... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
أوان الذبول

عباس يونس العنزي

تاريخ النشر       01/10/2007 06:00 AM


(ياله من عمر !!..ما أقصره ).. قالت الوردة الهرمة ذات الورقتين الحمراوين اللتين تتعلقان بجسدها المنحني كأنه قامة ملك جميل طوقته الهزيمة.. بعد أن أيقنت أن لون الرماد الذي يدفن تحته الجمر حتى الموت راح ينشر عباءته المحزنة لتغطي كل الألوان ،كانت الورقتان آخر ما تبقى لها من معنى أن تكون وردة ولذا فهي تقتحم المحال لئلا يغادراها ..تغريهما بما لديها من زاد ،أو ما تبقى عندها من عطر رغم إنها تدرك عبث ما تحاول ..فبعد حين لن يكون هناك عطر ولا زاد ..وكما فعل الجميع ،ستهجرانها للأبد.
كانت الحديقة العامة تمتلئ بالعشاق المـنـزوين تحت الأشجار العالية ، وبين الفينة والأخرى تمتد يد لتقطف وردة أو يدنو البعض ليشم أخرى ، وثمة عاشقان كانا يتغزلان طيلة يوم أمس بالوردة ذات الورقتين الحمراوين عندما كانت ممتلئة وتضج بالحياة والجمال..لكنهما اليوم لم يكترثا بها وراحا يلاطفان غيرها وهما يظنانها ذاتها وردة الأمس ..كان الأمر كالكابوس بل وأقسى من آلام الذبول ..(لقد ضاع كل شيء).. فكرت الوردة الحزينة وظلت مطرقة لا تقوى على رفع رأسها الصغير.
قبل يومين ابتدأت رحلة حياتها ..تفتحت أوراقها ..وفاح العطر منها..ونمت الأحلام والآمال .. واشتد جمال الألوان،كأنما الأبدية تعزف نغمها المؤكد الوحيد..وهي تردد ..(مجدا للحياة ..مجدا للجمال) ،كان الأطفال يمرون من قربها ..يمرحون ويهزون ساقها الطري فتتساقط قطرات الندى وتأخذ النسمات الباردة تلاطف أوراقها لتنتشر في كيانها نشوة الحياة ..كانت أصواتهم وقفزاتهم الرشيقة مصدر سعادة لا توصف، تغمرها وينطلق شذا الروائح العطرة ..،فمن ذا الذي يمكنه أن يفكر بالذبول إذن ..؟(آه.. لقد انتهى العمر بغتة..)..تحسرت الوردة اليائسة وراحت تتذكر ساعاتها الجميلة.. ذات مرة كاد فتى أن يقطفها ، مستها يده .. كانت ناعمة كيد فتاة مدللة ،ارتعبت الوردة ودون قصد للإيذاء(وفي حقيقة الأمر هي لم تعرف معنى الأذى حتى هجرتها أوراقها) احتمت بشوكة فاندلقت قطرة دم من إصبع الفتى الذي سحب يده بقوة قائلا لفتاته الجالسة قريبا منه :
__ يا له من جمال جارح.. كجمالك تماما !
تبسمت الفتاة وقالت :
__ الجمال قوة وليس ضعفا كما تظن فكن حذرا. كانت الواقعة عظيمة عليها ..ولم يكن لها أن تلوم الشوكة..بل هي لا تقدر على اللوم،لكنها تعلمت منذ تلك الساعة إن جمالها هو مكمن كل قوتها ووجودها فأن فقدته ستـحل النهاية، إنه الاشتراط المقلق :الجمال مقابل الحياة ، وتحت هذا الهاجس قضت كل لحظات عمرها القصير وظن كل من في الحديقة أنها لا تحسن سوى التباهي وما فهموا الأمر قط . ذات مرة قالت لها زهرة الرمان بحنق :
__ من تظنين نفسك ؟ أنت لست إلا مغرورة تافهة.
وعندما حاولت أن تقول لها شيئا لم تستطع ..فاستمرت زهرة الرمان بانفعال متعاظم :
__ تبا لك ولجمالك ،لماذا يهتم الناس بك ويمهلوننا ؟
ألا يعلمون من يعطيهم الثمر؟
أدارت الوردة رأسها بغنج أصيل في طبعها قائلة:
__ لأنك في المكان الخطأ..وليس أي شيء آخر..فأنت
رائعة حتى في قسوتك.
كان الحب ينجذب إليها من كل صوب ..لأنها مجبولة به .. لكن رذاذا من كراهية غبية أ و لعله سوء الفهم،كان يهز سور الأمان الرقيق حولها ..لكنها لا تملك إلا بعد ا واحدا ..البراءة فقط ..لذلك ظلت تحب الشمس وتتمتع بالنهار وأيضا تعشق القمر وتتغنى بالليل ولم تميز العاشق عن اللص..أو البستاني عن عابر السبيل ..ولهم كلهم كانت تبعث لذة الجمال .. وحدها أحست بالجميع يتطهر من الضغينة والشر وهم ينظرون إليها..لقد آمنت أن كل شيء جميل بطبيعته والقبح حال طارئ لا يدوم ،فعندما قست عليها زهرة الرمان رأتها جميلة بلونها الناري وعندما أدمت أشواكها اليد التي أرادت قطفها تألمت لذلك ،حتى ذاك الغراب الأسحم الذي نهش وريقة منها لم تحقد عليه ..فقط نظرت إليه فاستحيا من الجمال وطار بعيدا .
لقد بدأت المأساة في أوج ساعة للفرح ..إذ غادرتها أول وريقاتها ولم تبلغ اليومين من عمرها بعد..مالت نحوها..أرادت أن تمسكها ،لكنها أخفقت وراحت الوريقة تتقلب في هبوطها الذي يشبه مشهدا تراجيديا بطيء الحركة و ألقت بها نسمات باردة بعيدا نحو الشارع الإسفلتي ، أما الوردة فقد اجتاحها ألم مفاجئ لا يحتمل في المكان الذي هربت منه الوريقة..صبرت ..وما كفت قط عن إرسال شذاها المنعش إلى كل من حولها ،لكنها قالت بذات الرقة :
__لماذا أيتها الوريقة الحبيبة..؟لقد كنا معا أجمل.
كادت تبكي وعرفت لأول مرة معنى الحزن ..وقبل أن تبدأ رثاء وريقتها الفقيدة تساقطت منها أخريات ..ذهلت..ولم تدرك ما يجري لها ..أصابها الدوار حتى إذا استفاقت من محنتها وجدت نفسها مع وريقتين لا غير ، مرت عليها ليلة مريرة ..توجعت كثيرا ..وعند الصباح اكتشفت أن وردة قريبة منها كانت تشبهها ..ولطالما حدثتها عن الغد قد اختفت سألت زهرة الرمان عنها فضحكت منها وقالت بازدراء : __ ألا تعلمين إنها رحلت..؟ يالك من صلعاء مغفلة !!
امتلأت الحديقة بالعشاق ، وأنكرها من تغزل بها من قبل ..وعند الغروب داخلها إحساس مخيف واخذ غصنها ينتفض.. ألقى بها إلى المجهول ، فظلت تهوي ..ثم تهوي..ولحظة لامست الأرض ..ماتت،وما فهمت قط أنها الحياة..!


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عباس يونس العنزي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni