... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
تجاوز

دنى غالي

تاريخ النشر       01/11/2009 06:00 AM


لم أجد ما يمكنني أن أبرره لفعلتي عندما استللت الكتاب، وسط كل ما يتكرر على الشاشات وعلى مسمع من الواقع. ربما احتجت لأن أرى أين نقف جميعا الان!

وأتخيل وجه امرأة عابرة
في عوز
مخترقة سوق البصرة
ترمقني باستهزاء وهي تقوم بحركةٍ يفعلها أولاد الشارع

لكن لطالما شاغلتني اللغة عن باقي ما يهدف إليه الكتاب؛ هل أعاند نفسي؟ مستعارٌ مهملٌ منذ سنين، يمدّ عنوانه، مثل طفل يرفع يديه إليّ متوسلا.

أتخيل أخرى من النسويات تترصد إشاراتي
تتوعد فضحي في الصحف والمجلات
تتهمني بالميوعة
بالقراءة
بالدوران حول الذات
بالنسيان

الكتاب الذي بين يدي يصير جلدَ دجاجةٍ منزوع
المرآة ليست بعيدة عني
أنا نفسي صرت أشبه حلزونا متقاعدا يلوي عنقا
ينسحب
لينتبذ له ببطء ركنا في البيت

لم يدر بخلدي الشك للحظة وأنا أتأمل جانب وجهه عن قرب بأنه هو الذي عمل في مصلحة الآثار وعشق ويعشق رامة، يكسّر ضلوعَها- لا يتذكر الشيخ العجوز الان بأن سيدة ما كانت تجلس إلى جانبه، بإمكانها ان تقسم أنها لم تكن معنية بالرجال ذاك المساء لأسباب تغيب الآن عن ذاكرتها، قطعا ليس لأنها كانت منصرفة بكليتها إليه، منشغلة به، بتفرس وجهه، تلف خطوط موضته، ذقنه، أذنه عروق رقبته وإلى تشعبات عروق يده؛

 الكتاب أقوى حضورا ألف مرة
حد البحلقة فيه
حد رفض هذا القرب
حد القسوة التي تلبسني

تنهض وتتركه ميتا على كرسيه
تتخطر
خطواتها متوثبة
في الطريق تنبض كلماته

محتقنة متشفية
في راحة يدها

لن يتذكر بأنه بالتفاتة مال برأسه جهتها واستفرغ تبرمه وملله من برنامج السهرة.

ينظر إلى ساعته التي رفع حافة كمّ قميصه قليلا عنها
يعدّل نظارته
ولا يقول انها متعطلة

كسرَ عندي باب اللياقة والأدب – شأنه ربما، في كتابه على الأقل- ما شجعني على أن أنهض لأغادر الجمع الذي تجمعه الكلمة. شاركته رأيه. فلتت ضحكتي حينها عاليا وتملكني الحرج وسطهم فأصلحت من هيأتي. للحق، كان عدا عن ذلك ضجراً لان الكلام والتدخين ممنوعان في أمسية أقيمت للإحتفاء به بأجواء شبه رسمية!
ولا يذكر الشيخ بأنه أسرّ السيدة، كما ناداها ذاك المساء، بأنه لم يعمل يوما في مصلحة الآثار.

أحاول أن أتعقبها، رامة، الجدة ذات الصدر الكاعب، بخصر الزنبور والبطن الضامر ولعبة من فرو تتدلى من إحدى قوائم سرير نومها العريض! ويحك أيها الشيخ الفتي ملك المخيلة، باذرها، زارعها في أراض قاحلة ناشفة لزمن لا ينفك يعود عصورا إلى الوراء وما زال يفرز كلسه، ولا يتطهر من لوثه. فجاً متصدعاً لن تلينه ينابيع العالم أو ترطبه الشلالات.

يا إلهي- لا شيء غير مدان على وجه هذه البقعة من الأرض، لا شيء!
وما من مدين!

يا رامة، مجّدي هذا الذي يحتفي بشبابك الأزلي ومازال- أظن- حضورك في مخيلته قادر على أن يشعل الحرائق فيه فيزيِّن لنا الأشياء وإن كان تمجيدا للكلام.

لم يضللني الكتاب يوما عن كذب ما ندعي ورياء ما ندمن عليه. زيف ولا شيء غير الصمت الرضي مع كل شيء وليس ضده - هنا ليس الفعل وحده الذي يغيب بل حتى الكلمة التي قد نتفق على إنها مجرد كلمة.

واقفة في محطة مظلمة صغيرة وقطار يمر سريعا تسبقه العبارة " قطار عابر".

لماذا أظل أعود إلى الوراء رغما عني، إلى كتاب، إلى خاطرة، إلى رجل، إلى وطن!

- "" لا حباً، بل لأني سأعود إليه يوما أصلح هيأته، وحينما أتجاوز أفق الحاضر أكون قد حنّطت سلالة من الأخطاء التي سأعود لها يوما، أصلح هيأتها…."" 

خلفي الجمع تركسه أطنان من الزهو بفصاحة فيجلس مفتوح الساقين.

أذكر اني همست في أذنه، لست على يقين، ولكنهم جميعا قد فقدوا حاسة السمع.

كوبنهاجن
 [1] من نص خاتمة في مجموعة الكاتب العراقي حميد العقابي القصصية تحمل عنوان " أصغي إلى رمادي"
دار الينابيع 2002

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  دنى غالي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni