... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  رواية

   
قراءة في اوراق هاني بن ال الجراح الطائي - ح 6

هلال البياتي

تاريخ النشر       01/11/2007 06:00 AM


- لماذا قتلتما أبي أيها السفاحان؟
ومن جانبي ندت صرخة عالية من ( عبد ) ملؤها الألم.
- لماذا طعنتني أيها المجرم.
ضمني الشيخ سعد الله إلى صدره وكأنه يحميني من شيء مجهول ثم قال بهدوء:
- انها إرادة الله أن يريك قتلة أبيك وهم يعدمون أمامك.
وانسابت الدموع غزيرة وأنا أذكر والدي ولكن وجود الشيخ وعبد وعبيد وجماهير الناس خير عون في تخفيف لوعتي ثم قال عبد الله وهو يخاطب الشيخ ويشير إلى جسد شاكر الذي راح يتأرجح في الهواء:
- انه هو الشخص الذي طعنني عندما أحاول سرقة أحد خيولك يا شيخ سعد الله منذ أكثر من عشر سنوات.
فقال له الشيخ مواسيا:
- الحمد لله الذي جعلك تنظر بعينيك إلى ما آل إليه حال من حاول الاعتداء عليك.
انتهت حفلة تنفيذ حكم الإعدام بالمجرمين وتفرق الجمهور بين فرح مسرور وحزين مقهور ورأيت أقرباءهما يحملون الجثتين يتقدمهم صديقا له باكيا بدموع سخينة على فقد صديقه الذي طالما أعانه في الشدائد والملمات بشهامة قل نظيرها.
سرنا واجمين إلى الدار والشيخ يردد بصوت خافت:
- لا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي اليوم التالي تهيئنا للرحيل وقبل أن نزور العروسين ونودع آل الجراح كان الشيخ سعد الله في أحسن حالاته فقد أنجز جميع أعماله التي جاء من أجلها على أتم وجه وأراني وثيقة تثبت أن مريم هي الناجية الوحيدة من عائلة، (آل شاهد) التي أبادها الطاعون ولها حق الإرث الشرعي في أملاكهم وأن ( لشاهد ) تاجر النحاس ولدان وان مريم حفيدة ابنه الأصغر.
أما ولده الأكبر فقد سافر إلى الشام وعاش سنينا فيها وان أهله كانوا على علم بزواجه وولادة ابنه. وعندما كان في طريقه إلى بغداد انقطعت أخباره عنهم وقيل ان قطاع الطرق قد قتلوه وقتلوا زوجته وطفله بعد أن سلبوا القافلة التي كانوا فيها.
قال الشيخ سعد الله:
- لقد بعثت إلى إدلاء القوافل الذين كانوا يجتازون البادية بين العراق والشام آنذاك ممن نعرفهم ولهم الدراية بهذا الأمر أن يوافوني إلى الجابرية في نفس موعدنا مع حاجي أغا الانكشاري الذي لم يبق على لقاءنا به إلا أسبوعا.
سكت الشيخ قليلا ثم قال بصوت خافت كأنه يحدث نفسه:
- هناك قصة تشابه هذه القصة سمعتها في مضيف أبي وأنا صغير تتداول بين أعراب البادية وأعتقد أن الحقيقة كلها عند والد ( عويد ) أشهر عرافي البادية فقد سمعتها منه أكثر من مرة آنذاك كما انه شخص موثوق به ومن خيار الأدلاء وربما صار الآن عمره تسعين سنة ولكنه سيوافيني في الجابرية وإذا كان ما سمعته صحيحا فإن الأمور سوف تصبح على غير ما هي عليه الآن.
قلت له جادا وأنا أقاطعه:
- هل لاحظت بأننا كنا على موعد مع القدر فبالأمس عرفت قاتل أبي ورأيته كيف يأخذ جزاءه وكان هذا ما جئت لأجله.
فأجابني متعمدا أن يدير دفة الحديث:
- هل رأيت أصدقائك.
قلت على الفور:
- نعم كما شاهدت أصدقاء أبي وعرضوا علي أن أحل محله مدرسا في جامع السراي وفي نفس المكان الذي تعلمت فيه وشكرتهم على ثقتهم، فوعدوني خيرا.
بدا الشيخ مسرورا بما سمع فقلت وأنا أنظر إليه منتظرا جوابه:
- هناك سؤال يدور في ذهني منذ سنين ولا إجابة له عندي.
لماذا قتل والدي وهو لم يؤذ أحد في حياته؟
قال الشيخ بروية وهدوء:
- ما دمنا قد عرفنا القاتل فسنعرف دافع القتل أيضا فلا تعجل والحكماء تقول ( من جد ظفر ومن لج كفر ) وأنا أعدك بكشف السر.
فأجبته بألم:
- لقد كان إنسانا نبيلا تتمثل فيه كل الصفات الخيرة وعالما تقيا لم أسمع عنه يوما بأنه اعتدى على أحد من الناس فمن هم أعداؤنا يا ترى.
قال الشيخ بأسى:
- فلتترك هذا الحديث الآن. وثق بأني لم أنس هذا الموضوع يوما. ولكن هناك التحفظات وهناك الشكوك فلا يجوز اتهام الآخرين بلا دليل وخاصة في ظرفنا الراهن الذي تزهق فيه أرواح الناس بلا وازع أو ضمير.
فأجبته متسائلا:
- وكيف يمكن الكشف عن الحقيقة؟
فرد الشيخ وقد طافت بوجهه سحابة من الحزن.
- أحسنت يا ولدي فيما تقوله عن الحقيقة فهي غايتنا ولكن اصبر عليها قليلا.
فأجبته:
- بإمكان المرء أن ينسجم دون أن يسامح وأن يسامح دون أن ينسى وقد حسبت تلك الحادثة ستحتجب في بثر النسيان ولكنها تأججت ثانية وأنا أرى المجرمين يعدمان فكم شعرت ساعتها بأني ضعيف أكاد أفقد السيطرة على عقلي وأنا أرى أوهامي وأحلامي التي رافقتني سنينا طويلة تبرز فجأة بكل آلامها لتفقدني ثقتي بنفسي كل يوم.
نظر إلي الشيخ قبل أن يقول:
- حاول أن تكون أكبر من هذه الحادثة فلا تدعها تؤثر عليك أكثر مما فعلت أما الثقة فتكتسب كل يوم.
فاستطردت دون أن أحفل بما قال:
- إني أحس بالتخلف وبقوة تسلط هذه الحادثة لأني فقدت الأمن والراحة.
فقال الشيخ بأسى:
- بل أنت شجاع لا تخشى مواجهة الحياة والحقيقة.
فأجبته وأنا أفصح عن كل مكنونات قلبي أمامه بكل صدق:
لا شيء يبقيني هنا فلأرحل عن هذا المكان فلم يبق لي ما أعيش من أجله أو لأجله سوى معرفة سبب مقتل والدي.
فرد الشيخ وهو يتفرسني بعينين نفاذتين.
- لا شيء سوى الشرف فأنا أحب فيك الشجاعة والعناد وإذا لم يبق ما تعيش لأجله أو تقاتل من أجله فاعلم بأن كل محارب يحلم أن يموت ميتة شجاعة فهكذا علمتنا الصحراء. قلت وقد بلغ بي الأسى حدا لم أستطع فيه أن أكتم ما بنفسي وكان ثقل السنين التي تجثم على صدري قد برزت الآن كشخص قطع شوطا طويلا وهو يعدو ولم يصل إلى نهاية المطاف:
- لم يعد العالم شيئا يستحق المرء أن يعيش فيه فلم تعد هناك حكايات أو كلام سوى الحقيقة الوحيدة وهي أن لا مفر من الموت أما النهاية فلا شيء سوى قبر بين القبور.
قال الشيخ بنبرة لطيفة وهو يربت على كتفي:
- هون عليك يا بني ولا تدع الأفكار السوداء تستولي عليك فمن مهدنا إلى لحدنا ونحن نريد أن يسمعنا الناس ولكنهم لا يسمعون فالمرء يبني حياة كاملة قبل أن يصل إلى هدفه ثم أمسك بيدي وهو يسحبني خارج الدار ويقول:
- هيا بنا نودع آل الجراح قبل أن نذهب إلى دعوة العشاء التي يقيمها لنا أخونا كاظم أغا بن علوش أفندي ففي فجر الغد سنكون في طريقنا إلى الجابرية. ثم نادى على عبد وعبيد وهو يقول لهم:
- هيا بنا لنودع آل الجراح قبل أن نمضي للعشاء عند كاظم أغا ابن علوش أفندي. وما هي إلا لحظات حتى خف الحكيم عبد الوهاب أغا الجراح لاستقبالنا مخاطبا الشيخ سعد الله بصوت خفيض قبل أن يدخلنا إلى غرفة الضيوف:
- هناك مفاجأة بانتظارك يا شيخ سعد الله.
كانت المفاجأة سيدة عجوز ترتدي الزي التركي وأرخت عن وجهها نقابا شفافا، وتلفعت بغطاء ثمين للرأس ويبدو من زيها وحليها ومظهر الخادمة الشابة التي تقف وراءها الثراء والغنى وجلس بجوارها صبي في العاشرة من العمر جميل، الصورة يشبهها في ملامحها التي لا زالت على جانب كبير من الجمال رغم كبر سنها. دخل الشيخ الغرفة مسلما وما أن نظر إلى السيدة العجوز حتى رأيته مرتبكا وأخذ يتشاغل بتعديل وضع عقاله وكوفيته على رأسه وقد بدت عليه البغتة إلا انه تمالك نفسه وسلم بأدب جم ونبرة لطيفة وقد انبعثت من عينيه نظرة ود تلقتها السيدة العجوز بابتسامة راضية وقد احمر وجهه وهي تنظر إليه بإمعان بعد أن ردت السلام قائلة:
- يبدو انك لم تتغير كثيرا يا سعد الله رغم هذه السنين الطويلة.
قال الشيخ وهو لا يزال مذهولا:
- الحمد لله على كرمه إذ جعلنا نلتقي وما زلت سيدة الجميلات في بغداد واسطنبول.
ضحكت العجوز بجرس لطيف وقد بدا ارتياحها واضحا وهي تقول:
- استحي يا سعد الله. فما زلت على شقاوتك رغم علمي بأنك صرت شيخا لعشيرتك تقطع الطرق وتثور على جلالة البادي شاه سلطاننا المعظم وتعالا فاجلسا بقربي.
حانت مني التفاتة ونحن نجلس إلى الحكيم عبد الوهاب أغا الجراح وقد بدا سعيدا مستمتعا بما يجري أمامه مثبتا نظره على الشيخ سعد الله وهو يتودد إلى السيدة ويقول:
- العفو أفندم فأنتم ما زلتم قساة القلوب كعهدكم دائما على من يبدون لكم الطاعة والخضوع.
فردت العجوز متأثرة وتنهدت قائلة:
- لقد ذهب الكثير ولم يبق إلا القليل والحمد لله الذي جعلني أراكم قبل أن أموت. رد الشيخ سعد الله بتأثر صادق يكاد ينطق من عينيه قبل لسانه:
- لا تقولي ذلك ( يا انجي هانم ) أبقاك الله لنا ومتعك بالصحة والعافية وجعلك ذخرا نعتز ونفتخر به ويشهد الله أني لم أنس يوما أفضالكم علينا. ردت العجوز وقد استعادت هدوءها قائلة:
- قل لي يا سعد الله كم زوجة وكم ولدا لديك الآن؟
قال الشيخ بلطف:
- زوجة واحدة وبنت واحدة ستتزوج عن قريب ولا أحد سواهما. وأنت يا انجي هانم ما هي أخبارك ومن هذا الصبي اللطيف.
أجابت السيدة العجوز وهي تنظر للصبي الجالس بجوارها بحنان:
- انه شامل حفيدي ابن ولدي محمد فقد توفى والدي كما توفى زوجي رحمهما الله أما ابني محمد فلا زال ( بيرقدارا ) في الحرس السلطاني مع إبراهيم قره جهنم.
نظر الشيخ سعد الله إلى الحكيم عبد الوهاب أغا مستفسرا فقالت السيدة موضحة:
- ألم ترد الأخبار إلى بغداد عن إلغاء الجيش الانكشاري وإبادته.
