نجم والي:عماريا... لا أعرف ماذا أكتب!

حسين رشيد

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
08/03/2011 06:00 AM
GMT



نجم والي صاحب روايات «الحرب في حي الطرب» و«تل اللحم» و«ملائكة الجنوب»، القابع أبدًا في سِجْنـَي الحرية والخلق، يعود إلينا واحدًا من صنـّاع الطرْق المتواصل على أبواب السلطة البهيمية؛ التي تقع خلفنا، وتلك الجديدة التي تقع، الآن، أمامنا، وفي أيّ لبوس أيديولوجي.
نجم والي الذي رفض أنْ يخضع لظاهرة النفاق الكونية؛ اللغة، التي كانت تـعدم الإنسان لمجرد أن تلفظ كلامًا، أو علـّم، بجسده، مكانـًا. هو بيننا الآن يصرخ: لا لأيّ استبداد جديد، بأيّ مسمّى، كما صرخ من قبل: لا لرجز المعركة! حق نجم والي في أن يرفع صوته دائمًا، هو كونه مشغولا بأبديّة حياته؛ الإبداع والحرية. وما أحرانا، اليوم، أن نرفع أصواتنا بعراق مبدع، حرّ، قبل أن نصل إلى حدود انطفاء الحلم.
هذا الحوار الذي أجراه الزميل حسين رشيد، مع نجم والي اختصرنا فيه لدواع فنية؛ تتعلق بمساحة النشر، أما الوثيقة الكاملة له فهي بين أيدينا، نطمع، ونطمح، في «الأسبوعية» لأن ترى النور، مع سلسلة الحوارات الأخرى التي أجريناها، في كتاب الأسبوعية الفصلي.

■ أخذت الراوية العالمية تنتهج وتصنع اساليب حديثة ومتنوعة في الكتابة، ومختلفة أيضا، أنت كروائي عراقي، كيف وجّهتَ العمليات السردية الخاصّة بك؟
- منذ أن شرعت في كتابة روايتي الأولى « الحرب في حي الطرب» دار في ذهني السؤال هذا: ماذا يعني أن أكتب رواية؟ هناك عشرات الروائيين في العالم، فماذا يمكنني أن أضيف؟ كأنني عرفت حجم المسؤولية التي سآخذها على عاتقي. فلكي تكتب رواية، وهذا ما عرفته لاحقاً بحكم الخبرة، لا تحتاج إلى أكثر من موضوع جيد، ورغبة في القص، لكن المعضلة تبدأ حينما تجلس إلى طاولة الكتابة وتأخذ ورقة وقلمًا، أو كما يقول أحد أسطوات الرواية في العالم غابرييل غارسيا ماركيز، «وظيفة الكاتب ربما هي الوظيفة الوحيدة التي تبدأ صعوبتها عند ممارستها»، كنت أشتري رزمة من ورق الفولسكاب وأضعها على الطاولة، وأظل أتطلع فيها أيامًا وأياما، وأقول لنفسي، أعرف أن عليك أن تملأ كل الصفحات البيضاء هذه، لكن كيف ستقنع من يقرأك أن يواصل معك حتى نهاية الشوط؟ أن ينتظر منك عملاً جديداً يقرأه، أن يتساءل ـــ كما سألتني سيدة عراقية ذات يوم في مكتبة الساقي في لندن: «ما جديد نجم والي؟»، ولكي يصل الكاتب إلى المرحلة هذه لابد أن يكتب أو يروي بشكل مميز. مئات الروايات كُتبت وعشرات أخرى في الإنتاج، طبعاً لو نظرت لها بالتأكيد فستجد تشابهًا في موضوعها، لكن تفاصيلها وطريقة رويها هي ما يميز بعضها من بعضه، موضوعات الحب واليأس، الحرب والسلام، الحياة والموت، وغيرها من الموضوعات الوجودية شغلت الرواية دائماً، لكن تظل زاوية النظر إليها وتناولها هي ما يمز هذا الكاتب من ذاك. وحسب ستانسلافيسكي هناك نوعان من القطع المسرحية، الأولى هي عندما يخرج المرء من مشاهدتها يقول: «يا إلهي، لم أفكر بذلك قط، الآن أفهم الأمور، أخيراً! أي عمل رائع!» ثم ليلتفت إلى شريكه ويقول: «لنذهب ونشرب فنجان قهوة»، وما إن يصبح المرء في البيت حتى لا يعود يتذكر عنوان القطعة ولا يعرف عن أي شيء دارت. وهناك قطع  وكتب وأغان وقصائد ورقصات وأفلام، الخ... التي ربما تجعلنا نضطرب قليلاً، بعد مغادرتنا الصالة، لأنها غير مألوفة، لأنها تركت عندنا شعوراً غير مريح، لكنها، لغرابتها، تشدنا إليها، وهذا ما يجعلنا نصمت، نحار في التعليق عليها، لأننا نفكر فيها، ربما حتى يوم الغد، أو الأسبوع المقبل، وربما حتى بقية الحياة، لماذا؟ لأنها لم تكن نظيفة بما يتطلبه الذوق العام، لم تكن سهلة. لكن رغم ذلك هناك شيء في داخلها، يأتي من القلب ولذلك يدخل إلى قلوبنا، على عكس القطع الأولى التي تخاطب العقل.  الكتابة هذه هي التي تهمني؛ تهمني كتابة روايات تخرج من القلب الى القلب، من غير النظر إلى ما تحويه من تعقيد وتعدد في الأصوات، لأنها بالذات، ولهذا السبب، تشد القارئ. وأنا منذ البداية لو تابعت رواياتي الخمس ومجموعتي القصصيتين فإنك ترى أن ما يجمعها جميعاً أنها ليست روايات أفكار، إنما روايات حيوات، مصائر وشخصيات، روايات ليس فيها أبطال؛ شخصياتها تصبح أبطالاً بالمصادفة، من دون سعي منها. إنها روايات تُروى من القلب وتغازل قلوب من يقرأها، هذا ما يجعلها مختلفة.
■ هناك إدانة سياسية واضحة في أغلب أعمالك للنظام السابق وأزلامه، حتى إنّ البعض يتصور أن هناك ثأرًا بينكم؟
- ليس لي ثأر شخصي مع أحد، لكن ميلي لكتابة الكوميديا السوداء والسخرية اللاذعة، أو ما يُطلق عليه في المسرح والفنون البورليسك، جعلني أقبل بأن يحضر بعض شخصيات النظام السابق على خشبة الحياة في رواياتي. لم أفكر يومًا، مقدمًا، بأنني سأنتقم من هذا أو ذاك في هذه الرواية أو تلك، وأصوره بهذا الشكل الساخر، فمن كان بوقـًا للنظام انتقم هو من نفسه. كلا، لم يخطر في بالي أي واحد من هؤلاء الممثلين الأقوياء للجريمة والخديعة والجبن، كان الأمر، ببساطة، أنهم هم الذين حضروا بغتة وبقوة إليّ ولميلي للعب، جعلني أقول لنفسي: لم لا؟ فعندما أتحدث عن ظاهرة كتابة القصائد والأعمدة الصحفية والاستعراضات المسرحية للمعركة التي شاعت في الثمانينيات تزورني أسماء هؤلاء قسرًا، سواء أولئك الذين كتبوا بحماسة «رجز المعركة» أو أعمدة في الصحافة تدعو « السياب أن يلتفت للمجوس» (وهو في تمثاله)، أو أولئك الذين كتبوا في الجمهورية والثورة عن «مجوسية» أبي نواس في شعره، أو قدموا أوبريتات القادسية وزبيبة والملك وغيرها... وهو ميلي الى اللعب أيضاً الذي جعلني أحوّر بالأسماء قليلاً، فمن كتب رجز المعركة أصبح اسمه عبد الرزاق عبد الحادي، لمجرد ذكر مثال واحد. 
■ هاجمكم البعض من الكتب والنقاد على ذلك، وأثنى عليك آخرون، وتفرج طرف ثالث، لكن كيف تلمست ذلك عند القراء، ولاسيما في زيارتك الأخيرة لبغداد؟
 - هذا أمر طبيعي. ليس هناك كتابة ترضي الجميع، لاسيما في بلاد مثل العراق. ولو شعرت، يومًا، بالإجماع على كتاباتي أو مُدحت في جريدة حكومية لراجعت نفسي آلاف المرات، ففي النهاية لست أنا من يكتب «رواية لكاتبها»، كي يمدحني الجميع. أنا خرجت من العراق وفي ذهني مشروع أن اصبح كاتبًا روائيًا، كنت حتى قبل خروجي مقلاً في النشر في العراق، ثلاث أو أربع قصص كانت كل حصيلتي من النشر، قصة في طريق الشعب لم تُنشر لو لم يصرّ على نشرها سعدي يوسف، قصة في الطليعة الأدبية، وأخرى في ألف باء وآخر قصة نشرتها في آذار (مارس) 1978 في مجلة «الأديب المعاصر» والتي كانت للمصادفة آخر عدد يصدر في حينه عن اتحاد الأدباء، قبل انتهاء شهر عسل الجبهة الوطنية. أتذكر أن القصة «طقوس مسائية...الحاجة للنوم»، هذه بالذات رفضها كل أعضاء هيئة تحرير الأديب المعاصر في حينه (من شيوعيين وبعثيين) وأنا ممتن لروائينا الجنتلمان المرحوم فؤاد التكرلي الذي أصرّ على نشر القصة. وحتى خروجي لم أسع الى العمل في مؤسسة إعلامية أو ثقافية حكومية. الكثير من الأصدقاء يعرفون أنني عملت حارساً لمدرسة في حي القشل في الشورجة، جعلتها مأوى للمطاردين من السلطة، وبعضهم كان محكومًا بالإعدام. ستة شهور من العمل في القسم الثقافي في إذاعة بغداد ومجلة فنون وحتى طردي من هناك كانت كافية لكي أعرف ضرورة استقلال الكاتب عن السلطة في العراق، والأكثر من ذلك علمتني المبدأ البسيط: أن من يريد أن يصبح كاتبًا روائيًّا يسير على خطى الروائيين العالميين، عليه ألا يخضع لسلطة دولة أو حزب، عليه أن يكتب من القلب، على هواه، كان من المستحيل تحقيق ذلك في العراق. السلطة أحكمت قبضتها على كل شيء، المشكلة ما زلنا نعاني منها حتى اليوم، النقد والأدب عندنا وباستثناءات قليلة، لا يزال يملك إرث الماضي؛ يخضع للتصنيفات الأيديولوجية، وهو نوع من الصعود الوظيفي؛ في الصحافة الحكومية خصوصاً. أغلب الذين كتبوا ضدي هم بعثيون سابقون نشروا مقالاتهم في الصحافة الحكومية، فلماذا أنزعج؟ على العكس، أشعر بالسعادة. الأيديولوجية البعثية سرطان ما زالت أورامه متوزعة في العراق في معظم مجالات الحياة. العنف والقتل والعنصرية، الكذب والجهل والغنيمة والتهميش... هي سلوكات لا تزال تعصف بالحياة العامة في العراق، وهي خلاصة 35 عامًا من حكم الأيديولوجية هذه وإن تلبست في المرة هذه لبوس الدين.
أمّا في ما يخص قراء العراق فهو أمر آخر. ما حدث كان غير قابل للتصديق، كان هناك احتفاء لا يُصدق.تلفوني النقال لم يتوقف عن الرنين، وكان عليّ شحن بطاريته يومياً، بعضهم لم يصدق أنني في بغداد، الصديق شاكر الأنباري أخبرني أن خبر وصولي وصل حتى مؤتمر قصيدة النثر في البصرة. أما ما حدث في شارع المتنبي فهو ما يشبه العرس، أوقفني العديدون في الشارع، صافحوني عانقوني وسلموا عليّ بحرارة.الصديق الرائع والباحث مازن لطيف حدثني بإسهاب كيف أن كتبي كانت تُستنسخ وتُباع في الشارع. كريم حنتوش لم يصدق رؤيتي أدخل مكتبته، حدثني عن تحايله ببيع رواياتي في أيام صدام، لاسيما رواية «تل اللحم». حدثني عن اعتقاله، أيضًا، بسبب بيعه الكتب الممنوعة. الاحتفاء نفسه حدث لي في العمارة وفي أربيل. أحدنا يجلس في غرفته وحيدًا، يكتب ويكتب ولا يعرف إذا كان سيصل كتابه أم لا. في زيارتي الأخيرة وفي كل جولاتي عبر البلاد، في العمارة وبغداد وأربيل والحلة وفي كل مكان شعرت بأن لي أصدقاء سريين يشاركونني الرحلة ذاتها، يطوفون معي في كل قصة أكتبها، يتقاسمون معي الوحدة ويشاركونني الأفراح؛ كم هو جميل أن يشعر المرء بأنه ليس وحيدا!


■ في رواية «ملائكة الجنوب» التي لخصت من خلالها حقبة تاريخية سياسية واجتماعية وثقافية لمدينة مهمة في العراق وهي العمارة، أو كما سميتها «عماريا»، تحكمت بشكل أو بآخر بشخوص الرواية باستثناء شخصيّة «ملائكة» إذ تركت حرة، أو ربما متحكمة بحركة الشخوص الاخرين؟
- كان ذلك أمرًا طبيعيًا، لأن ملائكة هي المحور الذي يدور عليه كل شيء، ليس الشخصيات التي كانت حولها وحسب، بل الأمكنة والأحداث أيضاً. الآن وأنت تسألني، أتذكر كم عانيت وأنا أكتب عنها، أروي كل ما جرى لها، صحيح أنها شخصية مخترعة، نمت معي خلال 29 شهراً الوقت الذي استغرقته كتابة الرواية مني، لكنها، في المحصلة، هي، أيضاً خليط من شخصيات نسائية عديدة عرفتها في حياتي، ربما جاءت حريتها من هذا الجانب. انها لم تنتم إلى أي إمرأة من تلك النساء، بل تنتمي إلى نفسها وحسب، وهي في كل ما فعلته كانت مخلصة لنفسها، لحواسها، لقلبها، ولم يكن هدفها الانتصار، بقدر ما كان هدفها العيش مع الحقيقة بسلام، أن ينظر إليها الآخرون بصفتها ملائكة وحسب. الأديان حاولت سحبها إلى صفها، لكنها في كل ما فعلته ظلت فوق الأديان، إنها هي التي سحبت الأديان إلى صفها، أبوها يهودي، أمها مسيحية، صديقاها أحدهما مسلم والآخر صابئي، فمن تكون هي، إذا لا تكون ملائكة وحسب؟ تلك هي قوتها، أنها لم تعرف؛ لا الخيانة ولا الاستسلام، بل عرفت ماذا تريد، مثلها مثل كل النساء العظيمات اللواتي دخلن التاريخ.
