـ محتومة ـ لتلك المفارقة الكبرى (التي تكررت أيضاُ في خلافة علي بن أبي طالب، وانتهت إلى المصير المماثل الذي سنقصه بعد قليل) بين سياسة تقوم على الفتوحات ـ أي بناء إمبراطورية ـ وتسعى في الوقت نفسه لإقامة نظام داخلي في توزيع المنهوبات يقوم على التساوي بل ويسعى لمصادرة أموال الأغنياء (قادة الفتح ومؤسسي الإمبراطورية) وتوزيعها على الجنود...
إن من يفكر في المساواة، وفي أي إطار كانت، لا يستطيع أن يبني إمبراطورية، ولا شك أيضاً أن من يبني إمبراطورية لا يسعه أن يسلك سلوك عمر.
لقد خلق عمر بهذه السياسة المزدوجة تناقضاً لم يكن ممكناً حله إلا باستخلاف عثمان بن عفان ، وهو الخيار الوحيد الذي أمكن معه لتاريخ الإسلام أن يأخذ مساره اللاحق، ولم يكن خنجر أبو لؤلؤة غير الرافعة التي اختارتها المسيرة لإزاحة عقبة ناشزة في مجراها.
الشيعة وحادثة الاغتيال:
ينحدر علي الوردي وهادي العلوي من أسر شيعية رغم علمانيتهما، لكن الاستشهاد بهما لا يصلح اعتباره موقفاً شيعياً. إن الموقف الشيعي يخضع هو الآخر لانقسام المؤرخين بين القطيعة والمشاركة.
وطبيعي أن يكون دعاة المشاركين ميالين إلى الرواية المصادق عليها في التاريخ الإسلامي العام، والتي أخذ بها محمد حسين هيكل في كتابه (الفاروق) والعقاد في عبقرية عمر والوردي والعلوي.
وينزلق دعاة القطيعة بمرويات شاذة، لو أخذ بها لوضعت المصادر العربية للتاريخ في محرقة النفايات ولاهتزت الأسس العقلية والنفسية للقارئ العربي وعلاقته بتاريخه الإسلامي إذ يصل المروي عند العلامة محمد جميل حمود في كتابه (إفحام الفحول) إلى القول بأن مقتل عمر جاء بإرادة إلهية وبطعنة نافذة من أبي لؤلؤة رضي الله عنه بسبب تجاوزه على عرض الإمام علي والحيلولة الإلهية دون تحقيق زواج عمر من أم كلثوم.
وينحدر المتخيل إلى قيعان القطيعة فيقدم الشيخ المذكور رواية على لسانه بأن الإمام علي ربما كان هو الذي أمر بقتل عمر بن الخطاب.
وكأنه يريد أن يضع الإمام علياً في الطرف المساند لانتفاضات المدن المفتوحة، والحمد الله أني لم أقرأ في مكان آخر مثل هذه الشهادة التي ربما يكون الشيخ حمود قد استقاها من مصدر ليس بعيداً عن نطفة أبي لؤلؤة.
شهادة مؤرخ شيعي معتدل:
وسيكون الجريء والجديد معاً أن يتبنى مؤرخ شيعي معتدل ومحافظ هو السيد هاشم معروف الحسني النظرية القائلة بمسؤولية قريش في اغتيال عمر كما جاء في كتابه (سيرة الأئمة الاثنى عشر) مما يلزمه الاعتراف الضمني والرد الصريح على كتاب القطيعة ومنهم الأستاذ المحامي الأردني أحمد حسين يعقوب، وقد جعلوا عمر بن الخطاب رئيساً للتحالف القرشي ضد أهل البيت وزعيم المواجهة ضد النبي وواضع الأسس الأولى لإقامة الدولة الأموية.
إن معنى اتهام قريش بقتل عمر أو المشاركة في اغتياله أن الخليفة كان على نهج آخر غير نهجها، فيسقط منهج التسويغ الفقهي لإدانة عمر، وكأنه اعتراف بمحمديته في مواجهة قريش، وعدالته وصدق المروي عنه في كتب التاريخ وضعف القائلين بالقطيعة، وكانت قريش التي قتلت الحسين بفرعها الأموي، هي ذاتها التي قتلت قبله عمر بن الخطاب، فكيف سيواجه المؤرخ الشيعي هذا الإشكال؟.
استخدم السيد الحسني أفعال الاحتمالات وأفعال الشكوك وأسند الاعتراف بفضائل عمر باستخدام الفعل المبني للمجهول مثل قيل عنه أو بإسنادها إلى الجانب السني واستخدام أفعال مثل تظاهر عمر بذلك.
لكن النتيجة كانت لصالح عمر الذي ظهر في هذه الشهادة التي سننقل نصها يتمشى على خط محمد (ص) وقريش ما فتئت تكيد له.
لا أشك أن قراءاً كثيرين سيضيقون ذرعاً بهذا النص، وقد لا يتقبلون صياغاته ومضامينه، والمفترض بهؤلاء القراء أن يتريثوا قليلاً مع نص لا يستطيع مؤرخ رسمي شيعي ملتزم أن يذهب إليه فكيف إلى أبعد منه؟
“إن المؤرخين القدامى والمحدثين يروون قصة وفاة عمر بن الخطاب ولا يقفون عند أسبابها وملابساتها، بينما يحاول بعض المتأخرين من الكتاب أن يضعوا حولها أكثر من علامة استفهام ولكن بتحفظ لعدم توفر الأدلة المادية على التآمر والتخطيط لاغتياله.
وعندما يعود الباحث إلى الأسباب التي أدت للحادث، لا يجد عند المؤرخين سبباً سوى ما يدعونه من أن الخليفة لم يتجاوب مع أبي لؤلؤة في تخفيض الضريبة بعد أن عرف منه أنه يتقن أكثر من صنعة، وهذا السبب بنظري بعيد للغاية، إذا كان للضريبة من تأثير على حياة العبد من الناحية الاقتصادية فمن اللازم أن يحقد على مولاه وينتقم لنفسه منه، لأن الضريبة تعود لصالح المغيرة مولاه ولا شأن للخليفة بها ولا هي تعود إلى بيت المال ليكون الأمر منها إلى الخليفة نفسه، لذلك فإني أرجح أن تكون أسباب الجريمة أبعد من ذلك، ومن غير المستبعد أن تكون داخلية ومن صنع أولئك الذين ضيق عليهم عمر بن الخطاب، ولم تتسع صدورهم لحزمه وصلابته ورقابته الدائمة لجميع تصرفاتهم، وكان يتظاهر في الشطر الأخير من حياته بالتقشف والعطف على الفقراء والصراحة في محاسبة ولاته، على ما كان يبدر منهم من التصرفات مما يتيح لمحبيه أن يطروه بالعدل ويضربوا الأمثال بعدله، وبلغ من السطوة والهيبة حتى دانت له رقاع واسعة من الأمصار، كان من في أقصاها يخاف درته، وهو في الحجاز، ولقد قال عمرو بن العاص يوماً: لعن الله زماناً صرت فيه عاملاً لعمر بن الخطاب، والله لقد رأيته وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تتجاوز ركبتيه وعلى عنقه حزمة حطب، ورأيت العاص بن وائل في مزرارة الديباج، كما كان المغيرة يحقد عليه أيضاً لأنه عزله عن البصرة بعد اتهامه بالزنا وشهود الثلاثة عليه، وقد درأ الحد عنه لأن الشاهد الرابع زياد بن عبيد لم يكن صريحاً في شهادته، وكان كلما رآه بعد ذلك يقول له: كلما رأيتك خفت أن يرجمني الله بحجارة من السماء.
على أن رواية عبد الرحمن بن أبي بكر تدل على اشتراك جفينة غلام سعد بن أبي وقاص في الجريمة، وسعد بن أبي وقاص لم يكن على صلة حسنة بابن الخطاب، هذا بالإضافة إلى نبوءة كعب الأحبار بالجريمة قبل وقوعها، وكعب هذا كان على صلة متينة بالمغيرة بن شعبة وجميع المنافقين الذين لا يهمهم إلا الهدم والتخريب.
وما كان لعبد مملوك في تلك الفترة من تاريخ المسلمين أن يقدم على جريمة من هذا النوع تهز الدولة التي دانت لها رقاع واسعة من الأمصار، لمجرد أنه لم يتوسط له من مولاه بتخفيض الضريبة عنه، كما يدعي المؤرخون، ولم يكن ذلك إلا نتيجة لعمل مدروس ومتفق عليه بين هؤلاء الذين ثقل عليهم وجود الخليفة، وكانوا يضمرون له العداء والكراهية وكان هو بدوره يفاجئهم بما يسيء إليهم.