رد الحكيم عبد الوهاب أغا موضحا:
- نعم فقد سمعنا بأن السلطان أرسل إلى الولاة في كافة أنحاء المملكة يأمرهم بإلغاء وإبادة جيوش الانكشارية في مناطقهم وإحلال النظام الجديد محلها. أما في بغداد فقد آثر داود باشا أن لا يبيد الانكشاريين فقد جمعهم في السراي ورجاهم والدموع تترقرق في عينيه أن يطيعوا أمر السلطان وينخرطوا في النظام الجديد وقد تم له ما أراد.
ردت العجوز بشيء من الحدة دلت على مزاجها التركي:
- ان هذا الداوود باشا لم يكن صادق النية في القضاء على الانكشاريين، طبقا للأوامر الصادرة إليه. وهو أمر يطول شرحه ولكني أقصه عليكم، باختصار كما سمعته من ولدي محمد وأردفت قائلة:
" قبل أكثر من ثمانية عشر عاما وقبل أن يجلس سلطاننا الحالي محمود الثاني على العرش ثار الانكشاريون على السلطان السابق سليم الثالث وقتلوه بعد أن حاول أن يدخل إلى الجيش ما يسمى ( بالنظام الجديد ) الذي يقوم على أساس التعليم العسكري وفق الأساليب الأوربية يؤازرهم المفتي وبعض العلماء وقسم من رجال الدولة وأوحوا إلى الانكشاريين بأن النظام الجديد بدعة مخالفة للشرع الحنيف والقرآن الشريف. فثار الانكشاريون برئاسة رجل منهم هو ( قبانجي أوغلي ) فجاؤوا بقدورهم وصفوها في إحدى الساحات علامة على العصيان وهجموا على بيوت الساسة الذين يؤيدون النظام الجديد فقتلوهم وجاءوا برؤوسهم إلى الساحة وصفوها أمام القدور ونصبوا السلطان مصطفى الرابع. ولكن دعاة الإصلاح قاموا بثورة مضادة بقيادة مصطفى باشا البيرقدار بعد سنة واحدة وزحفوا على العاصمة واستولوا على الحكم ونصبوا على العرش سلطاننا الحالي محمود الثاني وكان عمره آنذاك أربعا وعشرين سنة. وجعل مصطفى باشا البيرقدار وزيره الأعظم. ولكن الانكشاريين ورجال الدين المؤيدين لهم أعلنوها ثورة شعواء بعد ثلاثة أشهر وأحرقوا الوزير مصطفى باشا في السراي وهم يهتفون:
" ان ولي الله بكتاش قد بارك الجيش الانكشاري عند تأسيسه ودعا له بالنصر الدائم وان بركته ودعاؤه يغنيان عن كل تعليم ".
وحملوا قدورهم وصفوها في إحدى الساحات مرة ثانية وانتشرت الفتنة في أنحاء اسطنبول واشتد القتال بين الجيش الانكشاري وحرس السلطان. وكان زوجي وولدي محمد يقاتلان مع حرس السلطان واشتعلت النيران في عدة مناطق من المدينة كما انفجرت المستودعات العسكرية الضخمة المليئة بالبارود والعتاد.
واضطرت الأحداث السلطان محمود الثاني أن يصدر فرمانا يعلن فيه إلغاء عادات الفرنج التي استحدثت في الجيش ويشجبها ويلعنها وأعاد كل شيء إلى قدمه وأذعن لمطالب الانكشارية ليتمكن من إنقاذ اسطنبول التي كادت أن تكون طعمة للنيران. واستشهد زوجي وجرح ابني محمد وظل السلطان يترقب الفرصة لضرب الانكشارية وبعد ثمانية عشر عاما من توليته الحكم وكانت سمعة الانكشارية قد وصلت إلى الحضيض جراء الهزائم المتتالية التي لحقت بهم في حروب البلقان وأوربا الشرقية وكان السلطان قد استحصل فتوى بأن الجيش الإسلامي يجب أن يخضع للتدريب المنظم كي يتمكن من مقاتلة الكفار. ولم يهن ذلك على الانكشارية الذين اجتمعوا في أحد الميادين وأعلنوها ثورة على السلطان ثم تقدموا بجموعهم نحو السراي وكان السلطان قد استعد لهم ونصب في مكان ما عددا من المدافع بقيادة إبراهيم قره جهنم ومعه ابني محمد.
قال الحكيم عبد الوهاب أغا مخاطبا الشيخ سعد الله:
- ان قره جهنم معناها جهنم السوداء ويبدو أنه جهنمي فعلا واستطردت العجوز قائلة
- استقبل قره جهنم حشود الانكشاريين بقصف مركز من مدفعيته بحيث صاروا وكأنهم في جهنم فعلا. فتراجعوا إلى ثكناتهم بعد أن سقط منهم قتلى وجرحى كثيرون ولكن إبراهيم لاحقهم وأخذ يصب قنابله على ثكناتهم فدمرها وأشعل النيران فيها. وقد خرج بعض شجعانهم والسيوف بأيديهم غير انهم قتلوا ولم يسلم منهم أحد وجرت بعدها في كثير من المدن التركية الأخرى مذابح للانكشاريين تشبه مذبحة اسطنبول ولكن على نطاق أضيق. أما في بغداد فإن التقارير التي وردت منها إلى اسطنبول تؤكد بأن داوود باشا لم يطبق الأوامر كما وردت إليه.
فقال عبد الوهاب أغا يخاطب السيدة بعد أن سكتت:
- بارك الله في ولدك وأظنه يشبه جده في شجاعته فقد كان والدك رحمه الله مفخرة محلتنا وكنت أستيقظ صباح كل يوم على وقع حوافر جواده يقوده السائس إليه ليذهب به إلى القلعة قبل أن تنتقلوا إلى اسطنبول فقد كان عسكريا عظيما فأجابته السيدة قائلة:
- شكرا لك على إطراءك ولكن ذلك لا يعطيك الحق في رفض هديتي يا وهبي فقال عبد الوهاب أغا يعاتبها:
- أي حق يا ( انجي هانم ). انك تشتميني في داري فهل من المعقول وأنا الذي ساعدني والدك رحمه الله في الذهاب إلى اسطنبول لأدرس الطب وأخوك رحمه الله صديقي وكنتم جيران العمر إن أخذ ثمن دواء منكم لا يساوي ثلاثة قروش. ردت العجوز باسمة وهي تسمع عتاب عبد الوهاب أغا الجراح تخاطب الشيخ سعد الله برجاء:
- فلتكن حكما بيننا يا سعد الله فعبد الوهاب بدأ يغضبني بما يقول.
قال الشيخ وهو يفرك يديه مسرورا:
- أنا في خدمتك دائما يا سيدتي وأنت أعرف من غيرك بذلك فأخبريني بما جرى بينك وبينه وستريني رهن إشارتك فعبد الوهاب بدأ يغضبني أنا أيضا.
سكت عبد الوهاب أغا وهو ينظر إلى الشيخ سعد الله تارة والى السيدة العجوز تارة أخرى فقالت السيدة:
- جئت إلى بغداد وأنا في طريقي إلى بيت الله لأحج هذا العام ومعي حفيدي مريضا – وأشارت إلى الصبي – ليحج معي ولأعرضه على الحكيم عبد الوهاب أغا بعد أن قرر الأطباء في اسطنبول إرساله إلى بلاد الفرنج لإجراء عملية جراحية له فقد طعنه أحد أصدقاءه التلاميذ في المدرسة بمسمار في رقبته تورمت على أثرها وراحت تنزف صديدا ومنذ أشهر لم ينقطع نزف الصديد منها وقبل أربعة أيام وصلنا إلى بغداد فجئت به إلى عبد الوهاب أغا الذي عالجه وشفاه ولما أردت أن أجازيه وأشكره على ما فعله رفض هديتي والرسول ( ص ) قبل الهدية، فهل يجوز ذلك يا شيخ سعد الله.
قالت ذلك وهي ترشوه بابتسامة كبيرة.
بدا الشيخ مسرورا لدى سماعه السيدة تستنجد به فقال مخاطبا عبد الوهاب أغا:
اتق الله يا وهب الجراح ولا تجعل ضيفتنا الغالية تغضب علينا واجعلها إكراما لخاطري أنا أيضا فهل نسيتني كما نسيتها.
رد الجراح العجوز بغضب وهو يقف مربوع القامة وقد تهدلت خداه العظيمتان وشعيرات رأسه الأصلع وأصبح حاجباه أشبه بمثلث فقد قاعدته وقد برز كرشه خلف منضدته ثم جلس وهو يقول:
- حسنا يا سيد الحكام أنت تعلم أني لا آخذ من أهالينا وأبناء محلتنا أجرة للفحص وانما أكتفي بثمن الدواء فقط وهذا قانون لا أحيد عنه ويعرفه الجميع ويقبلون به ولأجلكما فسوف آخذ ثمن الدواء منها فهل ذلك يرضيكما؟
رد الشيخ سعد الله عليه برجاء وهو ينظر إلى الهانم العجوز:
- ان الحق يرضي الجميع ولكن ( لانجي هانم ) اعتبارات خاصة وأنت سيد العارفين.
قال عبد الوهاب أغا بثورة مكبوتة:
- حسنا يا سيدي فسلها كم تريد أن تدفع ثمن الدواء.
قالت السيدة تخاطب الشيخ سعد الله باسمة:
- كيس صغير واحد فقط.
قال الشيخ سعد الله: وأين ذلك الكيس دعونا ننتهي من الموضوع لنستمع لأخبار السيدة ( انجي هانم ).
التفت السيدة إلى الفتاة الواقفة خلف كرسيها فوضعت الفتاة كيسا ثقيلا من النقود أمام الشيخ الذي قال وهو يتفحص الكيس متعجبا.
- ان كيس الفضة هذا يساوي ما قيمته خمس مائة قرش فكم هو سعر الدواء؟
قال عبد الوهاب أغا وقد احمر وجهه من الغيظ.
- ان قيمة الدواء ثلاثة قروش فقط ولا آخذ غيرها حتى من العزيزة ( انجي هانم ) فهل جزاء الإحسان أن يجرح إحساسي بلا سبب.
سكت الجميع فقلت دون قصد مني:
- ليأخذ عمي عبد الوهاب ثلاثة قروش وليوزع باقي الكيس على فقراء محلة " عيفان الفضل ".
ضحكت السيدة العجوز فهدأت النفوس وقالت تخاطبني بلطف شديد:
- من أين ظهرت لنا أيها الشاب الوسيم فمن أنت؟
قال الشيخ سعد الله:
- انه هاني حفيد صديقتك المرحومة خديجة والدة عبد الرحمن والد هاني وعمه عبد الوهاب أغا وخالتي.
قالت السيدة تخاطبني وبدت وكأنها تعرفني منذ زمن بعيد.
- نعم … كنت أعرف والدتك أيضا. فأنت تشبهها كثيرا وأظنها توفيت عندما كان عمرك سنتين وفي زيارتي الأخيرة لبغداد سمعت بمقتل والدك رحمه الله.
فأجاب عبد الوهاب أغا وهو يخاطبني:
- بارك الله بك يا هاني ما دامت الهانم قد رضت بحكمتك.
فردت انجي هانم تخاطبه:
- قل لي يا وهب ما نوع الدواء الذي وضعته على رقبته ( وهي تشير إلى حفيدها الجالس بجانبها ) حتى شفاه الله بهذه السرعة فانقطع النزف واختفت الأورام ثم قالت تخاطبني:
- تعال فانظر بنفسك يا هاني.
نظرت إلى أثر الندبة على رقبة الصبي وقد بدت طبيعية بعد رفع الضماد عنها.
قال عبد الوهاب أغا الجراح:
- انه سر المهنة يا سيدتي والشافي هو الله وحده وسوف أعطيك قليلا منه لتأخذيه معك ومتى ما احتجت إليه فما عليك سوى أن تخلطيه مع قليل من حليب أم مرضعة وتعجنيه وتضعيه على مكان الجرح.
تشعب الحديث متواصلا بينهم ورحت أصغي إليهم وقد انطلق الشيخان والسيدة العجوز يستمتعون بحرارة الذكريات الماضية تعلو وجوههم الابتسامات وتنطلق الضحكات من قلوبهم صافية وهم يتحدثون عن ليالي بغداد الرائعة وطفولتهم السعيدة وأيام الصبي الخوالي الهانئة تغمرهم مشاعر انسانية دافئة، هبت عليها نسمات ربيع مضى أوانه وجمعتهم صدفة زمن في خريف حياتهم قبل أن يدركهم الشتاء ويتفرقوا.
قالت انجي هانم ضاحكة تخاطب الشيخ سعد الله:
- لقد كنت صغيرة جدا عندما كنت أراك أمامي في كل مكان أذهب إليه مع مربيتي العجوز وكنت أرثي لحالك كلما فتحت باب دارنا ووجدتك أمامي فقد كنت أظنك من أبناء محلتنا وما أن علمت بأنك من أبناء شيوخ البادية حتى ثارت ثائرتي من الغيظ فأنا لا أريد أن يعجب بي بدوي مثلك.
قال الشيخ متصنعا الأسى:
- هكذا حالي دائما فالدنيا حظوظ.
فرد عبد الوهاب أغا مخاطبا الشيخ سعد الله:
- وما الذي حصل عليه غيرك من أصحاب الحظوظ غير وجع القلب وسهد الليالي من أبناء محلتها الكرام.
ضج الثلاثة ضاحكين وقد ظهرت عند باب الغرفة المفتوحة العروس رحمة وزوجها حميد وهما يستأذنان السيدة انجي هانم ليذهبا بها لزيارة بعض الأقارب. فجددنا التهنئة للعروسين متمنين لهما حياة سعيدة وأبلغناهما بسفرنا غدا. نهضت السيدة العجوز ومدت يدها تصافح الجميع وتجفف بالأخرى دموعا انسابت على خديها وهي تودع الشيخين.
فقال الشيخ وهو يقبل حفيدها مودعا:
- سوف أبعث لك حصانا أصيلا يليق بمقامك ( يا بك ) وستجده أمامك في اسطنبول عندما تعود إليها سالما.
بان السرور على وجه السيدة وحفيدها وقالت برجاء:
- أرجو أن لا تنسى ذلك يا سعد الله.
فرد الشيخ وهو ينظر إليها قبل أن تغيب مع حفيدها وخادمتها برفقة العروسين خارج الدار.
- معاذ الله أن أنسى ( يا انجي هانم ) وبلغي سلامنا إلى ابنك البيرقدار ولكل من نعرفهم وحج مبرور وسعي مشكور وعود حميد ان شاء الله.
وقبل أن تغلق باب الدار خلفهم قال الشيخ سعد الله مخاطبا عبد الوهاب أغا:
- لقد رأيتها قبلي منذ ثلاثة أيام ولم تخبرني فماذا أقول عنك يا وهب.
قال عبد الوهاب أغا باسما:
- لا تقل أي شيء فلا أدري إن كنا سنلتقي ثانية وأرجو لكم سفرة سعيدة ثم نادى على عبد وعبيد وصافحهما بود وصداقة وبقى الشيخان يتحدثان على انفراد برهة من الوقت قبل أن يلحق بنا الشيخ سعد الله إلى الطريق وصوت الجراح يردد خلفنا:
- لتصحبكم السلامة.
ورحنا نجتاز الزقاق متجهين إلى دار صديقنا العزيز كاظم أغا ابن علوش أفندي.
فقال الشيخ وهو يضع بعض المال في جيبي:
- ان عبد الوهاب أغا أرسل لك هذا المبلغ عن إيجار الدار والدكان.
قلت شاكرا:
- شكرا لك وله.
فقال الشيخ:
- ان احتجت إلى أي شيء فإن ما لديك من الإبل والأنعام التي ترعى في البادية مع حلالنا ثروة صغيرة تنفعك مما تركه لك والدك عندنا.
قلت مسرورا:
- شكرا لك يا شيخ سعد الله على كرمك وأقسم لك بأني نسيتها.
قال الشيخ بمرح:
- وهل ترانا نسيناك يا ولدي.
وما هي إلا خطوات حتى وجدنا كاظم أغا عند باب داره الكبيرة يقف بانتظارنا ومعه أحد خدمه الذي فتح بابا صغيرة من داخل الباب الكبيرة ودلفنا إلى غرفة الضيوف وكاظم أغا يرحب بنا.
فقال الشيخ سعد الله وهو يشير إلى كاظم أغا وقد بدا شابا أنيقا وسيما أفنديا وجيه المنظر في الثلاثين من العمر عسلي العينين مفتول العضل قوي البنية مموج الشعر.
- لقد كنا نسميه الشاب الظريف في المحلة لاعتزازنا به.
ثم التفت إليه وقال ضاحكا:
- أرى انك ما زلت على ما كنت عليه فلم تتغير لا في شهامتك ولا وسامتك يا كاظم أغا.
فقال الأغا الشاب وقد طافت على وجهه ابتسامة لطيفة:
- لو درى علوش أفندي بأنكم عندنا لترك بستانه في " الصليخ " وجاء ليراك فهو يذكرك بالخير دائما.
فقال الشيخ يخاطبني:
- ان علوش أفندي من أوائل الذين ارتدوا الزي الأفرنجي في بغداد تشبها بالسلطان محمود الثاني الذي شجع الناس على ارتداءه بعد أن ارتداه هو لكونه من دعاة التجديد فاستبدل الطربوش الأحمر بالعمامة وجعله الزي الرسمي في الجيش ودوائر الدولة ولهذا ارتداه علوش أفندي وتلقب بالأفندي.
كانت غرفة الجلوس واسعة مرتبة تغطي أرائكها وكراسيها جلود وبسط ثمينة وتوزعت فيها تحف شرقية متنوعة من بلاد الصين وآسيا الوسطى تثير العجب وعلقت على حيطانها أنواع من السيوف والرماح والقسي والتروس والأقنعة الغريبة. رحت أنظر إليها متعجبا فتعثرت وأنا أجلس بجانب الشيخ بمنضدة عليها أدوات للكتابة وبضعة أوراق سقطت واحدة منها تحت المنضدة على بساط ثمين فرفعتها وأرجعتها إلى مكانها دون أن أقرأ ما فيها فقال الشيخ لكاظم أغا:
- أتراك تؤلف كتابا في الفقه واللغة يا كاظم أغا.