■ قلت في مناسبة سابقة إن زيارتك لإسرائيل كانت من أجل عمل روائي وهو «ملائكة الجنوب»، وليس لشأن سياسي، كيف استقبلت الهجوم الذي شن حينها وما دوافعه؟
- السياسيون يذهبون إلى إسرائيل أو يجتمعون في الخارج مع مسؤولين إسرائيليين ويوقعون معهم معاهدات أغلب بنودها سرية، وثائق ويكيليكس، التي كشفتها قطر، عبر قناتها «الجزيرة»، خير دليل. المفاوض الفلسطيني كان يتكلم على مدينة القدس الكبرى عاصمة لإسرائيل مقابل إعطائهم دولة صغيرة في الضفة، وربما بدون غزة، أما الدول التي تدعي محاربة الإمبريالية والصهيونية، سوريا مثلاً، فهي تستجدي المفاوضات المباشرة مع إسرائيل عن طريق تركيا. أما دول الخليج والمغرب العربي فعلاقاتها مع إسرائيل واضحة جدًا. والآن يذهب روائي مثل نجم والي إلى إسرائيل ويبدأ مثقفو الأمة العربية «الأشاوس» الهجوم عليه. الطريف أن معظم هؤلاء المتثاقفين يتبوأون مناصب ثقافية كبيرة في مؤسسات حكومات تُسبِّح ليل نهار، بحمد إسرائيل. لا أحد منهم شتم حكومته مثلما شتمني، الحملة بدأها ضدي أحد «حراس البوابة الشرجية» جمال الغيطاني لغاية في نفس يعقوب، يعرف موقفي منه ومن نظام صدام حسين الذي عمل له وأجزى له العطايا بسخاء. الغيطاني الذي هو روائي من الدرجة العاشرة، أراد الإنتقام من نجم والي على طريقته وقوّلني كلاماً لم ينطق لساني به يوماً، لكنني أعرف جبن كل هؤلاء الذين على شاكلته، هل سمعت بالغيطاني ينقد النظام المصري في يوم ما؟ هل سمعت بمثقف في سوريا أدان مفاوضات حكومة الأسد المباشرة مع إسرائيل؟ أو سمعت بمثقف فلسطيني أو أردني أدان توقيع الملك حسين مع رئيس الحكومة الإسرائيلي الراحل إسحق رابين على معاهدة للسلام، وأين؟ على ضفاف بحيرة طبريا! هل سمعت بـ... بـ عشرات الأسماء التي وجدت في زيارة زميل لهم لقمة سائغة وراحوا يزايدون عليه. لكن لا يهم، كل هؤلاء منافقون. أنا ومنذ بدأت الكتابة اختطت لنفسي طريقي الخاص بي، مشروعي الكتابي مستقل، وليس هناك أحد يقول لي أين عليّ أن أذهب وأين لا، إنتهى الزمن الذي كان يُدمغ فيه على جوازاتنا في العراق، «مسموح السفر لكل البلدان عدا إسرائيل»، الدعوة التي جاءتني لزيارة معرض الكتاب في القدس أولاً كانت أجمل هدية في حينه قُدمت لي في عيد ميلادي الخمسين. كنت أكتب «ملائكة الجنوب» وكان نعيم عباس أحد شخصيات روايتي ذهب في زمن هجرة أو طرد اليهود من العراق إلى إسرائيل عن طريق الخطأ. كان يجب أن يكتب رسالة من حيفا إلى صديقه نور في عماريا، قرابة أسبوع وأنا أجلس يومياً إلى طاولة الكتابة، أحاول كتابة الرسالة تلك، أكتب جملة وأغيرها أو أمسحها، لا أعرف ماذا أكتب، ثم افتح إيميلاتي ذات صباح، أنا الذي يتشاءم من معاينة الإيميل في الصباح، لأجد إيميل الدعوة، فكيف لا أذهب؟ هناك التقيت اليهود العراقيين؛ شيوخ رائعون، يتحدثون عن العراق بنوستالجيا وفخر، مازالوا محافظين على لهجاتهم العراقية المتنوعة، على الأغاني العراقية والأكلات. إنهم متحف العراق المتنقل؛ المتحف الذي غادر إلى منفاه. يكفي الجلوس مع الشيخ الحكيم ساسون سوميخ وروائينا الكبير سامي ميخائيل كي تشعر بكل العراق يحط على يديك. بدون زيارتي تلك ما كانت روايتي الأخيرة «ملائكة الجنوب» جاءت بهذا الصدق. بيرغاس يوسا، أسطة رواية آخر، ذهب إلى جزر هاييتي من أجل كتابة روايته «الإبنة الشريرة» بعدها ذهب إلى الكونغو لكتابة روايته الأخيرة «حلم السلتي»، نجم والي سيذهب طلباً للعلم حتى إلى الصين.
■ طيب هل كانت الرواية العراقية في مستوى الحدث السياسي في التاسع من نيسان؟
- في كل تاريخ الأدب الإنساني ليست هناك رواية أو عمل أدبي في مستوى الحدث، طالما أن الذين عاشوا الحدث ما زالوا على قيد الحياة. الشهادات التي رويت عما جرى من مجازر في الحرب العالمية الأولى لم تستطع رواية عظيمة مثل «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» مقارنة نفسها بها. الشيء ذاته يمكن أن يُقال عن فظائع الحرب العالمية الثانية وحروب العراق التي لا تقل مجازرها عالمية. مَنْ عاش حدثاً مروعاً لا تستطيع رواية ما منحه العزاء أو تخفيف المصاب الذي جرى له. ليس هناك رواية تستطيع وضع نفسها في مصاف المصيبة أو الكارثة المعيشة. لقد خبرت ذلك بنفسي، فأنا مهما كتبت عن السجن والتعذيب، عن الرعب والخوف من الموت، كلما شعرت بعجزي من وصف اللحظات التي عُصبت بها عيناي وأُلقي بي في سجن الإستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع في بغداد، ما عشته طوال أيام اعتقالي في شباط (فبراير) 1980 بقيت عاجزاً عن وصفه سنوات طويلة حتى بالكلمات.
■ هناك من  يقول ان الرواية العراقية في المنفى اكثر نضجاً منها في الداخل، الى ماذا تعزو ذلك؟
- ربما يُعزى ذلك إلى مجال الحرية الذي تمتعت به كتابة الرواية في المنفى، إلى المسافة التي يملكها الكاتب كي ينظر إلى البلاد التي تركها وراءه، ولا أعني هنا الحرية السياسية والانعتاق من قيود السلطة، بقدر ما أعني الحرية من وطأة الأوطان والمجتمعات علينا، من الرقابة الداخلية أيضاً. يمكن ملاحظة ذلك بشكل جيد في كتابات روائياتنا اللواتي خرجن من العراق بعد 2003، أنظر كيف أن كتاباتهن بدأت تتنوع وتشمل موضوعات ما كنّ فكرن فيها لو بقين هناك. حتى أعمدتهن اختلفت، لغاتهن بدأت تتنفس هواءً نقياً، بل هناك ميل للكوميديا السوداء... كم أشعر بالمتعة عندما أقرأ عموداً للروائية ميسلون هادي أو الروائية لطفية الدليمي. لا تنس، أيضًا، كيف أن المنفى منح البعض فرصة تعلم لغة أو لغات عديدة سهلت للكاتب الاطلاع على الآداب الأجنبية والافادة من تطور الرواية في العالم. يومياً تنزل عشرات الروايات الى السوق، ولا تستطيع الترجمات المحلية اللحاق بها. قبل أن أزور بغداد بأيام كنت في زيارة لمدريد. غنيمتي كانت روايات عديدة صدرت للتو بلغتها الأصلية: «حلم السلتي» لصاحب النوبل بيرغاس يوسا أو «ملكة القطط» للاسباني أدوارد ميندوزا، أو «2666» للتشيلي روبيرتو بولانيو. أما في ألمانيا فقبل أيام وصلتني بالبريد من صاحب النوبل غونتر غراس روايته الجديدة «كلمات غريم»، وشكراً لمعرفتي اللغتين الألمانية والأسبانية التي تمنحني متعة أن أقرأ الروايات هذه بلغاتها الأصلية مباشرة بعد صدورها. إنني مثل من يأكل خبزاً حاراً خرج من تنور، في العمارة، للتو. أي متعة!
■ نجم والي، ما الأمكنة التي قصدتها في زيارتك الأخيرة للعراق ؟
- في بغداد كان أول مكان زرته هو كنيسة النجاة، وآخر مكان سأزوره هو الإمام الكاظم ثم محلة قنبر علي وسوق حنون. وفي العمارة كان أول مكان زرته هو المقبرة الإنكليزية والمندى الصابئي لأنهما متجاوران، وآخر مكان كان حي التوراة وكنيسة أم الأحزان.الآن وأنا أتحدث اليك انتبه الى أنني زرت أربعة أماكن؛ يمثل كلٌّ منها رمزاً للمسيحيين وللمسلمين والصابئة واليهود. فعلت ذلك بدون تخطيط، كأنني مثل ملائكة لا أقوم بغير تلبية نداء الحواس.