إن أبا سفيان استطال حياة عمر بن الخطاب وخاف أن تتطور الأمور لغير صالحهم لا سيما بعد المصاهرة التي تمت بين علي (ع) وعمر بن الخطاب، وبعد التصريحات التي كان يعلنها ابن الخطاب في مجالسه، وفي محاوراته بحق علي بن أبي طالب كما ذكرنا بعضها، وقوله: حق لمثله أن يتيه والله لولا سيفه لما قام عمود الإسلام، وهو أقضي الأمة وذو سابقتها وشرفها، وقوله: إن وليها حملهم على كتاب الله وسنة رسوله وقوله لأمير المؤمنين: أما والله لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك، إلى غير ذلك من تصريحاته التي تركت عامة الناس يظنون أنها لن تعدوه، وبلا شك فإن الحزب الأموي كان من أبرز العاملين في هذا الاتجاه وذلك كله يؤكد بأن اغتيال عمر بن الخطاب كان نتيجة مؤامرة مدروسة” .
وعن موقف الإمام علي من خلافة عثمان يقول السيد الحسني، بما لا يرتاح إليه دعاة القطيعة:
“ لقد وقف علي (ع) بين تلك الجماهير التي احتشدت في ذلك اليوم يخاطبهم بالمنطق السليم، الذي اعتاد أن يخاطب به الناس، ليكشف لهم الخط الذي سيمضي عليه في هذا العهد الجديد، فقال: أيها الناس لقد علمتم أني أحق الناس بهذا الأمر من غيري، أما وقد انتهى الأمر إلى ما ترون، فو الله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة.
وهكذا سالم أمير المؤمنين (ع) وبايع لعثمان كما بايعه الناس ومضى في السبيل الذي اختاره لنفسه يعمل ما وسعه العمل في سبيل الصالح العام، لا يبخل عليهم بآرائه، ولا بكل إمكانياته إذا أرادوها في سبيل الإسلام وانتشاره كما سالم وساير من كان قبله”.
المشهد الأخير:
علي وعمر في حقائب الصراع
يخرج سؤال من محبس اللسان، عن فاعلية الانقسام، وانشقاق ثنائي حيوي وناشط ومتحرك منذ مطلع التاريخ الهجري، حتى قرنه الرابع عشر. وهل كان ما حصل في يوم السقيفة عنيفاً بحيث استمر الخلاف حياً. وحضارات قامت، وأخرى نامت، وحروب كونية ومواثيق سلام، ومؤتمرات عالمية، وانهيار إمبراطوريات الشرق. وظهور قارات جديدة وقوى عالمية. أحصت دموع المطاط في الغابات الاستوائية، وحفرت في مناجم إفريقيا مناجم الذهب، واستخرجت النفط من أعماق الربع الخالي، ومن أعماق البحار... والمسلمون يتقاتلون على حق الولاية بعد رحيل نبيهم صلى الله عليه وسلم! ويأخذ الصراع شكل اللواء الأبدي بين اثنين من بناة المشروع الإسلامي منذ سنواته الأولى!
أغلب الظن أنها حيوية الإسلام، توجب حيوية خصمه ومحيطه ولو كان الإسلام خاملاًً مثل كثير من الأديان الخاملة في أقصى الشرق، لما أثار اهتمام الحضارات والأمم، ولما استمرت أحداثه الأولى حية ونشطة حتى أيامنا هذه.
لكنها فتنة الإقتتال تخرج من داخله والطائفية مجالها الذي يجتذب صراع الدول إليها. وليست هي وليدة الاستعمار العالمي الجديد، وقد ولدت قبله بأكثر من ألف عام؟!
قد لا تكتشف ظاهرة، أن الطائفية في العراق، هي ليست صراعاً عقائدياً ولا مذهبياً، ولا هي من صراع الأفكار.
إن الطائفية في العراق شكل من أشكال الصراع على السلطة، فهل ينبغي إلغاء السلطة لإلغاء الطائفية أم توزيعها على مستحقيها على قواعد يتفق عليها.
أظننا اقتربنا من حاشية الإشكال، فالتوزيع الرديء وغير العادل للمواقع العليا والامتيازات “والحقائب” مسؤول إلى حد كبير عن تردى الأوضاع الاجتماعية في هذا البلد وامتداداته العربية الإسلامية.