فقال الأغا الشاب مبتسما وكأنه تذكر أمرا:
- كلا يا شيخ سعد الله انما هي أبيات من الشعر كتبتها منذ زمن.
قلت على الفور يدفعني شوق عارم وفضول شديد:
- هل تسمح لي أن أطلع على أشعارك يا كاظم أغا.
قال الأغا الشاب ممتنا:
- تفضل وبكل سرور وأرجو أن تعجبك.
فقال الشيخ سعد الله ضاحكا:
- اسمعني يا هاني فأنا أهوى الشعر أيضا فالعربي يولد شاعرا وكل عربي لا يولد شاعرا ينظر إليه بعين الريبة.
فرفعت الورقة التي سقطت ورحت أقرأ للشيخ سعد الله:
رسالة لفتاة قرغيزية
إلى فنارها القصي
عن سرنا الخفي
في الزمن الشقي
شبابنا الزهي
لثغرك الشهي

يا قمري العلي
والغسق الندي
وكل ما لدي
في الموعد الخفي
في حلم سوي

لعطرك الزكي
لنورك البهي
عن حبك القوي
والكوكب الدري
والحلم الوردي

عن شهدنا الجني
ما قال به نبي
وصوتك الشجي
من خلقك الرضي
عنوانك القصي
من أول الدنيا
أكتب يا حبيبتي
عن حلمنا وحبنا
فحلمنا يا منيتي
أو قبلة أرسمها

أكتب عن لقاؤنا
والشمس في غروبها
وأنت لي قصيدتي
أسعدني لقاؤنا
فهل ترانا نلتقي

قد عاقبوني مرة
وعذبوني مرة
لأنني حدثتهم
والليل في أحضاننا
والحب في زماننا

أكتب يا حبيبتي
فلم أعد أذكر
اسمك قد نسيته
وكل ما أحببته
وضاع من ذاكرتي

قال الشيخ مستمتعا:
- اقرأ يا هاني من هذا الشعر المهموس فإنه جميل.
فأخذت ورقة ثانية وقرأت:
أغنية لدار السلام
بغـــداد كانــت تــرتــدي حلــل الربيع
والشــمس يغمـــر دفــؤها قـلب الصـقيع
والنــــور لـــؤلـــؤة تــألــق بـالســـطوع
ألق الشباب يزفها حسناء ما بين الجموع

أوقفت راحلتي على البلد المعطر بالخشوع
وسألتها هذا الجمال ألا تجودي أو تبيعي
هــذا الشــباب بــك المشوب بذا النجيع
للقــادم الآتــي إليـك بكل أسراب الدموع
قالت ولا بقصائد الشعراء حسني بالمبيع
بدا لي الشيخ سعد الله متأجج العواطف حالما وهو يستمع إلى الشعر فقلت في نفسي لعل لقاءه بانجي هانم جعله شاعريا وهو يخاطب كاظم أغا:
- انك يا كاظم أغا شاعر مطبوع فالشعر المهموس الذي سمعته من أرق الشعر وألطفه وإنه في رأيي هو الشعر الحقيقي. ولكن قل لي من فضلك من هي قرغيزيا هذه.
فأجاب كاظم أغا ضاحكا:
- انها بلاد زوجتي فهي من بلاد التركستان الشرقية ووالدها من أمراء تلك الأصقاع البعيدة التي اسمها قرغيزيه.
قال الشيخ بفضول:
- وأين تقع تلك البلاد وأظني سمعت بها من قبل.
فأجابه كاظم أغا والابتسامة تعلو وجهه:
- انها تقع على حدود بلاد الصين ويفصلها عنها حاجز عظيم من الجبال تسمى ( جبال تيان شان ) وتسمى أيضا بلاد القرغيز على اسم الشعب الذي يسكنها وهي بلاد سهوب ومراع عظيمة تنتج فيها الخيول وخرافهم تختلف عن خرافنا فلها ذنب.
قال الشيخ: قد سمعت عنها ووددت لو زرتها.
وانقطع حديث الشيخ بعد أن سمعنا طرقا خفيفا على باب الغرفة فنهض كاظم أغا إلى خارج الغرفة ثم دخل ودخلت معه الغرفة سيدة شابة ترتدي زيا تركيا جميلا ومعها غلامان وهو يقول:
- ان زوجتي الأميرة جميلة تستأذن للترحيب بكم مع ولدي سلطان وأنور.
نهضت من مكاني وهب الشيخ واقفا وهو يقول:
- على الرحب والسعة فلتتفضل.
بدت السيدة الشابة جميلة الملامح ذات وجنتين مرتفعتين وعيون مشروطة لوزية الشكل معتدلة القوام بين صبيين تجاوزا العاشرة من العمر أحدهما أشبه بكاظم أغا والآخر أشبه بها.
قالت السيدة بلغة عربية ضعيفة:
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجبناها: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ودفعت الصبيين نحو الشيخ فقبلا يديه فقبلهما أما أنا فقد صافحتهما بحرارة وقوة.
خاطبت السيدة الشيخ سعد الله:
- ادع الله لهما ولزوجي أن يحفظهم من كل سوء فأنتم شيوخ العرب من رجال الله.
فقال الشيخ بتواضع خجول:
- العفو يا سيدتي فما أنا إلا عبد من عبيد الله ثم رفع يديه بالدعاء لها ولولديها ولزوجها.
وخرجت السيدة وولديها كما دخلوا بكل هدوء ووقار وجلس الشيخ والحيرة تلوح على وجهه يخاطب كاظم أغا:
- أتسمح لي أن أسألك؟ هل السيدة زوجتك من أقرباءك؟
فضحك كاظم أغا وقال مازحا:
- كلا فأنا من قبيلة طي وهي من بركات علوش أفندي.
قال الشيخ والفضول يطغي على صوته ولم يفهم ما عناه كاظم أغا:
- وكيف ذلك إن سمحت لي ولا تحسبها سماجة مني إن سألتك.
فرد كاظم أغا بلطف وهو يقول خجلا:
- أنت أخي يا شيخ سعد الله فقد تزوجت قبل خمسة عشر عاما وكنت آنذاك في العشرين من عمري بعد أن توفيت والدتي وأصاب الإحباط علوش أفندي. ولم يكن له أحد سواي بعدها. فأشار عليه الحكيم عبد الوهاب أغا الجراح أن يذهب في سفرة طويلة للنسيان وفعلا سافرنا مع قافلة كبيرة تضم الكثير من الحجاج التركمان القادمين من أواسط آسيا وجمعته الصداقة مع مفتي تلك الديار وكان معنا في القافلة واسمه ( خير الدين ) فكان هو ووالدي يبذلان جهدهما في تعليم الحجاج مناسك الحج وشعائره فأحبه الجميع وصار بدوره يرتاح لهم وعند عودتنا إلى بغداد عرض ( خير الدين ) أن نذهب معهم إلى ديارهم لمعاونته في أمور الدين على أن نعود إلى بغداد بعد ثلاثة أشهر.
ولما سألني والدي عن رأيي وافقت على الفور فقد كان من دواعي سروري أن أرى مثل هذه البلاد وهكذا سافرنا إلى بلاد القرغيز وبعد مسيرة شهر ونصف تقريبا لاحت لنا جبال ( تيان شان ) وبقينا هناك ثلاث سنوات تزوجت خلالها وعدنا إلى بغداد.
قال الشيخ ضاحكا وهو يشير إلى غرفة الجلوس:
- فبالرفاه والبنين وإن جاءت تهنئتي متأخرة قليلا ولكن اسمح لنا أن نلقي نظرة على هذه التحف التي تعد كنوزا فلم أرى شبيها لها من قبل.
نهض الشيخ فنهضت معه ورحنا نتطلع إلى جلود الحيوانات والبسط الثمينة التي تغطي الأرض والأرائك ونتطلع إلى الحيطان التي علقت عليها تحف ثمينة أكثرها من بلدان وسط آسيا والتركستان والصين من السيوف والرماح والتروس والأقنعة الغريبة التي تثير العجب وتستهوي النظر. وجلس كاظم أغا بن علوش أفندي تطوف برأسه ذكريات آثارها حديثة مع الشيخ سعد الله الطائي.
" تذكر كيف رأى جميلة لأول مرة وكيف أحبته وصارت قصة حبها له مضرب المثل في طرافتها يتندر بها الناس هناك وهم يلقبونه ( بالبغدادي الوسيم ) كانت جميلة تغار عليه أيامها من النسيم – كما يقولون – وتود لو تصفع كل فتاة تقترب منه وهي تقول لصديقاتها:
- ان حب البغدادي الوسيم عذاب سلطه الله علي بسبب دعاء فتاة صغيرة ظلمتها عندما اعترضت على زواجها من شاب من أقربائنا أردت أن أزوجه إلى إحدى صديقاتي المقربات وقد توسلت بي الفتاة الصغيرة أن أتركها وشأنها ليتم زفافها على من تحب وأن لا أضع المصاعب والعراقيل أمام زواجهما وكم قالت لي متوسلة:
- اني أحبه من أعماق روحي وقلبي وسأموت لو تزوج بفتاة غيري.
كانت الفتاة الصغيرة تبكي ودموعها تسيل بغزارة على وجنتيها العريضتين الورديتين وتنساب من عيونها وتنداح حول شفتيها وتسقط على رقبتها وصدرها كالماء فقد كانت تتعذب. ولكن جميلة المتسلطة المغرورة لم تعر عذابها أي اهتمام وهددتها بسوط حصانها أمام الفتيات بأن ترضى بما قسم لها. ولما لم تجد الفتاة من نصير يعينها وقد تركت وحيدة نظرت إلى السماء ودموعها تغطي وجهها وخلعت الملاءة التي تغطي جدائل شعرها الفاحم وكشفت عن صدرها وخاطبت السماء بصوت سمعته كل الفتيات:
- ( اللهم ابتل جميلة بالحب واجعلها تحب أكثر مني لتذوق طعم العشق فتعرف مرارته يا شفيع من لا شفيع له وانظر لحالي ولقلة حيلتي وقد رضيت بقسمتك ان كان لا بد منها ولكني أسألك أن أتزوج حبيبي بالرغم منها لتعرف أن للدنيا ربا رحيما بقلوب العشاق ).
لم تأبه جميلة بطبيعة الحال لدعوة الفتاة وتركتها مع دموعها وامتطت حصانها وغادرت المكان ولكن أحست ثمة شيء غريب هز كيانها من فرعها حتى أخمص قدميها وقد اقشعر بدنها من دعاء الفتاة الصغيرة ولكنها لم تأبه له فكلامها يجب أن ينفذ ولها الصدارة على كل الفتيات.
ولم تمض إلا بضعة أيام عندما عادت إلى الأهل قافلة الحجاج ومعهم ضيوف غرباء قيل انهم من مدينة بغداد المقدسة تلك المدينة الغامضة التي تسمع عنها قصص كالأحلام فقد رحل إليها الكثيرين من أجدادها وأقرباءها منذ زمن بعيد وصاروا قوادا كبارا فيها وأصابهم الجاه والثراء وعاشوا عيشة الملوك يتحكمون في بغداد ويسترضونهم خلفاءها ويتقربون منهم.
ودفعها فضول فتاة في السادسة عشر من عمرها لرؤية هؤلاء الضيوف ولما قدمها والدها وإخوانها الثلاث إلى السيد علوش أفندي ارتاحت له ولكنها عندما نظرت إلى ابنه الشاب وهي تمد يدها لتصافحه أخذها العجب فقد كانت تتنسم كل ليلة عطرا هو نفس العطر الذي يتمضخ به هذا الشاب اللامبال الماثل أمامها بكل وسامته فقد كان الفارس الذي تحلم به كل ليلة وهي تستنشق عطره عندما يحملها على جواده ففارس الأحلام هذا هو من ابتلت بحبه وجفاها النوم بسببه.
وأرسلت إلى الفتاة الصغيرة تقول لها:
- تزوجي من حبيبك وادعي لي بالخير.
ثم ذهبت بنفسها تسألها الصفح قائلة لها:
- هل هذا هو الحب.
قالت الفتاة الصغيرة:
- انها النار التي تحرقني أو الخدر اللذيذ الذي يصيبني عندما أرى حبيبي حتى لو لم يأخذني بين ذراعيه.
فأجابتها جميلة بـ:
- نعم اني أعرفه وانه لذيذ.
فردت عليها الفتاة بقوة المظلوم الثائر:
- ولكنك قاسية ولن ينفتح قلبك للحب فلا يمكنك أن تعرفيه وعندها لم تستطع جميلة أن ترد على الفتاة بل رمت بنفسها بين ذراعيها باكية معتذرة وقالت لها:
- لقد استجاب الله لدعائك فإني أموت شوقا عندما أراه. وسرعان ما عرف الجميع سر اهتمامها بالبغدادي الوسيم وراحت الفتيات عندما يردن إغضابها يتوددون إليه أو يتحدثن معه فتثور ثائرة جميلة وتود لو تنهر تلك الفتاة أو تصفعها على الأقل.
وفي تلك السنة أنتجت سهوب القرغيز ومراعيها خيرا كثيرا عوضتهم عن سنين سابقة. فتزوج الكثير من الشباب وعمت الولائم والأفراح وحفلات الزفاف. ولم تنته السنة إلا وتزوج كاظم بن علوش أفندي من التركستانية الحسناء ذات الستة عشر ربيعا. وفي السنوات الثلاث التي قضوها هناك ولدت جميلة ابنها سلطان فكان أشبه بوالدها ثم ولدت أنور الذي يشبه والده.
ولما حانت عودة علوش أفندي إلى دياره خيرها أبوها بين بقاءها بين أهلها وعشيرتها وبين الذهاب مع زوجها فلم تتردد لحظة واحدة في أن تذهب مع زوجها فقد كان كاظم وولداها كل الدنيا وأرسل والدها معها خادمة ورجلان لخدمتهم وكانت القوافل تروح وتجيء من هناك وعاش الأب علوش أفندي في ضيعته شمال بغداد في الصليخ قرب نهر دجلة وفجأة قطعت على كاظم أغا تأملاته طرقة خفيفة على الباب فيما لا يزال الشيخ ينظر مستغرقا بإعجاب إلى التحف المعلقة والأسلحة الغريبة حتى انتبه على صوت كاظم أغا يقول بمرح:
- ان العشاء جاهز يا شيخ سعد الله فتفضلوا.
جلسنا بعد العشاء نحتسي القهوة فقال الشيخ لكاظم أغا:
- هل هناك خبر جديد من أخبار الشقي شاكر فقد كنت أود أن أسألك شيئا عنه.
قال كاظم أغا بهدوء وكأنه تذكر أمرا نسيه:
- سمعت بأن عزيز هو من قام بقتل عنتر أبو طبر لأنه رفض أن يزوجه ابنته الكبيرة عندما طلبها للزواج مدعيا بأنها لا تزال صغيرة فحقد عليه عزيز وقتله. وفي نفس الليلة حاول مع شاكر أن يسرقا دار، السيدة حبيبة التي شدخت رأسه بحجارتها فهربا وشاكر يهزأ به وهو يقول له:
- انك لا تنفع لشيء يا عزيز حتى ان امرأة ضعيفة شدخت لك رأسك فتثور ثائرة عزيز وهو يصرخ:
- لو كانت تساوي ثمن الرصاصة لقتلتها.
كما اعترف بأنه اشترك مع عزيز وعريف انكشاري اسمه خالد ومعهم شخص رابع بقتل أربعة أشخاص في مقهى أحد القرى البعيدة في صحراء الأنبار صبرا بالسيوف، والخناجر والهرواوات وجرحوا الموجودين فيها.
قلت متفاجئا وأنا أمسك بيد الشيخ سعد الله وقد أصابني دوار شديد إنها الجريمة التي وقعت في قريتنا وراح ضحيتها الشيخ عبدل وصالح وعبد الله ونجوت منها بهمتك يا شيخ سعد الله وقد جرح صاحب المقهى وابنه وشخص ثالث لأنهم أرادوا التدخل.
وبعد صمت مثير قال الشيخ سعد الله لكاظم أغا:
- نحن بحاجة لرأيك يا كاظم أغا فمال زال هناك غموض يلف جريمة مقتل والد هاني. فقد عرفنا القاتل ولكننا لم نعرف بعد دافع القتل ومن هم اللذين وراءه ونريدك أن تساعدنا في حل هذه القضية. فربما كان دافع القتل لا يزال موجودا وأظن أن هناك علاقة ما بين مقتل والد هاني والاعتداء على هاني في مقهى ( قرية أرضمه ) كما قصصته عليك. فقال كاظم أغا:
- ان شاكر قد اعترف بقتل المرحوم والد هاني مقابل مبلغ من المال أخذه من نفس العريف خالد ويعتقد بأن الذي دبر جريمة مقهى القرية هو الشخص الرابع الذي كان معهم وهو انكشاري شاب لطيف الملامح اسمه ( حسن قره ) وأكد بأن هذا الشخص وراء الجريمة التي راح ضحيتها المرحوم والد هاني وانه لامه لعدم قتله هاني الصغير مع والده فدبر له مذبحة مقهى القرية وهو يعتقد الآن بأن هاني قد قتل فيها وكل ذلك بسبب حقده على والد هاني لأنه شكاه لدى الوالي سليمان باشا الصغير وفضح جرائمه فأقسم أن يقتله مع ابنه.
ودعنا كاظم أغا شاكرين له حسن ضيافته وهو يتمنى لنا سفرة ميمونة وفي طريقنا إلى الدار قال الشيخ سعد الله:
- اعتقد أن حجي أغا الانكشاري ريما يكون قد وفق لحل هذا اللغز قكل الأخبار تتجمع لديه الآن.
وفي الصباح الباكر غادرنا بغداد نخب السير نحو الموعد المضروب.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  هلال البياتي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni