... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
أقنعة الكتابة وحكاياتها : حدائق الوجوه» لمحمد خضير

لؤي حمزة عباس

تاريخ النشر       10/09/2009 06:00 AM


بعدما أنجز محمد خضير قراءته لصورة مدينته، وتأمل خرائطها ووجوه أناسها، وتقلّب أزمانها في كتابه (بصرياثا الأمد 1993)، يتوجه إلى قارئه في كتابه الجديد «حدائق الوجوه – المدى 2009»، الكاتب الذي اختبر قدرة النوع القصصي، داخل القصة القصيرة وخارجها، يسعى، في كتابه الجديد، إلى الانفلات من أسر النوع وقوّة حضوره، والكاتب الذي طالما وقف على مسافة من كتابته؛ منفصلاً عنها، يعمل في «حدائق الوجوه» على أن يكون جزءًا منها، يتملى صورته في مراياها، يستقصي خطوات بستانيِّها الأمين على أرواح أناسه وأرواح أشجاره، حيث تعادل الروح الإنسانية، في حضورها الأثير، روح الشجرة التي تحكي حكاية حافلة، فتكون الذات الكاتبة هدفاً للكتابة وموجّهاً من موجّهاتها. كنت أنتظر بستانيّ الطفولة هذا لأنتزع من وجهه القناعَ الذي سأروي خلفه حكايات أَجَلي في الحديقة الوسطى «حديقة الأعمار»، يقول محمد خضير في كتابته « تمرين في السيرة الذاتية» محاولاً اتّباع خطوات البستانيّين العظام الذين ساروا قبله في اتجاه «خان العالم» الذي تصوَّره مولانا جلال الدين الرومي: «حاولتُ جهدي أن أؤلف كتاباً يلتحق بكتب الأعمار الشفافة، وأن أحكي سيرةَ ستِّ حدائق محيطة بحديقتي «السابعة» التي تحوي وجوه حياتي». إن الكاتب يعمل من خلال كتابه على مواجهة الكتابة فعلاً دائم التخلّق، وقراءة ما سطّرته حروف صنّاعها العظام، إذ بإمكان الإنصات العميق أن يقود، أبدًا، إلى حكمة الأصوات الخفيضة؛ تلك الأصوات التي منحت التجربة البشرية خلاصة حضورها.

الأقنعة الستة
إن البستاني في كتاب محمد خضير يخطو، هو الآخر، مثل حلم أو خيال، رهين حديقته واسعة الأرجاء، أمّا غرضي، يقول الكاتب، من زيارة الحديقة «فلم يكن غير استقصاء موقع البستاني بين هؤلاء المتنزهين، فأجدّ في البحث عن مكانه في الزوايا وظلال الأسيجة؛ علّني أعثر على الكيان المتواري عن الأنظار». إن البستاني يشيخ بين صور حدائق الطفولة ولا تتبقى منه إلا صورة بالية، متحللة في تربة الحلم والخيال، إنها اللحظة التي تُطلق الحدائق فيها إشارتها العابرة، خلاصة أعمار بستانييها وهي» توحي بأن جدوى بعث جمال شيء ما تبدأ لحظة زواله». اللحظة التي تفسر تاريخ الكتاب وتضيء موقعه في حقل الكاتب، لتصبح الكتابة حقلاً واسعاً من الرؤى، والأحلام، والهواجس، فيرتدي الكاتب، في سبيل إنجاز كتابته، أقنعة ستة بستانيّين عظام ليروي حكايات ستة وجوه استظلت في حدائقهم، ويستبقي قناعاً سابعاً يرتديه في حديقة الأعمار الوسطى التي يرعاها، وهو يُعلن، عبر أقنعته، هندسة حدائقه، وخرائط خيالاته؛ مبتدئاً بالحديقة الوسطى، حديقة الأعمار، بأقنعتها ووجوهها وحكايات أناسها، إنها حديقة الكاتب ومرتقى سنواته التي سيمرّ من خلالها إلى حديقة الصمت، مستعيناً بتأملات اثنين من المعماريّين لتصميم قناع الشاعر، ولاكتشاف صمته، إذ «يلجأ المرء إلى الزحام الصاخب ليحجب ضجيج صمته هو».

النسر العجوز
إن الدخول إلى حديقة طاغور، والمكوث في مدرسته «شانتنيكتان» يهيئان فرصة لتأمل الحقائق الصغيرة؛ ثمار الصمت التي تمرحلت بين قطافها الحلو والمر حياة الشاعر، لتكتمل حديقة طاغور ويضاء قناعه بحكاية « البوراني»، أحد رواة الرامايانا القدماء، ليتحوّل الكاتب بعدها إلى «حديقة القرن» منصتاً إلى نهاية الفاصل الأخير من القرن العشرين، وهو يتوق إلى خيال بشري جامح؛ خيال أسطوري مرح، يبرمج المستقبل الغامض للمسيرة البشرية، مقترحًا قناع غابرييل غارسيا ماركيز لهذه المَهَمّة الصعبة. إنها مهمة ما بعد الكارثة النووية، حيث سيعلو صوت الروائي متحدثاً في اجتماع تضامني مع ضحايا هيروشيما عن توقف أغنية الإنسان اللاعب بمجازات الحب. مع النسر العجوز، ماركيز، تتكشف أسطورية الضمير العالمي، وهو يتشفى بعزلة الممسوخات المعذبة. ولا يبدو غريباً في حدائق محمد خضير أن تؤدي «حديقة القرن» إلى «حديقة العالم»، وأن يؤدي قناع ماركيز إلى قناع بورخس في فكرة الجاذبيات المتوازنة التي يتحدث من خلالها الكاتب عن انجذابه لفلك بورخس وهو يعدد أسماءه، ويواصل هربه من الحدائق المتشعبة. كل قصة يكتبها باسم ويظهر فيها بقناع، فما نحن في آخر المآل سوى أقنعة في مجلس العالم.

حديقة النبيّ
يدخل الكاتب بعدها إلى «حديقة النبي» مستمعًا الى كلمة جبران خليل جبران: «جئت لأقول كلمة وسأقولها، وإذ أرجعني الموت قبل أن ألفظها يقولها الغد. والغد لا يترك سراً مكنوناً في كتاب الأبدية». عن أخوّة الروح، ومحبة الأزل يتحدث جبران في حديقته، ويضيء قناعه بفيض غربته عن العالم، إذ تـُكمل الريشة دفق الكلمة، وتمنحها ظلالاً تبلبل المعنى بين النور والظلمة. بعد «حديقة النبي» تنفتح «حديقة الحب»، والحدائق، في انفتاحها وتسلسل أطيافها، تعبّر عن تلازم معانيها؛ فمن وجه جبران، أو قناعه، تخطر أمام البستاني وجوه العشاق الزاهدة والضامرة، الزاهرة والمضيئة، عابرة من كتب مثل «طوق الحمامة» و«الزهرة» و«مصارع العشاق» و«تزيين الأسواق» إلى كتاب الحدائق والوجوه، لتختتم حدائق الكتاب بـ «حديقة الغفران»، حيث يتجلى قناع أبي العلاء المعري وهو يتحرك طليقاً من محبسيه إلى عوالم غفرانه. كان المعري رحمانياً في قافيته، والبستاني علائياً في نغمته، وكلاهما متوحد في حديقة غفرانه، وهما معاً يُنصتان لمناجاة الحكمة البليغة: « إلهي، أرني نهاية اللعبة، وأسمعني آخر نغمة في حياتي». الحكمة التي تدور دورتها بين يدي الرحماني، آخر شخصيات حكايات الكتاب، وهو يتحرّك بين الغرف منصتاً لما خبأت جدرانها من أصوات.

فضح الرغبة
في الحديقة الوسطى، حديقة العالم، يتحدث البستاني عن شبابه وهو يقف في انتظار أشباح العابرين السابقين، مستكملاً بأغانيهم حريته وسعادته، مستلهماً من حكمتهم وشجاعتهم دروس التجوال بين قرى النهر المجهولة، وفي آخر الحدائق حيث يواصل البستاني بحثه عن مسودة كتابه الأول، كتاب خلوده الذي لم يُسطر فيه حرفٌ، نُدرك معنى الإنصات العميق لما تقوله الوجوه، وهي تنظم حدائقها، قبل أن تغيب خلف أقنعتها وتوالي سرد حكاياتها، يستعين محمد خضير بها جميعاً في بناء حديقته عالماً للحكايات التي تفتح السبيل لكاتبها لإنتاج حكايته الخاصة، حكاية حياته التي لم يشأ أن يكتبها سيرة، إنما هي «نوع من الكتب الجامعة أشتاتَ المؤثرات السردية في فلك الكاتب المستأثر بخصوصيته الذاتية، لفضح رغبته وانطوائيته»، إذ توفر الكتابة فرصة للاقتراب من الذات، والنظر في مياهها المتجددة، وهي الرغبة التي تنطوي عليها محاولات منتجي العوالم السردية، جميعهم، بعد اشتداد التجربة الاجتماعية، كما يرى محمد خضير.

 


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  لؤي حمزة عباس


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni