... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  رواية

   
قراءة في اوراق هاني بن ال الجراح الطائي - ح 5

هلال البياتي

تاريخ النشر       29/10/2007 06:00 AM


وما ان سمع قاضي بغداد بمقتل الوالي حتى أسرع فأعلن الباشوية لسعيد بك، وكتب لاسطنبول لتصادق عليها حسب العادة وجاء الفرمان إليه بولاية بغداد مع الانعام عليه برتبة الوزارة وكان عمره آنذاك اثنين وعشرين سنة وقد تجاوز عمري نصف قرن من السنين. وجعل زوج أخته الوحيد الذي بقى حيا من أنسباءه الأربعة داود أغا في منصب الكهية على الرغم من أنه عزله في بداية أمره من منصب الدفتر دار بتأثير الوشايات فداود أغا في الواقع يا شيخ سعد الله من الرجال الأكفاء إلا ان ( نابي خانم ) أم الوالي سعيد باشا كانت تبغض داوود أغا بغضا شديدا رغم انه زوج ابنتها. ولعلها كانت تبغضه لكونه الصهر الوحيد من أصهارها الأربع الذي نجا من الموت وأظهرت امتعاضها الشديد حين تولى داود أغا منصب الكهية وأخذت تلوم ولدها على هذا التعيين فاضطر سعيد باشا إزاء هذا الإصرار إلى عزل داود أغا ففقد بذلك رجلا محنكا كان من الممكن أن يكون عونا له في الملمات. فقاطعه الشيخ سعد الله قائلا:
- لقد التقيت بداود أغا عدة مرات في جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني عندما كان يلقي دروسا على طلبة العلم هناك وقد استمعت إلى بعضها وأظنني شاهدتك هناك مرة أو مرتين إذا لم يكذبني ظني يا حجي أغا.
فأجابه حاجي أغا، وهو يبتسم وكأنه تذكر أمرا ما:
- نعم ان ما تقوله صحيح يا شيخ سعد الله كما التقينا أيضا عندما كان دفتر دارا أيام الوالي عبد الله التوتونجي بسبب حادثة مقتل المرحوم والد هاني.
قال الشيخ سعد الله برجاء أكمل حديثك وإني آسف على مقاطعتك فالمناصب تقطع أعناق الرجال كما يقولون فتابع حاجي أغا كلامه وهو ينظر إلينا ليرى تأثيره علينا:
- وهكذا أصبح داود أغا زعيما للمعارضين والتف حوله المتذمرون من المماليك وغيرهم ثم التحق به الكثير من أغوات بغداد بعد أن استطاع الهرب إلى كركوك وأن يحصل من السلطان على فرمان بولاية بغداد بدلا من سعيد باشا.
وقد ساعده على ذلك رجل من أصحاب النفوذ في اسطنبول هو ( حالت أفندي ) الذي عرفنا دوره في مقتل سليمان باشا الصغير. فقد بذل هذا الرجل، جهودا كثيرة في سبيل عزل سعيد باشا من ولاية بغداد وتولية داود أغا الذي أصبح يدعى الآن داود باشا بعد أن دخل بغداد واستقبله الأهالي استقبالا رائعا وأخذ ( سيد عليوي ) رئيس الانكشارية يبحث عن سعيد باشا بغية قتله فوجده لائذا بحضن أمه ( نابي خانم ) فأهوى عليه بالبلطة فقطع عنقه فورا من غير أن يهتم بتوسلات أمه وصراخها فتدحرج الرأس أمامها على الأرض بينما بقى الجسد وحده في يديها.
هزني هذا الحادث وآلمني. لقد مرت خمسة عشر سنة منذ وفاة سليمان الكبير رأيت فيها مقتل أصهاره الثلاث ثم ولده سعيد باشا ورأيت وكيف تسلم، داود باشا السلطة وشاهدت قبل ذلك وكيف أعجب به سليمان باشا الكبير فجعله كاتبا خاصا له ثم رفعه إلى منصب حامل الختم ( المهردار ) وزوجه أحدى بناته كيف أثار ذلك حسد الكهية علي باشا الذي تولى الحكم بعد سليمان باشا مما اضطر داود أغا إلى ترك مسلك الوظيفة وأن يلجأ إلى جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني ليكون طالبا للعلم فيه وبقى هناك طيلة ولاية علي باشا ولما تولى التوتونجي باشا الحكم وجعله دفتردارا استمر في دروسه ولحد الآن وقد أصبح واليا ولا يزال يلقي دروسه مرتين في الأسبوع ولكنه لم يف بحق الرعاية لأسرة الرجل الذي أكرمه وكان السبب فيما هو عليه الآن.
فرد عليه الشيخ سعد الله وقد بدا وكأنه متأثرا:
- نعم أعتقد ذلك وهذه هي حال الدنيا فلا تعجب.