حدث ذلك في العراق البريطاني ـ السني.
ويحدث الآن في العراق الأمريكي ـ الشيعي.
فهل سينتهي الخلاف برحيل البريطانيين والأمريكيين أم ستكون المواجهة أشرس وأضرى؟.
إن توزيع السلطة سيكون باهظ الكلفة، وصعباً ما دام يمس الحقائب، والمصالح المباشرة: باعتبار السلطة، مصدر الامتيازات الكبرى، وسيتشبث أي فريق، سني سابق أم شيعي لاحق، بحقائب الامتيازات مستعيناً بالعوامل المباحة وغير المباحة، على مستوى محلي ـ وإقليمي ـ ودولي. وبسبب ذلك كان للعاملين الأخيرين دور في صناعة القرار دائماً، أما المحلي فمن السهولة إدخاله إلى معادلة الصراع على الامتيازات، فهذه الحقائب الوزارية هي حصة عمر بن الخطاب، وهذه الحقائب الوزارية هي من حصة علي بن أبي طالب، وأن السياسيين مجرد وكلاء أمناء على الأمانة. فهل يجوز لرجل السلطة في العراق البريطاني أن يضحى بحصة عمر بن الخطاب وأبي حنيفة؟
وماذا يقول الشيعي في العراق الأمريكي للإمام علي وللإمام جعفر الصادق، لو أنه تنازل عن حقائبه إلى غريمه السني؟!
وكان علي بن أبي طالب ومعه أهل البيت، هم الذين لا يوافقون على إمعان النظر في توزيع السلطة بما يجعل العراقيين يعيشون بسلام!.
فإذا استحال تقسيم السلطة على قواعد العدل والإنصاف وصعب ذلك على السنة، ما قبل سقوط نظام صدام حسين، وإذا ما أستأثر الشيعة بالحصة الكبرى بعد السقوط وصعب عليهم تقسيم السلطة على قواعد الوفاق الوطني والمشاركة وليس المحاصصة الرقمية، فإن الحل الأسلم، هو تقسيم الدولة، حتى تتوفر سلطة خاصة لكل طرف في دولته الخاصة، وقد يكتفي أحدهم بأربعة سنتيمترات لتشكل عالمه الكبير، فيغمس فيها إبهامه ويبصم جيناته على وثيقة الاستقلال!
وسيشعر عمر بن الخطاب بارتياح لم يشعر به عند فتح نهاوند، وسيفرح الإمام علي فرحه برؤية صاحبه الحذيفة بن اليمان رافعاً لواء الإسلام في تلك المدينة.
لقد أقحم رجال الإسلام ومؤسسو دولته الكبرى ليتحملوا مسؤولية إحدى مكوناتها، وتقسيم دولة قتل من أجل تحريرها المثنى بن حارثة، والنعمان بن المقرن، وعمر بن الخطاب.
ما السبب أذن؟!
هل هي حيوية النطفة التي قتلت عمر؟ أم هي حيوية عمر وكلاهما موجود في التاريخ ومقيم في الحاضر؟
إن القاعدة القانونية في الشرائع الوثنية والسماوية واحدة إزاء حادثة القتل... فالقتيل طالب، والقاتل مطلوب!.
والقتيل هنا، هو عمر بن الخطاب، والمطلوب هنا هو عمر بن الخطاب، وهي مع أنها غرست في أمعائه نصلين من السم، فما تزال النطفة ذاتها تترافع لتجريم القتيل على المنابر وفي المجالس والمدارس، وفوق مذهبات الكتب والأوراد منذ ألف وأربعمائة وأربع سنوات!.
وما موقع الإمام علي في هذه المرافعة الدائمة، وهو قامع الانشقاق منذ يوم السقيفة؟.
أتراها شخصية الإمام هذه المرة وموحياتها الروحية تثير الأسى والحزن والغضب، لفقده الخلافة الأولى مع حصوله على الإمامة الأولى؟ ولماذا لم يظهر الوجوم والتجهم على محياه الكريم، وتظهر آثار حزنه على وجوه أتباعه البررة بعد أربعة عشر قرناً؟.
أن المعروض التاريخي الأمين يتحدث عن ثنائية مشاركة بين علي وعمر، فكيف استحالت بعد رحيلهما إلى رحاب الخلد، إلى ثنائية كراهية وخصومة لا تنقطع؟!
ولماذا الخصومة كبرى في العراق، والشيعة في الجوار يعيشون حياتهم الطبيعية ويعيشها أهل السنة.
أهو الجوار الإيراني ـ التركي؟ ربما كان ذلك صحيحاً، لكن قبل مائة عام! وإذا توقفنا قليلاً، سنجد هؤلاء المؤسسين من رجال الإسلام الأول، وقد صيروا أوراقاً انتخابية، ولافتات للناخبين، فيوضع فاتح خيبر على لائحة المرشحين، وفاتح بيت المقدس على لائحة المقاطعين!
وليتهما مكثا عند صناديق الاقتراع... لا حيث تحمل صناديق الديناميت، وصناديق الموتى.
أغلب الظن أنها حيوية الإسلام وشخوصه في العصر والمكان أوجبت حيوية خصمه وانفعال محيطه . ولو كان خاملاًً شأن كثير من أديان الجوار ، لما آثار اهتمام الحضارات والأمم، ولما استمرت أحداثه حية ونشطة في سلبها وإيجابها .
لكنها فتنة الاقتتال تخرج من داخله، والطائفية جاذب آلي وذاتي الحركة، لصراع الدول، وليست، هي، كما نوهم أنفسنا وأجيالنا، وافداً غريباً تسلسل إلى بلداننا على غفلة منا! ولربما ولدت قبل مولد الدول الاستعمارية الحديثة بألف عام هجري، وارتبطت كالاستعمار العالمي بالمصالح الدولية وقوانين الصراع، وهي ساعدت الإدارة الاستعمارية، على تدوير شؤونها وتسهيل خياراتها، ومن الطبيعي أن تستفيد السياسات المحلية من عامل قوي ومؤثر لم تستخف بفاعليته إمبراطوريات قديمة وجديدة .
وفي العراق ومحيطه – أحياناً – تبدو الطائفية شكلا من أشكال الصراع على السلطة، وليست انقساما اجتماعيا، إنما الانقسام ناجم أصلاً من هذا الصراع . فجرى توظيف ثنائية الضد العلوي– العمري – لتوفير مسوغات شرعية للاستئثار بالسلطة والحصول على حقائب وزارية، ستوفر لحامليها حلم الوصول السهل للامتيازات العسيرة !.
وبهذه البساطة أصبح عمر بن الخطاب ورقة سياسية، والإمام علي ورقة انتخابية. وكل منهما مجرد لافتة معلقة على خرائب المتقاتلين. وأدخلت ثنائية عمر وعلي في طريقة التوزيع الردىء وغير العادل لامتيازات السلطة.
حدث ذلك في العراق البريطاني السني القرار، ويحدث ذلك في العراق الأمريكي الشيعي القرار.
ولأن التنازل عن الحقائب الوزارية باهظ الكلفة، وتوزيع السلطة على أسس العدل والإنصاف سيؤثر على حجم المنافع من الحيازات السياسية والاجتماعية والمالية، فقد يصبح توزيع الدولة، إجراءاً قابلاً للعمل به وشعاراً يطرح على الأتباع المهددين بالموت والخوف من الموت. وسيوفر أكثر من سلطة للمتصارعين عليها، مادام توزيع الدولة أيسر من توزيع السلطة !.
أما التشاهر في خطاب الملاعنة الموجود في التاريخ، والمقيم في الحاضر، فقد تيسرت له سبل الانتشار الفضائي، واختُرقت حصانات التاريخ، وحقائق الهوية، فتصبح الكوفة جمجمة العجم، ورأس الكفر.
وفي منهج التلاعن، تستعيد القطيعة حيويتها، وتخترق القاعدة القانونية، التي أجمعت عليها الشرائع الوثنية والسماوية، ولم يعد القاتل مطلوباً، والقتيل طالباً على جانبي الصراع. ففي فقه الخلاف المعاصر، القاتل هو الطالب ، والمطلوب هو القتيل!. والنطفة التي قتلت عمر بن الخطاب ما تزال تترافع على تجريم القتيل في المجالس والمدارس وعلى مذهّبات الكتب، وشاشات الفضاء. والعصبة التي تقتل الفقراء الباحثين عند الفجر عمن يشتري قوة عملهم بقوت أطفالهم، يُفجَرون بمفخخات المجاهدين!. الساعين إلى تحرير العراق، رافعين لواء الفاروق عمر بدعم فضائي لتجريم الضحايا بعد أن خُوِّل مذيع الفضاء صلاحية القاضي، الذي يصدر الأحكام على الهواء ، وعمر يُقتل في العراق عند كل صورة متلفزة مرتين!.
مرة بمناهج القطيعة ، وحيوية النطفة، ومرة بمناهج التكفير وحيوية الفتوى، فيوضع محرر العراق وفاتح بيت المقدس على لائحة الإتهام .. وليت الإمام الأول والخليفة الثاني يمكثان عند صناديق الإقتراع .. لا حيث تحمل صناديق الديناميت ، فتلتحق بها صناديق الموتى.
وفي النزاعات الطائفية، توري العقول والأذهان، فتقدح بأفكار جديدة وأساليب عجيبة، وينجح الشيعة العراقيون بعد الاحتلال الأمريكي، في عرض مشهد جذاب للرأي العام العالمي، ومؤسسات المجتمع المدني، كدعاة مشاركة متحمسين لصناديق الاقتراع، وسن دستور دائم بعد أكثر من أربعين سنة على إلغائه عام 1958م، وأتباعهم يتحاشون أن يجوسوا مساحب الدم في طريقهم إلى صناديق الاقتراع، والطرف الآخر مصمم على القطيعة وضرب المقترعين وصناديق الاقتراع بما يتيسر له من القنابل البشرية، مما ترك انطباعاً عن الجانب الشيعي لدى الرأي العام العالمي، لاسيما في الغرب، قد يصحح لديهم الانطباع السائد، والذي تركته الثورة الخمينية، في عنفوانها المعادي للغرب، ثم تبنته تنظيمات سنية على رأسها القاعدة، حيث لا يتورع أتباعها عن الوقوف أمام عدسات الانترنت، وقد يحمل التابع القاعدي بأطراف أصابعه، رأساً مقطوعاً من شعره فيضع الرأس في سطل مليء بالدم، ويظهر هؤلاء الأتباع في مشهد ينقله موقع القاعدة على الانترنت، لرجال ملثمين يذبحون على الهواء إنساناً مختطفاً. وقد تصور عمليات خاطفة، لإحراق حاملات الجنائز مع من فيها من أحياء، عند منطقة «اليوسفية» وهي مضارب لقبيلة أخوال كاتب السطور.
لقد تعثرت القاعدة ومعها الكثير من سنة العراق، «بمطب استعماري» ومصيدة ماهرة. لا بأس أن نطلق عليها مصطلح «تبشيع الخصم» في الحرب النفسية لتأليب المجتمع المحلي والدولي على «ارتكابات الخصم» ونشرها بحرية النشر على الرأي العام العالمي. مما يسهل للخصم الأول تنفيذ برامجه العسكرية وهو في غمرة الحرب الأمريكية على السنة، لجعل المغير المتوحش على قرى الطين وكأنه يرش المبيدات الزراعية، على الحقول ! فلم يتحرك الشارع العربي ذو الأغلبية السنية المطلقة احتجاجاً على رشوش الصواريخ العملاقة فوق سقوف مصنوعة من جذوع النخيل في بلدات الفرات الأعلى وحتى تخوم الفلوجة.. ولو تذكرنا للحظة رد الفعل العربي على قصف بور سعيد والإسماعيلية. أثناء العدوان على مصر في حرب السويس 1956م، وقارنا ما كان عليه الشارع العربي والبيت العربي، والوجدان العربي، مع ما حصل في الحرب على الفلوجة و الأنبار، وحديثة، لاقتنعنا قليلاً بأن القصور لا يتصل بحالة الانكماش القومي وظاهرة التراجع العربي الطويل، فحسب، بقدر ما يتصل بالناتج العلمي لنظرية «تبشيع الخصم» والممارسات التي تهللت لها وجوه المذيعات وأصابع المشاركين المرحبين بمشاهد الرؤوس المقطوعة في براميل القمامة.
إن نظرية تبشيع الخصم، أخذت بها إسرائيل منذ حرب فلسطين الأولى عام 1948، وكنت قد سألت اللواء طاهر الزبيدي. معاون قائد القوات العربية في تلك الحرب، وقد عاش أيامه الأخيرة وحيداً في داره بمدينة اليرموك، عن تمرير إشاعة كان العراقيون يتفاخرون بها، وتقول: إن الجيش العراقي كان إذا ألقى القبض على يهودي، وضعه في مرجل من الماء المغلي حتى يتفسخ لحمه.. وعظامه! قال اللواء الزبيدي ربما كان القصد تخويف اليهود، فقلت، ولكن اليهود يعرفون أن ذلك لم يحدث، وأن الإدارة الإسرائيلية كانت تسعى لإرساء مفهوم أنها تحارب العرب باعتبارهم متوحشين ومصاصي دماء، وتأتي الإشاعة العراقية التي ربما خرجت في سياق الحرب النفسية لتدعم منهج اليهود في الحرب مع العرب، وذلك بتبشيع صورتهم أمام الرأي العام العالمي، والغربي الذي تعتمد على دعمه وتأييده بالدرجة الأولى.
يبدو أن ما حصل من ذبح على الهواء، وحرق جنائز على الطريق، كان نموذجاً ممتازاً لتصوير المعارضة السنية بما صور به العرب في الحروب الإسرائيلية، لكنها هذه المرة خبرٌ يقين ومصادق عليه ومنشور بإرادة فاعليه.
لكن جهات سنية عراقية لها عراقة في السياسة المدنية، كالحزب الإسلامي، والإسلاميين المستقلين والعلمانيين السنة، الذين لم تعد لهم قوة مساوية، لجموح القاعدة قد تداركوا هذا المنزلق، وصححوا المعادلة وعادوا بالسنة إلى ميراثهم الطويل في إدارة السلطة، بذكاء وخبرة، فأعلنوا مشاركتهم في الاستفتاء على الدستور، والدخول في العملية السياسية، وما يترتب عليها من التزامات ومخاطر، صوناً لميراثهم المدني، فلم يتفهم موقفهم العادل والخطير، لا رجال القاعدة، الذين يفتقرون إلى تجارب العمل المدني، ولا الشيوخ المؤيدون لأسلوب القاعدة، فضلاً عن حساسية الجانب الشيعي المتزاحم على السلطة، والذي كان عليه أن يستوعب بصدر أوسع هذا الخيار العراقي السني، فيتنازل أو يتواضع عن شروط الحوار مع هذا القادم إلى السلم الأهلي، من بين أنقاض الجثث. فحصر السنة القادمون إلى العملية السياسية بين فكي الصراع .
ومن جانب آخر فقد تسبب استهداف القاعدة المعماريات الإسلامية الشيعية، وتفجير ضريح الإمامين علي الهادي والحسن العسكري في سامراء، في تأجيج عاطفي وطائفي، لدى قوة شيعية كبيرة كانت تحاول الوقوف على الحياد في الصراع الطائفي. فاندفع التيار الصدري وجناحه العسكري جيش المهدي إلى ميدان الاقتتال بما لديه من حشود بشرية ومساحات جغرافية تحيط ببغداد، ففقدت اللوجستية السنية أهم مراكز قوتها.
وكان الناتج العام قد ألقى بظلاله السوداء على عموم أرض السواد، لكن المأزق الأكبر مابرح يحاصر الحزب الإسلامي والعلمانيين السنة ممن يسميهم الدكتور علي الوردي «ربع عمر» الذين لم يعودوا قادرين على المواصلة السلمية ولا قادرين على المقاطعة، التي تخلي العراق من قوة التوازن التي بها تنتصب قامته وتنتظم خطواته .
ومن جانبنا فما زلنا ننتظر لحظة اللقاء بين ربع عمر وربع علي، ليعودوا إلى الصلاة في المسجد النبوي ، ويستكملا ثمانية عشر ألف صلاة مشتركة بين علي وعمر هناك.
وبذلك يختتم الحُلم القَصي...


رجوع


مقالات متعلقة
  • عمر و التشيع . . . ح 1


  • 100% 75% 50% 25% 0%


    مقالات اخرى لــ  حسن العلوي


     
     

    ابحث في الموقع

    Search Help

    بحث عن الكتاب


    انضموا الى قائمتنا البريدية

    الاسم:

    البريد الالكتروني:

     


    دليل الفنانيين التشكيليين

    Powered by IraqiArt.com 


     

     

     
     
     

    Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

     

     

    Developed by
    Ali Zayni