ولاية الفرات: قلعة داعش الحصينة وشهادة وفاته

المقاله تحت باب  قضايا
في 
28/07/2016 06:00 AM
GMT



نقاش / مصطفى حبيب
خسر "داعش" الكثير من نفوذه في العراق وانسحب مقاتلوه أمام قوات الجيش في صلاح الدين والأنبار نحو مدينته المحصنة والمعروفة باسم "ولاية الفرات" على الحدود الدولية بين العراق وسورية حيث يتحصّن البغدادي ومقاتليه المهزومين.

الأحد الماضي أعلنت الاستخبارات العسكرية العراقية تنفيذ غارة جوية على مدينة القائم غرب الأنبار، قتل خلالها عدد من قادة "داعش" بينهم أبو حارث الراوي المسؤول الأمني العام في "ولاية الفرات"، وغالبا ما تكون حصيلة القتلى في الغارات الجوية الأميركية والعراقية على هذه المنطقة من القادة البارزين في "داعش"، فما السبب؟.
في آب (أغسطس) عام 2014 فاجئ "داعش" العالم عندما ألغى حدود معاهدة سايكس بيكو، ودمر السواتر الترابية الحدودية بين العراق وسورية ليعلن عن إقامة مدينة جديدة باسم "ولاية الفرات" تمتد من مدينة "البو كمال" السورية إلى مدينة "القائم" العراقية، لتصبح المدينة الأشد تحصيناً وأمنا لـ"داعش" لاعتبارات جغرافية.
ومنذ ذلك الحين اختفت مدينة "القائم" عن التغطية الإعلامية تماما ولا احد يعرف ما يجري في هذه المنطقة الحدودية المعزولة باستثناء ما ينشره "داعش" عبر مواقعه من صور ومقاطع فيديو لعمليات إعدام لأشخاص بتهم مختلفة، وخلال هذه الصور تظهر بعض شوارع المدينة ومبانيها وسكانها.
احد السكان المحليين الذين كانوا موجودين داخل المدينة في ذلك الوقت ولكنه نجح بالهروب بعد أسابيع إلى اقليم كردستان، يقول لـ "نقاش" "ما زلت أتذكر تلك اللحظات المخيفة.. احد عناصر التنظيم المتشدد دخل الى الجامع الكبير في المدينة وصاح بأعلى صوته عبر سماعات الجامع.. يا أيها السكان يمكنكم السفر إلى سورية بحرية بلا حاجة إلى جواز سفر، لأننا تمكنا بفضل الله من إزالة الحدود الصليبية الكافرة".
اختار "داعش" هذه المنطقة لتكون المقر السري لقادته، وفيها يوجد اكبر مصانعه للعبوات الناسفة، وفيها يتم استقبال المتطوعين إلى صفوفه من جميع أنحاء العالم، وتحوي أهم معسكرات التدريب، وفي هذه المدينة يعقد قادة التنظيم في العراق وسورية اجتماعات دورية لمناقشة أوضاع دولتهم، كما يقول ضابط كبير في جهاز الاستخبارات العسكرية العراقية.
هذا الضابط الذي طلب عدم نشر اسمه لأسباب أمنية، قال لـ"نقاش" ان "تقارير استخباراتية وصلت الينا من مصادرنا الخاصة تؤكد أن زعيم داعش ابو بكر البغدادي موجود في هذه المنطقة منذ شهور، وليس في الموصل او الرقة، ونعرف جيدا حتى المنزل التابع له، وكدنا نتمكن من قتله قبل شهور خلال غارة جوية، ولكنه نجا في اللحظة الأخيرة بعدما اصيب بجروح بليغة.
عندما هاجم "داعش" العراق في حزيران (يونيو) 2014 وسيطر على الموصل وصلاح الدين والانبار، لم يواجه التنظيم صعوبة في السيطرة على مدينة القائم التي تبعد نحو 400 كلم عن بغداد، لأنها في الأصل كانت ملاذا سريا للمسلحين المتطرفين منذ سنوات، وبسبب بعدها عن أنظار الحكومة في بغداد لم تكن الإجراءات الأمنية فيها جيدة.
 ولكن الحكومة العراقية ما زالت تمتلك مخبرين سريين في هذه المنطقة، كما يقول الضابط في الاستخبارات العسكرية: "لقد تمكنا من اختراق داعش في القائم بمساعدة بعض العشائر والقوات الأميركية التي تمتلك علاقات جيدة مع سكان هذه المنطقة، ولدينا مخبرين سريين يعملون مع المتشددين لإخفاء نشاطهم، انها مهمة محفوفة بالمخاطر.. قبل أسابيع اكتشف داعش احدهم وقام بقتله للأسف".
في بداية العام الحالي كان المتشددون يسيطرون على سبع مدن كبيرة في الأنبار وهي الرمادي، الفلوجة، الرطبة، عانة، راوة، القائم وهيت، أما الحكومة العراقية كانت تسيطر على مدينة واحدة فقط وهي حديثة، ولكن خلال الشهور الثلاث الماضية تمكن الجيش من استعادة السيطرة على الرمادي والفلوجة وهيت والرطبة.
وعندما دخلت قوات الجيش الى هذه المدن بعد تحريرها كان مقاتلو "داعش" هربوا جميعا إلى مدينة القائم حيث "ولاية الفرات" وهناك يتجمع المتطرفون الهاربون من المعارك ليدافعوا عن هذه المدينة لأنهم يعلمون أن خسارتها ستكون نهاية قصتهم.
إبراهيم الجغيفي احد مقاتلي العشائر في مدينة "حديثة" تمكن مع زملائه من ابناء العشائر وقوات الفرقة السابعة للجيش طيلة عامين من الدفاع عن مدينتهم، وقاموا بصد أكثر من 100 هجوم للمتطرفين، يقول لـ"نقاش" قد "يعتقد الجميع ان قوة داعش الاساسية في الموصل، ولكنهم مخطئون، انها في مدينة القائم على الحدود مع سورية".
الجغيفي أضاف "علينا ان نؤجل فرحتنا في الانتصارات الاخيرة في الانبار الى بعض الوقت، داعش الآن مريض ولكنه لم يمت بعد.. وهو الآن يجهز جيشا كبيرا في مدينة القائم.. وما دامت هذه المدينة تحت سيطرة المتطرفين فأنهم يستطيعون تهديد الأنبار من جديد".

عوامل جغرافية وعشائرية
مدينة القائم تضم ثلاث بلدات صغيرة وهي "الرمانة"، "الكرابلة"، والعبيدي"، وتتقاسم قبيلتان النفوذ في المدينة منذ سنوات وهما "البو محل"، و"الكربولي"، وهاتان القبيلتان تخوضان صراعات سياسية وأمنية فيما بينها منذ سنوات.
وعندما انشأ الجيش الاميركي قوات "الصحوة" قبل سنوات، انضمت عشيرة "البو محل" الى القوات الاميركية، وشكلت كتيبة مسلحة باسم "كتائب الحمزة"، بينما رفضت عشيرة الكرابلة الانضمام الى الصحوة، وبعد القضاء على تنظيم القاعدة عام 2007 في "القائم" أصبحت عشيرة "البو محل" هي التي تمتلك السلطة، ولكن بعد سيطرة "داعش" أصبحت "الكرابلة" هي الأقوى.
ونجح "داعش" في استغلال الخلافات العشائرية واجبر جميع العشائر في "القائم" على مبايعته للسيطرة على هذه المدينة الاستراتيجية، ولكنه ما زال يخشى من المخبرين السريين من عناصر قوات "الصحوة" السابقين، ويقوم بإعدام العديد منهم بتهمة التعاون مع الحكومة.
ولكن السبب المباشر الذي جعل التنظيم يختار هذه المدينة بالذات لتكون قلعته الحصينة ومقرا لقادته، ومكانا للاجتماع وتبادل الخطط هو طبيعتها الجغرافية، أولا انها زراعية خصبة وأجوائها معتدلة وتنتج الحبوب والحنطة والخضراوات ولا يمكن محاصرتها بالأغذية لأنها مكتفية غذائيا.
الأمر الآخر انها تضم مساحات شاسعة غير مأهولة وفيها تلال وهضاب وشقوق أرضية تصلح كمخازن للأسلحة، وأنفاق طبيعية تمتد لعشرات الكيلومترات، ويستطيع المقاتلون الانتقال من مدينة "القائم" الى الاراضي السورية عبر هذه الأنفاق دون ان تلاحظهم الطائرات المقاتلة او الطائرات بدون طيار الخاصة بجمع المعلومات.

مصيدة الجيوش
النائب عن محافظة الأنبار احمد السلماني وهو من سكان مدينة "القائم" يقول لـ"نقاش" إن "مدينة القائم تعتبر مفتاح الأمن في الأنبار والعراق.. وسيطرة داعش عليها يعني أن الخطر ما زال قائما.. وعلى قوات الجيش التحرك نحو تحريرها، وإعادة الحدود السياسية مع سورية إلى وضعها السابق".
ولكن قوات الجيش تخشى من تنفيذ عملية عسكرية برية لتحرير هذه المدينة، وتكتفي بالغارات الجوية فقط لمحاربة "داعش"، ولكن هذه الغارات لا تؤثر كثيرا على المتطرفين الذين يختبئون بين السكان وفي الشقوق الأرضية السرية.
المشكلة الأساسية التي تواجه الجيش هي المسافة البعيدة لمدينة "القائم" عن القواعد العسكرية، كما يقول النقيب في الفرقة السابعة عمر العبيدي، ويقول هذا الضابط الذي تنتشر فرقته في قاعدة "عين الأسد" الى جانب جنود أميركيين، لـ "نقاش" ان "معركة تحرير القائم ليست سهلة وتختلف عن معارك الرمادي والفلوجة وصلاح الدين".
ويضيف العبيدي أن "اقرب قاعدة عسكرية للجيش من القائم تبعد 150 كلم وهي قاعدة عين الأسد، واذا قرر الجيش تنفيذ هجوم بري فان هذه المسافة الطويلة في طريق صحراوي ستنهك الجيش، وتعرضه الى استنزاف خلال الطريق عبر هجمات مفاجئة يشنها المتطرفون الذين يتخفون على طول الطريق".
ولكن العبيدي يعتبر ان تحرير القائم ليس مستحيلا اذا توفر غطاء جوي أميركي للقوات البرية، ويقول ان "القائم هي رأس أفعى داعش وإذا قطع رأسها ستنتهي أسطورة التشدد وتتحول هذه المدينة الى مقبرة لقادته ومقاتليه".
المشكلة الاخرى التي ستواجه الجيش عندما يخطط لتحرير هذه المدينة، انها تقع على الحدود مع سورية، وسيهرب المتطرفون هناك لبعض الوقت ومن ثم يعودون مجددا، لان القوات العراقية لا تستطيع تأمين الحدود الطويلة مع سورية والتي يبلغ طولها (600 كلم).
خلال الاحتلال الأميركي كان هناك أربعون ألف جندي من الجيش الأميركي في الأنبار وحدها، وارتكزت الولايات المتحدة في تأمين هذه المدينة وحماية حدودها الطويلة مع سورية على القوة الجوية وكان هناك سرب كامل من مروحيات "الأباتشي المقاتلة" يضم ثلاثين طائرة تقوم بدوريات مكثفة على الحدود إضافة الى الطائرات النفاثة.
ولكن الجيش العراقي لا يمتلك هذه الإمكانيات وبسبب ذلك عاد المتطرفون الى الأنبار بشكل سري منذ 2011 بعد اسابيع من الانسحاب الأميركي، رئيس مجلس محافظة الانبار صباح كرحوت يقول لـ "نقاش" ان حماية الحدود مع سورية ومنع تسلل المقاتلين أهم بكثير من تحرير بعض المدن.