فاستطرد حجي أغا قائلا وقد احمر وجهه من فرط التأثر:
- مرت ثلاث سنوات منذ أن استلم داود باشا الولاية كنت أعمل خلالها مع محمد أغا الكهية وقد أصبحت شيخا ولم أعد أتحمل مسؤوليات الوظيفة في السراي، متمنيا أن أقضي بقية عمري في مكان ابتعد فيه عن بغداد ومآسيها وما أن علمت بأني أصبحت مسؤولا عن حراسة هذه القلعة في الشهر الماضي حتى تجهزت للسفر وهيأت نفسي لمغادرة المدينة فورا فقد أصبح الوضع في بغداد مضطربا بعد أن ازداد تفشي ( وباء كوليرا الهواء الأصفر ) فيها وهو من أشكال الطاعون على حد علمي كما بدأت زيادة المياه في نهر دجلة تبشر بالفيضان وكنت أرى الناس في الطرقات والأسواق وهم يهرعون لشراء مواد التحنيط والتكفين لأنفسهم ولأفراد عائلاتهم بعد ما سمعوا بانتشار الوباء بينهم استعدادا للموت فهم يخافون أن يدفنوا من غيرها. وكأن الله سيحاسبهم على تقصيرهم ان وجدهم غير محنطين ولا مكفنين فازداد الطلب على هذه المواد وارتفعت أسعارها ارتفاعا فاحشا وكان أحد الباعة قد استغل حاجة الناس لها فأخذ يبيع قطن الأكفان، بأسعار مرتفعة ثم مات هو نفسه. وارتفع سعر الحبال إلى أربعة أضعاف سعرها الأصلي. واشتد الطلب على الماء لحاجة الناس إليه في غسل الموتى واغتنم السقائين الفرصة كما اغتنمها باعة الأكفان والحبال فإذا طلب أحد منهم قربة من الماء كان جواب السقا أنه يأخذها لغسل أحد الموتى وقد اضطر الكثير من الناس الذهاب إلى النهر من أجل جلب الماء ليغسل به طفلا ميتا وبلغ عدد الجنائز الخارجة للدفن من أبواب المدينة في بداية المرض ألف جناز ة يوميا ثم زاد العدد حتى بلغ ثلاثة آلاف جنازة يوميا حسب ما ضبط في سجلات الموظفين ثم لم يبق من الموظفين بعدئذ من يقوم بالتسجيل واشتد المرض وقد سمعت بأن عدد الموتى في اليوم الذي غادرت فيه بغداد قد بلغ تسعة آلاف شخص فاسمعني يا شيخ سعد الله جيدا فقد وصلت بحكايتي إلى الغاية التي جئتك من أجلها وانتبه لما أقول، كنت والشيخ سعد الله فاغري الأفواه نصغي باهتمام لحديث الأغا وقد ران الصمت على مجلسنا وبدى صوتة عميقا وهو يستطرد قائلا:
خلت الشوارع من المارة في ذلك اليوم فلم أر فيها وأنا في طريقي إلى السراي لأودع رؤسائي سوى حملة الموتى أو الذين يحملون لهم الأكفان والسقائين الذين ينقلون الماء لغسل الجثث وبعض المرضى المصابين الذين يتضورون من الألم بانتظار الموت. وتناثرت حزم الملابس من مخلفات الموتى ملقاة بقرب، الكثير من الأبواب ولاحت مني التفاتة إلى ساحة الجامع الكبير القريب من السراي فوجدت ساحته قد أغلقت إذ لم يبق مكان فيها لدفن الموتى وراح بعض الرجال يحفرون القبور في جوانب الطريق وحتى في الطريق نفسه وفي كل بقعة مناسبة يجدونها فقد أصبح الموت مألوفا وصار الناس يدفنون أحباءهم بدون اكتراث، ظاهر. ورأيت المرضى وهم يتساقطون في الطرقات فلا يدفنهم أحد فتأتي الكلاب لتنهش أجسادهم وربما كان بعضهم أثناء ذلك لا يزال يعالج سكرات الموت. أما أشد المناظر ايلاما فوجود المئات من الأطفال الصغار في الأزقة والطرقات وهم يتصارخون بعد أن ماتت أمهاتهم فيختلط صراخهم بزمجرة الكلاب التي تنهش جثث الموتى. وانتهز اللصوص الفرصة فراحوا يسرقون ما قدروا على حمله وهم يدخلون البيوت دون أن يخشوا أحدا من أصحابها الذين ماتوا أو هم على وشك الموت.
نظرت بفضول إلى دار مفتوحة إذ طرق سمعي صرخة طفل تصدر منها وقد سقط قرب الباب عجوز ميت اعتقدته صاحب الدار وعلى بعد خطوات منه عجوز ميتة. دخلت وسط الدار تدفعني قوة خفية كانت هناك أنثى شابة ممددة على الأرض ترتدي كفنا وقد جللها الموت بجلاله واكتسى وجهها بصفرته وأزرقت شفتاها وعلى صدرها طفلة وبعينين مفتوحتين نظرت إلي نظرة أضاءت وجهها الذابل وقد تهدل ذراعها الناحل حول طفلتها.
كانت الشابة ميتة ولكن نظرتها الشاخصة عادت لحظة إلى الحياة عندما أحست بمقدمي ولعلها حاولت جاهدة أن تقول لي شيئا حول مصير طفلتها فقد كانت تستصرخ في نظرتها كل ما أودع الله من بقية خير في الناس بأن لا يتركوا طفلتها وحيدة وقطعت وأنا انظر إلى العينين الشاخصتين لهذه المرأة الميتة في قرارة نفسي بكل المقدسات التي أعرفها عهدا بأن تعيش ابنتها في رعايتي ولن أتخلى عنها ولم أدر كم لبثت واقفا عندما أفقت من ذهولي على صوت يؤذن لصلاة الظهر من مسجد قريب وكأن الشابة الميتة أدركت بما في ضميري فقد كان هناك احساس بالفرح أو هكذا بدا لي الأمر. راحت أصوات المؤذنين تتجاوب في أنحاء بغداد وقد انتصف النهار فحملت الطفلة إلى دار قريبة لإمرأة عجوز أعرف زوجها لتعتني بها فوجدتهم يجهزون عربة للسفر خارج المدينة هربا من الوباء.
فرحت العجوز بالطفلة فرحا غامرا فقد كانت عاقرا تهفو إلى الأمومة وقالت بأن سنها تجاوز ثلاث سنوات. وأعلمت زوجها بمقري الجديد وطلبت إليه أن يبعث الي ان احتاجوا لأي شيء وأفهمته بأن الوباء قد قضى على عائلة الطفلة ولم يبق لها أحد سواي وان اسمها ( مريم ) وأن يخطروني حالما تستقيم الأوضاع ويعودوا إلى المدينة لأكون عندها مستعدا لأخذ ( مريم ) لتعيش معي وزودته ببعض المال. فقال الرجل ( وكان جنديا سابقا خدم معي فترة طويلة وهو يستأذنني للاسراع بالرحيل ):
- ان بغداد توشك على الغرق.
وفي عربة قديمة يجرها بغل عجوز جلست المرأة تحمل الطفلة فقال الرجل العجوز وهو يودعني:
- لتطمأن على ( مريم ) ولتسرع أنت ان كنت مسافرا فقد ارتفعت المياه في نهر دجلة ارتفاعا كبيرا، خلال الليل كما أحاطت المياه المندفعة من البرية المدينة من جهاتها الأربع وانكسرت ضفاف النهر في أماكن عدة ولا يوجد في المدينة أحد يقدر على مكافحته وغرقت الكثير من المحلات فقد نبع الماء من أسفل الدور فأسقط جدرانها كما نبعت البلاليع ووقعت البيوت بعضها على بعض فصارت تلالا عالية وآثارا عافية وقد غرق قسم من جانب الرصافة كما غرق قسم في جانب الكرخ وراح الماء يدخل من شبابيك الجوامع والبيوت والدور والمساجد وجرى في الأسواق والدروب حاملا كل ما يقدر عليه من الأواني والأثاث جارفا الأحياء وجثث الأموات في طريقه جالبا في غرينه وطميه الأحمر الخير والنماء للحقول وللمدينة الخراب والدمار وقد خرج الموتى في توابيتهم من القبور فوق سطح الماء وربما انعدمت السبل وانقطعت الطرق.
أنهى العجوز كلامه بأن لامس بسوطه برفق بغله العجوز وسارت العربة ببطئ، وأحسست بأنهم سلبوني شيئا عزيزا أخذوه معهم.
وفي السراي علمت بأن الوالي داود باشا وكهيته ورجاله يعملون جاهدين للسيطرة على الوضع ونصحني رئيسي أن أكون مستعدا للذهاب إلى مقر عملي الجديد فورا فحمدت الله على ذلك واعتبرته فاتحة خير حلت علي بسبب هذه الطفلة التي ستكون شفيعتي عند الله يوم القيامة إن نجوت بها وأحسنت تربيتها.
فأخبرته بأمرها وبأني أود أن أتبناها فذهب معي إلى القاضي الذي تصادف وجوده في نفس السراي وما أن قصصت عليه قصتها حتى علمت من رجاله بأن هذه الطفلة من عائلة ( شاهد ) تاجر النحاس وأن جميع أفراد عائلتها وأقاربهم قد أفناهم الطاعون الأصفر وحرر لي وثيقة موقعة منه ومن شهود آخرين بأن الطفلة ( وقد سميتها مريم ) هي ابنتي بالتبني وهذه هي الوثيقة. وأخرج من جيبه ورقة مطوية قدمها إلى الشيخ سعد الله الذي قرأها بتمهل وأعادها إلى حاجي أغا وهو يقول:
- انها موقعة من قبل محمد أغا الكهية ومن قاضي بغداد وان الخير فيما فعلت ولك الأجر والثواب ان شاء الله فكرر حاجي اغا قوله برجاء:
- هل ستكون يا شيخ سعد الله وصيا على ابنتي ان حدث لي مكروه … صحيح ان الأعمار بيد الله ولكني بلا عائلة ولا من أحد اعتمد عليه وبعد أيام ستصل الطفلة فقد مات زوج المرأة التي تقوم برعايتها وسيأتي الاثنان ليعيشا معي ولست أدري ما سأفعل ابتسم الشيخ سعد الله وهو يرى حيرة الأغا العجوز وقال:
- فليأتوا على الرحب والسعة ولتكن هانئ البال فهي ابنة أخينا على أية حال ونحن أحق الناس بتربيتها من غيرنا واذا لم نقم نحن بهذا الواجب، فمن الذي سيؤديه خيرا منا وأهلنا في الجابرية يرحبون بها.
كان سرور المملوك العجوز عظيما وقد صعدت الدماء إلى وجهه وكادت الدموع تطفر من عينيه.
سأل الشيخ ضيفه بعد فترة وجيزة وهو يرى تأثره:
- هل كانت لك معرفة ( بآل شاهد ) قبل اليوم الذي رأيت فيه الطفلة.
فأجاب العجوز بارتباك ظاهر:
- كلا أبدا وأقسم بالله العظيم على ذلك.
نهض الشيخ سعد الله من مكانه وهو يقول:
- أما أنا فكنت أعرفهم فقد كنا نشتري منهم مشربيات الماء والأواني والقدور النحاسية وكانت لهم علامة مميزة ينقشونها على ما يصنعونه من أواني النحاس.
ثم ضحك الشيخ وكأنه تذكر أمرا وقال:
- لقد كان لشاهد ولدان كان الأصغر صديقا لي أزوره في دكانه كلما قدمت إلى بغداد. وكان أخوه الكبير قد هاجر منذ زمن بعيد إلى الشام أو اسطنبول بعد أن اختلف مع والده وصار هناك يضع نفس علامتهم على الأواني التي يصنعها وعندما أخبروا أباه بذلك قال لهم الأب انه ولدي على أية حال.
أشار الشيخ سعد الله بيده إلى صحن الدار حيث أعد الغداء وقال:
- تفضل يا حجي أغا قبل أن يبرد الطعام.
شمر الأغا عن ساعديه وقمت بسكب الماء على يديه فأثار انتباهي ندوبا ووشما على باطن ساعده الأيسر وهو يغسله بالماء وكان الطعام شهيا يغري الطاعمين وأثبت الرجال الخمس بأنهم طباخون مهرة فقد صنعوا وليمة حقيقية وجلس الأغا بعد أن شرب القهوة يدخن ( الجبوق1 ) مسترخيا وقال مخاطبا الشيخ سعد الله:
- ان طعامكم لذيذ وسوف أذكر وليمتكم هذه ولا أنساها.
قال الشيح بتواضع:
- سوف تأتينا كثيرا ودائما يا حجي أغا فلا تحرمنا من صحبتك وستكون وليمتك الحقيقية عندنا في الجابرية فهناك تقام الولائم وليس هنا.
قال الأغا العجوز:
- سوف آتيكم مع ابنتي وسأبقيها عندكم ان شاء الله إن سمحتم لي فلا يمكنني أن أتصورها تعيش معي في القلعة مع الجنود فاني أتمنى لها طفولة سعيدة وليس مثل طفولتي البائسة.
قال الشيخ سعد الله مبتسما:
- وهل في ذاكرتك شيء تتذكره عن طفولتك قبل أن تلتحق بالمدرسة في بغداد أيام سليمان باشا أبو ليله.
بدا العجوز متألما وهو يقول:
- كلا لم أعد أتذكر منها أي شيء حتى ملامح أمي نسيتها ولكني أتذكر شيئا واحدا هو ألم غرز الأبر لهذا الوشم الذي نقشه والدي على ساعدي عندما كنت صغيرا ربما في الخامسة من عمري.
وكشف الأغا عن ساعديه فبانت ندوب وشم قديم زرقاء باهتة على شكل وردة دائرية لها أربعة ورقات وقد كتب في داخل الدائرة حروف لم أتبينها جيدا.
التفت إلى الشيخ وهو يدقق النظر في الوشم وقد شحب وجهه واتسعت عيناه من التعجب حتى خلته يرتجف. فقد رأى الشيخ في الوشم شيئا لم نره نحن واستطرد الأغا بعد أن غطى الوشم قائلا:
- لقد أنستني الأهوال ومتاعب الأيام التي رأيتها في حياتي أمورا كثيرة وأحب أن أخبرك يا شيخ سعد الله ان داود باشا الوالي قد قرر أن يعطي مشهد " آل أبو ريشة " إلى آخرين بعد أن تفرق أبناء عمومتكم بين صحراء الخالص وبلاد الشام. ونصيحتي لك أن تركت هذه البادية فلتكن وجهتك صحراء الخالص قال الشيخ بامتنان صادق:
- شكرا لك على نصيحتك. وسأكون بانتظارك ومعك ابنتك في مثل هذا اليوم من الشهر القادم في الجابرية فبعد أيام سوف أذهب إلى بغداد وستسمع عند عودتي أخبارا تسرك ان شاء الله.
وقفت بجانب الشيخ فنهض الأغا من مكانه وتقدم نحوي ووضع يده على كتفي وقال بلطف وكأنه صديق قديم:
- أود أن أقول لك يا ولدي بأن من قاموا بالهجوم عليكم في مقهى القرية في العام الماضي ربما كانوا من منتسبي حاميتنا والذي فهمته أنها قضية ثأر بين أهل صديقك الشيخ عبدل وبين عشيرة مناوئة لهم ووقعت أنت وأصدقاؤك الآخرون ضحية بينهم ولا أدري ما هو دخل أصدقاءك ولكن كل ما قيل لك عنا فكذب وافتراء وكما تعلم فقد جئت إلى هنا منذ أشهر ولكن فلتكن على حذر فهناك خطر ما يحيق بك.
كانت كلماته مفاجئة بالنسبة لي فلم تبدر مني كلمة واحدة وكنا قد أصبحنا خارج الدار ووقف الحراس لسيدهم الأغا وقد أعدوا الخيول وما أن لمح عبد الله حتى قال له برصانة:
اسمع يا عبد الله لست أنا الانكشاري الذي طعنك منذ زمن بعيد وهو يحاول سرقة حصانك وليس لي علاقة بما حدث لك ولكي أثبت لك حسن نيتي فإني أعطيك فرسي هذا إن أعجبك هدية مني وسأرسله إليك بعد أن أصل إلى القلعة إن رضيت به.
قال عبد الله مبهوتا مما يسمع:
- شكرا لك يا أغا فأنا لا أستحق هديتك ولكني سأقبلها ان كان ذلك يسرك. بقيت لبرهة مندهشا من معرفته لاسم عبد الله قبل أن تتعالى ضحكاتنا من مقالة عبد الله واهتز جسد الأغا وهو يضحك من أعماق قلبه ويربت على كتف عبد الله مسرورا ثم مد يده وصافحنا فردا فردا وامسك بيد الشيخ سعد الله وهو يقول له بود وظرف:
- أشكرك على هذه الوليمة التي سوف لن أنساها ما دمت حيا ولتسمح لي بالذهاب فمن الأفضل أن أكون في القلعة قبل الهزيع الأول من الليل.
قال الشيخ باسما بمجاملة لطيفة:
- ان لم تسعك القلعة نضعك في أحداقنا.
فرد العجوز عليه جادا وهو ينظر الي والى الشيخ بنظرة طويلة لم أستطع فهمها وهو يقول:
- سوف أكون حريصا على صداقتكم وستثبت الأيام لكم صدق ما أقول. ثم التفت إلى الشيخ سعد الله وهو يقول:
- يشهد الله إني منذ زمن بعيد عندما كنت تدرس في بغداد عقدت عزمي على أن أتعرف عليك يوما ما وأتشرف بصداقتك. ثم امتطى حصانه بخفة الشباب وهو يقول:
- موعدنا معكم بعد شهر في الجابرية بإذن الله.
قال الشيخ أرجو أن أسألك سؤالا أخيرا عما حل بصادق بك وصالح بك ولدي سليمان باشا الكبير.
قال الأغا وكأن سؤال الشيخ أحرجه:
- ان صادق بك قد التجأ إلى العشائر الثائرة في الفرات الأوسط كما فعل أخوه سعيد باشا في عهد الوالي عبد الله التوتونجي ولكن داود باشا قد أنزل بهم خسائر فادحة وقتل شيوخهم وأخذ أموالهم وربما قتل مع جملة من قتل من شيوخهم فقد انقطعت أخباره عني أما صالح بك فلا يزال في بغداد.
قال ذلك ورفع يده بالتحية مودعا ولكز جواد فسار به باتجاه القلعة. عدنا إلى الدار وعبد الله أشدنا سرورا وبعد أن جلسنا سألني الشيخ قائلا:
- ما تقول يا ابن أخي فيما رأيت وكنت أراك ساكتا طوال الوقت.
فأجبت:
- لقد ظلمنا الرجل في ما يبدو فهو ليس كما تصورته أما الآن فقد عرفنا عنه شيئا ما.
قال الشيخ وهو يبتسم ابتسامة لطيفة:
- ان الأغا بضربة واحدة نجح فيما أراد وكسبنا إلى صفه جميعا وخاصة لسان عبد الله الطويل. فهل تدري لماذا فعل ذلك هذا الثعلب العجوز؟
قلت وأنا أنتظر أن أسمع منه جوابا مثيرا:
- لعله أراد أن يكسب صداقتك وأن يظهر لك حسن نيته وصدقه أمام الآخرين.
ابتسم الشيخ وهو يقول جادا:
- لم يكن الأغا هكذا من قبل ولكننا سنراه دائما حسن السمعة يمتدحه الناس، ليس لأجل نفسه وانما من أجل الطفلة الصغيرة التي تبناها فقد وجد نفسه فجأة مسؤولا عن شيء عزيز يستحق أن يعيش لأجله أما قبل ذلك فلم يكن لحياته أي معنى. ان قصته لم تنته بعد يا ولدي وان صح ظني فستكون قصته أعجب من كل قصة سمعناها في حياتنا ولا تحسبني مبالغا فيما أقول وسيكون في سفرنا إلى بغداد كل الخير ان شاء الله فمن يعش يرى.
فسألته وقد فاجئتني فكرة السفر: ومتى سيكون سفرنا؟
فأجاب الشيخ باسما:
- بعد غد ان شاء الله فقد بعث عبد الوهاب أغا الجراح يقول انه لا يتم زفاف ابنته رحمة على حميد ابن عبد القادر بك البياتي إلا بحضورنا وأنت تعرف عناده كما ان العروس والعريس من أقرباءك أيضا. ولكن أخبرني ألم يحن الوقت لعقد قرانك أنت أيضا.
فأجبته وقد بدا وكأن داخلي يفصح عن نفسه:
- أنت تعلم يا شيخ سعد الله أنه ليس لي أحد في الدنيا غيركم وتعرف عني ما لا أعرفه عن نفسي ولا أدري ماذا أجيب والأمر بيد الله فلا مال لي ولا جاه ولا يعرفني أحد عدا بعض الأقرباء وان هذا الأمر بعيد التحقيق في الوقت الحاضر على الأقل.
نهض الشيخ وقد بدا متأثرا من كلامي وهو يقول:
- دع الأمر لي ولا تعجل وسترى ما يعجبك فكم مر عليك منذ أن غادرت بغداد إلى الآن.
فأجبته وقد طرأت في خاطري فكرة جميلة ولكني آثرت تأجيلها قائلا:
ما يقرب من الثلاث سنوات فالسنة الأولى قضيتها في القرية عندما كنتم في الحج والسنة الثانية وأنا أتعالج عندكم في الجابرية وهذه السنة الثالثة.
قال الشيخ متفكرا وهو ينظر إلي ساهما:
- ما أسرع ما تنقضي الأيام ودعنا نجهز أنفسنا للسفر بعد غدا.
وفي اليوم التالي أرسل الشيخ سعد الله رسولا إلى الجابرية يعلمهم بسفرنا إلى بغداد ويطلب منهم أن يكرموا وفادة حاجي أغا الانكشاري وابنته إذا ما جاء بها إليهم وسمعته يؤكد على رسوله بسرعة الوصول إلي أناس سماهم بأسمائهم منهم من عشيرته ومنهم من عشائر أخرى يسألهم الحضور عنده في الجابرية بعد شهر وأرسل إليهم نقودا وهدايا وما إن خرج الرسول من عنده حتى كان ( عبد وعبيد ) قد جهزا لوازم السفر وأتما استعدادنا للرحيل.
فقال الشيخ سعد الله لعبد:
- إياك ونساء الحضر ففي عيونهن يكمن الخطر.
فلم يجبه عبد الله بل أمسك بربابته وغنى بصوت جميل:
يا مضيعين الهوى قلبي إليكم مال
عشق المدينة ألم زاده الطمع والمال
يغدر بقلب المحب ويقطـع الآمال
أكتـم غرامك بصـدرك أن لكـم نيه
فقال الشيخ مستحسنا غناؤه:
- سيكون عبد الوهاب الجراح ممتنا لك لو سمعك تغني في عرس ابنته بمثل هذا الغناء الجميل.
قال عبد الله جادا:
- مهما فعلت فلن أفي للحكيم عبد الوهاب أغا الجراح حقه وأفضاله علي. ولن أنسى بأنه هو الذي أنقذ حياتي وسهر على شفائي وخاط هذا الجرح وهنا رفع ثوبه وكشف عن بطنه فبان أثر جرح قديم.
فقال الشيخ ضاحكا:
- ولكني أنا الذي أخذتك عليه وحملتك بيدي إليه.
فسألته مندهشا ما حكاية هذا الجرح:
قال الشيخ:
- ألم يقص عليك عبد حكاية هذا الجرح بعد.
قلت بفضول:
- سمعت منه بأن أغا الانكشارية المعزول يشبه شخصا حاول أن يسرق حصانا أصيلا يعود لك في بغداد ولكن عبد الله الذي كان يحرس الحصان امسكه فطعنه الانكشاري بخنجره وهرب منه.
فقال عبد الله مقاطعا وهو يبتسم ابتسامة ذات مغزى:
- المهم لم يكن حاجي أغا الانكشاري هو الذي فعل ذلك بل قلت شخصا آخر ومن شدة مقتي لما جرى فقد أصبحت أنظر إلى جميع الانكشارية وكأنهم شخص واحد أما الآن فإن بعض الأمور قد تغيرت بعد هدية الحصان.
فقال الشيخ مشيرا إلي:
- ما دمت قد ضمنت الحصان فقص عليه الحكاية.
قال عبد الله وهو ينظر إلي مبتسما:
- كان ذلك منذ عشرة سنوات عندما جئنا مع الشيخ سعد الله إلى بغداد بعد وفاة والدك رحمه الله وكانت معنا بضعة خيول جلبناها هدايا للوالي والى الكهية والى أصدقاء آخرين للشيخ سعد الله. وكنا قد وضعناها في اسطبلات إبراهيم قرب الباب الوسطاني وكنت أقوم بحراستها وفي أحد الليالي حاول شخص ما سرقة أحد هذه الخيول. فما كان مني إلا أمسكته من رقبته لأشد وثاقه ولكنه هرب من يدي بعد أن طعنني هنا ( وأشار إلى جرحه ). فذهب إبراهيم صاحب الاسطبلات إلى داركم وجاء بالشيخ سعد الله والحكيم عبد الوهاب أغا الذي نقلني إلى داره وخاط لي الجرح وبقيت شهرين تحت رعايته حتى عافاني الله ورجعت إلى أهلي.
قال الشيخ: فلننم لبضع ساعات فأمامنا سفر طويل غدا.

الفصل السابع
كاظم أغا بن علوش أفندي

وفي اليوم الثاني سافرنا إلى بغداد وكانت سفرة هادئة وسهلة وفي داري الحبيبة التي تعرف أعماقي وتدرك ما أقاسي بدا كل شيء فيها كما تركته فقد كان آل الجراح يعتنون بها أثناء غيابي وما أن وصلنا حتى أصر آل الجراح أن يكون سكننا في دورهم ولكن الشيخ سعد الله أصر على بقاءنا في داري. وبعد أن استرحنا بضعة أيام كانت ليلة العرس التي غدا ( عبد ) فارسها المجلي. فقد كان أهل الدار يقدمون شرابا حلوا للضيوف فأوعز الشيخ سعد الله بوضع قليل من مادة مسكرة في قدح الشراب الذي قدموه لعبد فما كان منه إلا أن قال بعد قليل وقد بدا منتعشا وهو ينظر إلى جماعة المغنين الذين أنهوا وصلة غنائهم وقاموا للعشاء ممن كانوا يحيون حفلة العرس:
- ان شراب أهل بغداد يجلو الصوت ويجعل الغناء طيبا ثم جلس على الأرض وأخذ يعزف على ربابته وغنى من أعماق قلبه كما لم يغني من قبل أغنية تتغزل بفتاة وجهها كالبدر وشعرها كالليل وقامتها سمهرية كالرمح.
وانطلق يغني بصوت شجي وهو يشير على الحضور
……………………… يا مداحين ……………………… يا مداحين
فيجيبه الحضور ومعهم الشيخ سعد الله والحكيم عبد الوهاب أغا الجراح وعبد القادر بك البياتي وكاظم أغا ابن علوش أفندي ……………………… ها
فيرد عليهم عبد وصوته يملأ الليل بحلاوته
غنوا علـى أبيها بطل الأبطالعظيم الأصـل كثيـر المال
كريــم العـــم أصــيـل الخال حكيم الدهر وجيه الحال
وهو يشير إلى موضع الجرح الذي خاطه والد العروس فيضج السامرون بالتصفيق والهتاف وهم ينشدون مرددين معه بسرور.
ثم غنى شعرا للخليفة ابن المعتز العباسي وسماه ذو القلب المحترق وما أن انتهى منه حتى قال سأسمعكم شعرا لتميم ابن الخليفة المعز الفاطمي الذي لم ينل الخلافة - وراح يعزف على ربابته - فقال الشيخ سعد الله موضحا لعبد الوهاب أغا الجراح: لأن المعز جعل ولاية العهد لابنه الآخر العزيز بالله نزار دون تميم فحرمه الخلافة وان تميم ابن المعز الفاطمي أشبه الناس بابن المعتز العباسي في النشأة في بيت الملك وقوة الشاعرية وسوء الحظ في دنيا المناصب وان تخالفا. وقد مات تميم في خلافة أخيه وعمره سبع وثلاثون سنة وهذه سنة القلب المحترق واندفع عبد يغني:
دم العشــاق مطلـــولودين الحب ممطـول
وسيف اللحظ مسـلولومبدي الحب معذول
وان لــم يصــغ لللائـم
وأحــور ساحر الطرفيفوق مجامع الوصف
مـليــح الـدل والظرف جنت ألحاظه حتفي
فمن يعدى على الظالم
يعنفني عــلـــى حبيويهجــرني بــلا ذنب
كأني لســــت بالصبلقهــوة ريقة العـــذب
أما في الـحب من راحم
فأطرب بغنائه الحضور حتى قال الحكيم عبد الوهاب أغا الجراح للشيخ سعد الله:
- ان جرحه سوف يفتح من جديد فاتق الله يا شيخ سعد الله وارحمه من الغناء. وما أن أتم عبد غناءه حتى قام من مكانه وقبل يد عبد الوهاب الجراح الذي جلس منسجما مع الشيخ سعد الله وهما يستمعان إلى قصة مغامرتنا يرويها لهما كاظم أغا ابن علوش أفندي قائد المغامرة الذي راح يشرحها بمزيد من التفاصيل للشيخ سعد الله ويشيد بما قمت به فقال الشيخ معلقا وهو ينظر إلي:
- حسنا ما فعلت وان لم تقصها علي ولكن الذي يسعدني أن روح المغامرة لا زالت تجري في دماء آل الجراح.
وما ان سنحت لي فرصة للحديث منفردا حتى قلت له خجلا:
- ولكني في الحقيقة كنت أبحث عن طريقة لأغادر بها بغداد لآتي إليكم ولم يخطر ببالي أن أقوم بأي مغامرة أو بطولة بل العكس فقد كنت خائفا.
فرد الشيخ بأحد أقواله المأثورة:
كل امرئ بما كسب رهين
وكل إناء بالذي فيه ينضح
ثم ربت على كتفي وقال جادا:
- بعدما أنجز أعمالي سوف آتي معك إلى باب المعظم لتريني على الطبيعة موقع مغامرتك الغريبة فأنت كثير التواضع يا ولدي.
سررت بمديح الشيخ فقد استطعت أن ألفت انتباهه وأن أثير اهتمامه.
ثم سألني على حين غرة:
- هل سمعت عما حل بأصدقائك بعد حادثة القرية؟
فأجبته متألما:
- كلا لم أسمع شيئا وأعتقد أن الثلاثة قد قتلوا بسبب الثأر كما قال حجي أغا.
رد الشيخ: -
- لم يكن قتلهم بسبب الثأر بل انهم لم يكونوا هم المقصودين أساسا بل قتلوا خطأ فهذا ما ظهر لي بعد التحري والتقصي طيلة هذه السنين.
قلت متعجبا:
- حسنا فمن تراه المقصود يا ترى بهذه الجريمة البشعة.
قال الشيخ:
- أظني سأقع على السر قريبا وسيساعدنا كاظم أغا ابن علوش أفندي الذي يعمل في السراي أما في القرية فسيكون حجي أغا قد أفلح في كشف السر هناك الآن على ما أعتقد.
قلت متعجبا:
- ومن تراه المقصود بالقتل إذن؟
قال الشيخ:
- ربما أنت يا ولدي ولا تعجب فسنعرف السر قريبا.
قلت مبهوتا:
- وكيف ذلك ولا عدو لي !! ان حياتي ستغدو جحيما لا يطاق.
قال الشيخ باسما:
- كلا يا ولدي فقد زال السبب بإذن الله.
ثم عاد الشيخ يقول بعد فترة من الصمت:
- وأنا بدوري سوف أخبرك بكل ما فعلته طوال هذه المدة وربما احتجت إليك خلال الأيام القادمة أما الآن فلندع هذا الأمر.
فأجبته مرتبكا وأنا أراه وهو يبدي كل هذا الاهتمام نحوي:
- ستراني رهن إشارتك.
وفي الأيام التالية كان الشيخ منشغلا بأعماله فهو يخرج من الصباح الباكر ومعه عبيد ويترك معي عبد ولا يعود إلا في المساء متعبا مكدودا ولم أكن أتطفل عليه فأسأله عما يفعله ولم يكن يحدثني عما يقوم به فقد عاش في بغداد فترة طويلة تعرف خلالها على كثير من الناس ولولا وفاة والده وحاجتهم إليه في البادية لبقي في بغداد يعلم ويتعلم في مساجدها ومعاهد العلم فيها أما أنا فقد كنت أخرج مع ( عبد ) ونذهب لزيارة أصدقائي فأخذته إلى باب المعظم وأريته المكان الذي كانت فيه الطابية والمدفعين والمحل الذي عبرت منه النهر وكان أصدقائي هناك قد سروا من زياراتي لهم وأعادوا المكان كما كان عليه في السابق منتدى لهم ( جرداغ ) يجتمعون فيه فيسبحون، ويمارسون الرياضة على ضفة رمل دجلة عند شجرة توت كبيرة جدا تظلل المكان وبالقرب منهم نصب داود باشا آلة لرفع الماء من نهر دجلة يستغنى بها عن البكرات المعتادة التي تسمى (كرود) وقد سميت هذه الآلة على اسم ابنة طوسون يوسف باسم ( جرخ يوسف ) وفي هذا المنتدى سمعت الأصدقاء يتحدثون عن شخص سجين اسمه شاكر وهم ينوون زيارته في السجن وقال المتحدث وهو صديق لي عاد من زيارته متألما:
- ان شاكر يقول انه سوف لن ينجو هذه المرة فقد رأى في المنام ان بنات ( عنتر أبو طبر ) الصغيرات قد خدشن رقبته وهن يمسكن به. وما أن سمعت كلامه حتى انتابني فضول شديد لمعرفة هذا الشخص فقد شهدت في اليوم الثاني لوصولنا إلى بغداد مقتل عنتر أبو طبر قرب دارنا إذ كنا مدعوين للعشاء في دار عبد الوهاب أغا الجراح وكان الجميع قد سبقوني إلى الدعوة وفي طريقي إليهم وكان الليل قد أسدل سدوله وعلى ضوء مصباح الطريق النفطي الذي تضيء ذبالته الخافتة الدرب المظلم والأزقة الثلاث المتفرعة منه رأيت تحت عمود المصباح شحاذا يجلس القرفصاء مادا يده وهو ينظر باتجاه الزقاق الضيق المظلم المتفرع إلى يمين الدرب ثم يخفض رأسه ليعود فيرفعه ثانية ناظرا إلى نفس الزقاق وكأنه بانتظار شخصا ما فتجاوزته وأنا أعبر الطريق وما هي إلا لحظات حتى دوت اطلاقة نارية أعقبتها صرخة عالية ورأيت شخصا يسقط عند الزقاق الضيق وحانت مني التفاتة إلى الشحاذ فرأيته يطلق النار على فانوس الشارع النفطي فيطفأه ويلوذ في ظلمة الليل وعلى أثر الدوي رأيت آل الجراح يخرجون من دورهم وكذلك سكنة الدور القريبة وهم يحملون الفوانيس والجميع يتساءلون عن سبب إطلاق النار.
وعدت معهم إلى حيث كان ينتظر الشحاذ. وعند بداية الزقاق الضيق حمل الناس جثة شخص اسمه عنتر أبو طبر مخلوقا مسالما ام يؤذ أحد في حياته ولم يعرف بأن له عدوا يوما ما.
ان هناك بعض المارة ممن رأوا الشحاذ يطلق النار على الضحية ثم على الفانوس النفطي ليطفأه ويلوذ بالفرار ولم يتمكن أحد من معرفته أو يستطيع تشخيصه ثم جاءت ( الجندرمة ) وسألوا واستفسروا وذهبوا كما جاءوا وهم يبدون اهتمامهم أول الأمر ثم لا شيء بعد ذلك وما أن سرنا مع الشيخ سعد الله وعبد القادر بك البياتي وابنه حميد وعبد وعبيد إلى المقهى القريب عند ساحة الميدان حتى رأينا الناس يتأسفون لمقتل عنتر المسكين الذي ترك ثلاث بنات صغيرات.
انتهى العشاء وعدنا إلى الدار وقضينا ليلة مؤلمة رغم اننا لم نكن نعرف، القاتل أو القتيل وبعد منتصف تلك الليلة جرى حادث غريب فمن دار جارتنا السيدة حبيبة زوجة البقال ارتفعت صرخة عالية مزقت سكون الليل تبعتها جلبة وضوضاء فخرجنا نحمل أسلحتنا فرأينا السيدة حبيبة وزوجها البقال الذي يبدو عليه الخوف جليا تمسك بحجر تلوث بالدم والاثنان يقفان وسط الطريق بقربهم باب خشبية بالية مسندة على جدار دارهم وما أن رأونا حتى ابتدرتنا السيدة حبيبة رغم شجاعتنا وهي تقول باكية:
- لقت رأيت اللصين وهما يحملان هذه الباب ( وأشارت إلى الباب المسندة، على الجدار ) ويضعانها على جدار دارنا ليتسلقها أحدهما فيسرقنا ولكن ما ان رأيته حتى صعدت إلى سطح الدار وكمنت له هناك فما أن برز رأسه أمامي حتى أهويت عليه بهذه الصخرة بكل قوتي فصرخ من الألم وهرب هو وصاحبه بعد أن تركا الباب هنا والدماء تسيل من رأسه.
انبسطت أساريرنا ونحن نضج بالضحك من رواية السيدة حبيبة فقال لها الشيخ سعد الله مهونا:
- عسى الله أن يعيننا على قضاء بقية هذه الليلة بكل خير ففي أولها جريمة قتل وفي نهايتها جريمة سرقة.
وظهر الحارس الليلي الذي كان نائما في مكان ما ووعد بأنه سوف يبذل جهده في مسك اللصوص ونفخ بصافرته فضج الجيران المتجمهرين بالضحك عليه وتفرقنا كل إلى داره وما أن طلع الصباح ورحنا نعد الفطور حتى فوجئنا بصوت بكاء ونواح قرب الدار فخرجنا لمعرفة السبب فرأينا امرأة ورجلا ومعهما أربعة أطفال والجميع يبكون وكأن مصيبة حلت بهم.
سأل الشيخ سعد الله الرجل قائلا:
- ما بكم ولماذا تبكون؟
أجاب الرجل: نحن نفتش عن باب الخربة التي نسكنها فإن لصا قد سرقها ونحن نيام أثناء الليل وان خربتنا الآن بلا باب.
فأشار الشيخ سعد الله إلى الباب المسندة على الجدار المقابل لنا وقال لهم مخاطبا:
- هل هذه هي الباب التي تبحثون عنها انظروا إليها جيدا.
قالوا والفرح يغمرهم بصوت واحد:
- نعم …… نعم انها باب دارنا.
أوعز الشيخ إلى عبد وعبيد أن يحملا الباب ويوصلانها إلى دار أصحابها الشرعيين بدلا من بقاءها أمامنا على الحائط ومضى الرجال الثلاث يحملون الباب المسروقة كما يحملون نعشا تسير خلفه الأم وأطفالها الأربع.
وما أن ابتعدوا حتى ابتدرني الشيخ:
- هل فهمت ما حدث.
قلت صادقا:
- كلا.
فعلق الشيخ قائلا:
- ان اللصين حملا هذه الباب ليجعلاها سلما ليتسلقا بها جدار دار البقال معتقدين بأنه من الأغنياء فهم لا يعرفون بأن داره أفرغ من فؤاد أم موسى ثم حدث ما حدث بعد أن أحست بهم السيدة حبيبة فأمطرت اللص الذي تسلق الباب بوابل من ضرباتها الجهنمية فشدخت رأسه فوليا هاربين.
قلت وأنا أضحك:
- ان لله في خلقه شؤونا.
قال الشيخ باسما:
- تعال لنعد طعام الفطور فأمامي عمل كثير هذا اليوم.
وبعد أيام ذهبت بالشيخ سعد الله كما اتفقنا إلى باب المعظم ليرى مكان، مغامرتنا فأخذته إلى شجرة التوت الضخمة ومنتدى الأصدقاء الصيفي على نهر دجلة والمحل الذي انهزمنا منه أمام الفرسان السباهية والمكان الذي عبرت منه نهر دجلة وكان ترحيب الأصدقاء بنا قرب مكان المغامرة كبيرا سر له الشيخ فأجلسوه بينهم وهم يرحبون بنا وكان أكثرهم ترحيبا كاظم أغا ابن علوش أفندي، وسألتهم عن أخبار الشقي شاكر فقالوا أن المحكمة قد حكمت عليه بالإعدام شنقا هو وشريكه عزيز بتهمة القتل المتعمد لإبراهيم ( أبو الاسطبلات ) قرب الباب الوسطاني فقد تم إلقاء القبض عليهما بعد أن أصيب شاكر بطلق ناري في رجله منعه من الحركة ولولا إصابته تلك فما كان بوسع أحد أن يمسكه.
اهتم الشيخ بما سمع اهتماما كبيرا فقد كانت مثل هذه الحوادث تثير اهتمامه كما تثير اهتمام مستمعيه في مضيفه في الصحراء عندما يعود إليهم حاملا أخبارا مثيرة من بغداد.
سأله الشيخ برجاء:
- متى حدث ذلك؟
أجاب كاظم أغا ابن علوش أفندي:
- منذ أكثر من أسبوعين وقد أصدرت المحكمة قرارها أمس.
فقال الشيخ بفضول هل لك أن تحدثني عن القصة أن كنت تعرفها.
فأجابه محدثه وقد بدت عليه علامات الارتياح:
- نعم فأنا أعرفها بكل تفاصيلها.
قال الشيخ بفضول:
- ليتك حدثتني عنه فأنا متشوق لسماع قصته.
بدا كاظم أغا مسرورا وهو يرى اهتمام الشيخ بما يقصه قد فاق تصوره، فاستطرد قائلا:
- نشأ شاكر طفلا يتيما في محلة من محلات الكرخ وما أن شب عن الطوق حتى بدت عليه مخايل القوة والفتوة ولكنه كان فتى طيبا يقدم بشهامة مساعدته لكل فرد من أفراد المحلة حتى تعرف عليه شخص راح يغريه بالمال ليقتل له أخته التي حادت عن طريق الشرف وأغراه بمبلغ عشرين ليرة من الذهب فكانت جريمته الأولى اتي هرب على أثرها إلى الشام ومنها إلى الحجاز ثم عاد من هناك بعد سنتين وصار الناس يلقبونه ( شاكر ) ولم يكن عمره قد تجاوز آنذاك الثامنة عشر عندما أصبح يحترف القتل وصار أحد الأشقياء المعدودين في المحلة يدافع عنها ضد الأعداء ويقف مع أهلها في، الشدائد. وبعد فترة قتل أحد الصرافين مقابل مبلغ من المال ثم قتل، أحد الصاغة ثم أحد التجار ثم آخرين غيرهم فقد تشبع عقله بالجريمة وصار يخطط لجرائمه تخطيطا متقنا.
وهنا قاطعه الشيخ سائلا:
- ولكن قل لي بالله عليك كيف قبض عليه وهو بهذا التدبير.
فأجابه كاظم أغا ابن علوش أفندي:
- كان أحيانا يشرك في تنفيذ جرائمه مساعدا له يدعى ( عزيز ) وكانت عملية إطلاق النار على إبراهيم أبو الاسطبلات قد جعلت حراس، الباب الوسطاني يفتحون النار عليهما وجرت مقابلة بالنار بينهما فأشار على عزيز أن يقوما بالانسحاب وهما يطلقان النار على الحراس.
إلا ان عزيز من شدة خوفه وارتباكه أثناء الانسحاب أصاب بإحدى، رصاصاته ساق شاكر فسقط أرضا وأشار على عزيز أن يتركه ويهرب ولكن الحراس تمكنوا من محاصرتهما بعد أن جرح عددا منهم.
وعندما طلب منه آمر الحراس أن يرمي سلاحه ويستسلم قال له شاكر:
- أقسم لي بشرفك بأنك سوف لا تهينني أو تعتدي علي بعد أن أستسلم.
فقال له آمر الحراس:
- أقسم بشرفي على ذلك.
وعندها رمى شاكر سلاحه واستسلم للحراس وأن آمر الحراس بعد أن أخذ منه سلاحه ركله بقدمه فنظر إليه شاكر وهو يقول له:
- أقسم بالله العظيم أنك شخص غير شريف.
غص كاظم أغا بريقه وهو يستأنف حديثه فقد كان معجبا بشاكر
- بعد غد سوف يشنق علنا عند اصطبلات إبراهيم في الباب الوسطاني ومعه عزيز بعد أن اعترفا أثناء المحاكمة بأسماء من قتلوا حتى لا يتهم بريء بجرائمهما. كان من بين من اعترفا بقتله عنتر أبو طبر.
فقاطعه الشيخ متسائلا:
- هل نستطيع الذهاب معكم إلى هناك يوم تنفيذ الحكم.
قال كاظم أغا وأيده الآخرون بحرارة:
- على الرحب والسعة ففي مجيئك معنا تشريف لنا. فقد كان من دواعي اعتزازهم أن يكون لشاكر مثل هذا الاهتمام. وتعهد بأنه سوف يأخذنا معه عند ذهابه إلى هناك.
وفي اليوم الموعود ذهبنا إلى الباب الوسطاني وكانت هناك مشنقتان منصوبتان وجمع غفير من الناس ينتظرون ظهور المحكوم عليهم ليستمتعوا برؤيتهم وهما يشنقان بين شامت حاقد ولا مبال سعيد.
وأخيرا ظهر المحكومان بين صف من الانكشارية. كان المحكوم الأول شابا مليحا لم يكن يكترث بما يجري أمامه بل راح يصعد إلى منصة الإعدام بكل ثقة وترفع وهو يسحب رجله المصابة متحاملا على جرحه وكأن هذا الجمع، المحتشد قد جاء لتوديعه والسلام عليه.
أما عزيز فقد انهار تماما حتى رفعه الانكشارية من الأرض وحملوه حملا إلى منصة الإعدام.
اقتربت منهما وعرفتهما فقد كنت أراهما كل ليلة يطلقان النار على أبي فيردونه قتيلا وسط بركة من الدماء وهما يصعدان إلى المنصة المرتفعة وبدون وعي صرخت فيهما بأعلى صوتي وأنا أعتصر من الألم:


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  هلال البياتي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni