... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  منتخبات

   
أدب العراقييــن اليهــود وتناقضــات القــدر الصهيونــي

سلام عبود

تاريخ النشر       21/11/2009 06:00 AM


أربع كلمات صغيرة، تستطيع بمفردها أن تصوغ تعريفا جامعا مانعا، لواحدة من أكثر الظواهر الثقافيّة ندرة في التاريخ الحديث، ونعني بها المثقف العراقيّ ذا الخلفيّة الدينيّة اليهوديّة. أربع كلمات حسب: الغنى، التـّفرد، الأصالة، الإشكاليّة الوجوديّة.

ثراء روحيّ ومعرفيّ
تتميز هذه الجماعة بمزايا خاصة تفرّقها كثيرا عن الجماعات المشابهة، التي خضعت لظروف سياسيّة وتاريخيّة مماثلة. فقد حملت هذه الشريحة معها من وطنها الأمّ، أو وطنها الأوّل، وعيا ثقافيّا عاليا. ولم يكن هذا الوعي محصورا في درجة التعليم أو التحصيل المعرفيّ، بل كان مرتبطا بالممارسة الثقافيّة أيضا، أي بصناعة الثقافة وانتاج الوعي الوطنيّ، لا استهلاكه حسب. فلهذه الجماعة أثر في ظهور الصحف وفي ظهور ألوان من الفن: الترجمة، الغناء، الموسيقى، القصّة، المسرح، الفنون الآخرى، وفي التأثير على ما كان قائما من أساليب وألوان الأدب والفن. استطاعت هذه الشريحة بإسهامها الثقافيّ أن ترسم صورة مغايرة تماما للصورة النمطيّة التهكميّة، التي رسمها الواقع الدعائيّ المحليّ لأفرادها، أو الصورة التحقيريّة العالميّة على طريقة شكسبير، ممثلة في شخصيّة المرابيّ الأنانيّ، عديم الإحساس. فقد انتمى يهود العراق الى أغلب التيارات السياسيّة العراقيّة، وكان لهم دور ملحوظ في الحركة اليساريّة في أحلك ظروف الاستبداد السياسيّ، وكان بعض أدباء اليهود الشباب محرّضين متحمّسين كالشاعر إبراهيم عوبديا. صعد منهم الى المشنقة قائدان بارزان من قادة الحركة الشيوعيّة. ومن مفارقات تاريخ العنف في العراق أن يتمّ مسح اسميّ هذين الشهيدين من تاريخ الحركة الوطنيّة. انهارَ يهودا صديّق تحت ضغط جهاز القمع الحكومي فشُطب اسمه من قائمة الشهداء وانحصر ذكرُه في قائمة الخونة، أمّا الثوريّ الجريء ساسون شلومو دلاّل، الذي اعدم عام 1949 في مطلع شبابه، فكان شهيدا نموذجيّا بكلّ المقاييس، وبطلا أسطوريّا بالمعنيين الواقعيّ والرمزيّ.
لقد عوقب الشهيدان عقابا صارما من قبل الجميع: السلطة الملكيّة، ورفاق الحزب، والتاريخ السياسيّ. ولم يزل هذا العقاب الفظّ ساريا حتّى هذه اللحظة، يمارسه الجميع، بمن فيهم يهود العراق أنفسهم، الذين لم يقتربوا من الشهيدين، ساسون على وجه التحديد، اقترابا أبويّا صادقا، لأسباب تتعلق بالتقيّة، وبالمبالغة الذاتيّة في الطهر والبراءة، في مواجهة موجة التخوين العاتية، المسلّطة على رقابهم من الطرف الآخر: الأخوة الأعداء في الجانبين. ضياع تضحية ساسون تؤكد أنّ التاريخ يُكتب أحيانا بحروف خائنة.
يتساءل كثيرون عن سرّ سيطرة المهاجرين العراقيين على مواقع كثيرة في الثقافة والإعلام والمواقع الأكاديميّة الإسرائيليّة. سبب ذلك يعود الى أنّهم جاءوا محمّلين بخبرات برج بابل الثقافيّة المتعددة: صحفه وحروفه وألسنته. فالفتية الذين غادروا العراق في سن التفتـّح الأوّل أورقت أشجارهم وأثمرت أينما حلّوا: اسحق بار موشيه، نعيم قطّان، شموئيل موريه، سامي ميخائيل، سمير نقـّاش، شمعون بلاص، ساسون سوميخ، ابراهيم عوبديا، داوود صيمح. هذا بعض من تلك الأسماء، التي انتجت أدبا غزيرا، كان طموحه والمؤمّل فيه أن يسجّل، باسم الوطن الأوّل أوّلا، وباسم الإخلاص للحقيقة التاريخيّة ثانيا، ما تبقـّى في الذاكرة من صور للجانب الواقعيّ من الحياة وليس الجانب المسرحيّ، أن يربط بقلم الأبناء الأوفياء بين ضفتي ّ نهر العداء، ويكون شاهدا على هزيمة الكراهيّة وانتصار الوجود الأنقى: التمايز الثقافيّ وتمازج وتبادل القيم الإنسانيّة النبيلة.
ومن ملامح غناهم تنوع وتعدد أدواة تعبيرهم. فالكاتب سامي ميخائيل و شمعون بلاص بدءا حياتهما الأدبيّة بالعربيّة وانتهيا بالعبريّة (ترجم بلاص من العبريّة الى العربيّة أيضا)، وبدأ نعيم قطّان بالعربيّة وانتقل الى الفرنسيّة، ولا يتميز نقـّاش بالعربيّة حسب، بل يتفرد بشكل ماهر في استخدام العاميّة العراقيّة على نحو يثير الدهشة وبالترجمة من العبريّة الى العربيّة. وواصل ابراهيم عوبديا واسحق بار موشيه عربيتهما. نحن أمام مصائر متنوعة، لا ينظمها ناظم لغويّ أو أسلوبيّ أو ميوليّ محدّد، جامعها الوحيد هو الانتساب الى وطن أوّل مشترك، وطن من لحم ودم. وحتّى هذا الوطن بدا للكثيرين متنوعا في تعريفاته. فسمير نقـّاش وسامي ميخائيل وبلاص وقطـّان وموريه وسوميخ ولدوا على أرض العراق، لكن إيللا حبيبة شوحط ولدت في ضواحي تل أبيب لعائلة من أصل عراقي وسرعان ما نهض في أعماقها الوطن الأوّل، دافعا إيّاها الى الصدام الحاد مع إسرائيل، وطنها بالتبني؛ أمّا نعيم جلعادي، الصحفيّ والناشط السياسيّ، الذي جعل من نفسه شاهدا حيّا على وجود شبكات عدائيّة روجت فكرة الهجرة لمصلحة المنظّمات الصهيونيّة المتطرفة، فقد اندفع الى موقع الحقيقة حينما وجد نفسه في حالة تناقض بين وطن ثابت الجذور تمّ تضييعه بسبب سياسات حمقاء، ووطن مقترح يُراد له أن يبنى قسرا بحروب أبديّة لا تقل حمقا. ولم تتمكن إسرائيل من تطبيع وتخريب عراقّيّة الداعية الشيوعيّ حسقيل قوجمان، الذي لبث عنيدا يصارع على جبهات عدّة، مزوّدا بحلم الوطن الأرضيّ المضاع، لا بخدعة الوطن الافتراضيّ.
بعض هؤلاء هجر العراق شابّا ناضجا: سوميخ، موشيه، عوبديا، قوجمان، ومنهم من كان صبيّا: نقـّاش، وبعضهم لم ير وطن الأجداد بأمّ عينيه. بعضهم استقرّ في إسرائيل، ومنهم من جرّب الاستقرار فيها ولم يفلح، وآخرون مرّوا بها مرور الكرام واختاروا السكنى في أقاصي الأرض. منهم من وضع يده بيد منظمة «حركة الرواد البابليين» الإرهابيّة، وراح ينفـّذ قانون التهجير العراقيّ بأنامل صهيونيّة، من طريق إلقاء القنابل على أبناء جلدته وإثارة ذعرهم، ومنهم من ذهب طوعا الى دائرة الهجرة، ومنهم من أحجم ولبث حتّى اللحظة الأخيرة يأمل أن يغيّر القدر الأرعن خططه الشريرة، وهناك من حملته الشرطة الى طائرة التهجيرمقيّد اليدين، على نقـّالة إسعاف. إنّها حلقات من سلسلة هجرات متنوعة، مختلفة المسارات، متعددة التعرّجات والانعطافات، لكنّها هجرات تجري من منبع واحد: الوطن الأمّ، الى مصب واحد: الوطن الافتراضيّ.

التفرّد: بغداد بلا يهود
«يقولون لي: كيف ستبدو بغداد بدون يهود؟»، ورد هذا التساؤل على لسان شاؤول مؤكدا لابنته وزوجته عمق تفرّده كعراقيّ. جاء هذا في قصّة شمعون بلاص «إيّة» (ص 78). بغداد لوحة ناقصة من دون شاؤول. «لم يخطر ببالهم أن ذلك سيحدث فعلا: بغداد بلا يهود؟»، حقا، كيف سيبدو البيت البغداديّ حينما ننتزع نوافذه المزجّجة؟
في رواية ( نزولة وخيط الشيطان) لسمير نقـّاش يجيب يعقوب بن عمام على تساؤل شاؤول السابق قائلا: «لعلي أفلست من أشياء كثيرة حقا، لكني لن أفلس من هذا الشيء... إخواني وحبي وتربة آبائي وجدودي... وحتى لو بلغ حجم الهاوية بحرا من بغضاء، واقتلعت العين الماسية المتلألئة بالطهر، أنا ثابت يا علوان، وإذا ظل يهودي واحد في بغداد، فاعلم أني هو» (ص 329)
من أين يستمدّ اليهوديّ هذا اليقين المطلق، الذي لا نجد له مثيلا لدى الآخرين؟ فالأرمنيّة (الخالة غاوني)، التي نجت بأعجوبة من مجزرة أعظم بما لا يقاس مما عاناه اليهود العراقيون، وفقدت وطنا أكثر عيانيّة وثباتا من وطن خرافيّ الوجود، لم تكن تملك شيئا من اليقين يربطها بأرض العراق. لذلك يرى الراوي في قصّة «الخالة غاوني» من مجموعة (نذر الخريف) لشمعون بلاص أنّ الأرمن: «غرباء كانوا بيننا، تعلموا لغة البلاد بصعوبة وتجنبوا الاختلاط بالناس.( ص 8). كيف لـ «غاوني» أن تمتلك اليقين وهي لا تملك هذه الـ «نا» السحريّة، التي كتب بها شمعون بلاص نصّه: «بيننا»! كيف لها ذلك وهي لا تملك ما يملكه يعقوب من أسس لليقين: «جذورنا يا علوان، يا رفيق العمر المتصرم والعالم المتصرم، ممتد مع الدهر وفي أحشائه فلماذا تتسع شقة الهوّة؟ وبلحظة تقتلع أعين هذا الدهر الشاهدة، المبثوثة في كل ذرة تراب من هذه الأرض... الأعين الغائرة داخل أعماق التاريخ، في عمق أبعد من كل ما في الكرة الأرضية من أعماق» (ص 328). من هنا، من هذه الأغوار العميقة استمد اليهوديّ العراقيّ يقينه، الذي صنع فرادة وجوده في محيط قلق، متقلّب، شديد التنوع.
كثيرون منهم وجدوا في الأدب العربيّ والثقافة العربيّة مادة للعيش. وجدوا فيها بضاعة لا يستطيع المهاجر الى إسرائيل، القادم من بيئة ثقافيّة غريبة، أن يتعاطاها بيسر أو أن يتجاهل قيمتها كمؤثر عقليّ وسلاح في الحرب اليوميّة التاريخيّة. لكنّهم لم يوظفوا هذه (الحرفة والمهارة والميل) لغايات سيّئة، ولم يسفـّوا بها أو يحطّوا من قدرها، على العكس من ذلك، قاموا بإعلاء قيمتها، وتقديمها للآخر: العدو والصديق، على أنّها قيمة إنسانيّة عالية، وملمح خاص من ملامح تعدد الهويات وتعدد الثقافات وهي تواجه قسوة المصير.
لكنّ الواقع الغاشم، لم يكن معنيّا باليهود أو حتّى ببغداد ذاتها كوجود تاريخيّ. كان التاريخ العراقيّ والإسرائيليّ يُكتب بلغة الدم، لغة الصراع والبغضاء والتدافع الدمويّ الثأريّ المقيت. قانون إسقاط الجنسيّة في العراق وما رافقه من تهجير إرغامي، وعمل الجماعات الصهيونيّة الإرهابيّة، وتأثير الميول النازيّة والعنصريّة، كونت مصيرا قاسيّا لليهود في العراق، الذين تمتعوا منذ نهاية الدولة العثمانيّة بوضع دستوريّ خاص ومتميز.
لعبت الإرادات السياسيّة المحليّة والأجنبيّة دورا حاسما وقاهرا في تقرير مصائر يهود العراق، لكنّها لم تقو على قتل تفرداتهم، والأهمّ من ذلك لم تقو على مسح إراداتهم الشخصيّة محوا تاما. ربما تمكنت من ليّ أذرعهم، لكنّها لم تتمكن من إرغامهم على خيانة مثلهم، على العكس وجدنا كثيرا منهم ينهضون من بين ركام المآسي لصناعة عالمهم الخاص المميز. إنّها قدرة الإرادة الجبارة للكائن الصغير على مواجهة قدر غاشم.

الأصالة: بحث عن هويّة أم بحث عن وطن؟
يقول سامي ميخائيل: «إن أبناء جيلي حينما يتكلمون عن العراق إنما يتحدثون عن وطنهم الأوّل». الحنين الى الوطن الأوّل، الحارة الشعبيّة، نبض الحياة اليوميّة للمدينة العراقيّة (بغداد)، تلك ملامح مشتركة نجدها في روايات موشيه، وفي قصص بلاص، وفي نصوص نقـّاش قصّة ورواية، وفي روايات سامي ميخائيل ونعيم قطـّان ومذكرات سوميخ. وربّما لم يسجل الأدب العراقيّ الواقع اليوميّ للمدينة بالعمق والتفصيل الذي سجلته نصوص الكتـّاب اليهود. من دون شك، إنّهم ورثة مخلصون لتيار الواقعيّة الاجتماعيّة العراقيّة والعربيّة، وبعضهم مطوّر ومجدد أيضا لهذا التيار. وحتّى اتهام البعض لموشيه بتقليد طه حسين ومحفوط هو تأكيد إضافيّ على عمق الصلة التي تربط بين تفرعات الأدب العربيّ. لكنّ أثر الواقعيّة العربيّة ملمح لا تخطئه الأحاسيس في نصوص الكتـّاب اليهود العراقيين. وهم لذلك يشكّلون حلقة مهمّة من حلقات تطور التيار الواقعيّ في النثر العراقيّ، الذي انعطف انعطافة حادة في نهاية الستينيات، مغادرا مسار تطوره الخمسينيّ والأربعينيّ الشحيح وغير المعمّق.
قدّم الأدب اليهوديّ إضافة جريئة للوحة الحياة الاجتماعيّة والنفسيّة والفنيّة العراقيّة حينما ذهب عميقا وتوغل بعيدا في عالم المرأة، فظهرت تفرّدات مضيئة في بناء الشخصيّة النسويّة الروائيّة والقصصيّة، كما في رواية (فريدة) لقطـّان و(فكتوريا) لسامي ميخائيل وقصص بلاص وشخصيات نقـّاش النسويّة. وربّما تكون «فكتوريا» هي أعظم الأمّهات العراقيّات وأكثرهن رهافة وحميميّة. فلم ينجب الأدب القصصيّ العراقيّ أمّا على هذه الدرجة من الامتلاء الروحيّ، والبهاء الشخصيّ، والطهر الأنثويّ. ولم يُخلق عراقيّ قطّ قرأ هذه الرواية ولم يتذكر حليب ثدي أمّه.

الإشكال: الأبناء يلدون آباءهم!
أمام هذا اليقين الداخليّ الراسخ مارست الدولة الإرغاميّة، في هيئة حكومات عربيّة متخلّفة، أو جماعات صهيونيّة متطرفة، أو سلطة اسرائيليّة مسلّحة، واحديّة عقائديّة شريرة هدفها الاعتداء السافر على وجود اليهوديّ العراقيّ وتهشيم منطقه الداخلي، وجعله مزقا مبعثرة، وشظايا من ذوات ممزّقة، لكي تسهل عمليّة تجميعه في وطن افتراضيّ، يضمّ عناصر التبعثر في وحدة تاريخيّة مصطنعة، مكونها الأساسي هو الدين السياسيّ، كرابط بديل من الأرض واللغة والثقافة والمصالح الاجتماعيّة، ومن الدين نفسه كقيمة إيمانيّة.
إنّ يقينيّة اليهوديّ العراقيّ بانتمائه الأوّل لا تنفكّ تتعرض الى ضغوط جبّارة، سببها الزمن الطويل والمسؤولية الشخصيّة والعمر والهوى الشخصيّ والدولة الضاغطة والعداء التاريخيّ، والقوى العالميّة المؤثرة. كم سيصمد هذا الوجود الأعزل متماسكا في مواجهة هذا الكم من الأعداء الأقوياء؟
لا يخفى على أحد أنّ عقيدة الدولة الدينيّة المنتصرة استطاعت أن تفترس جزءا حيويّا من هوية المهاجر العراقيّ وتكوينه التاريخيّ. ظهر هذا جليّا من خلال تغيّر في الأسماء: داوود الى دافيد ومعلّم الى موريه، وتغيير في التعامل مع قواعد اللسان والتعبير: اللغة. لقد حاول شموئيل موريه تبرير التحول من العربيّة الى العبريّة لدى بعض الكتاب اليهود من طريق ربطه بعامل السوق (ايلاف 20 ـ10ـ 2006). وهذا تبرير طهريّ، خجول، يشير الى بعض من شظايا الحقيقة وبعض من نصال الإشكاليّة الثقافيّة، لكنه لا يجيب عن الأسئلة الجوهريّة. وحينما ناقش سامي ميخائيل، باعتباره أحد المتحولين، هذا الأمر مع صحيفة داغسنيهيتر السويديّة لم ينكر عامل السوق أيضا، لكنه لم يشأ أن يخفي أنّ السوق هنا يرتبط ارتباطا لا فكاك فيه بعامل السياسة والهويّة الثقافيّة وأفضليّة سبل الدفاع عن المواقف. يقول ميخائيل «أن تكون يهوديّا، متحمّسا في مناهضة الصهيونيّة وتكتب بالعربيّة، ذلك أمر غير مغر بشكل خاص في أيّة بقعة من العالم». ولم يتوقف الأمر على الأسماء واللغة فقد تغيرت أيضا قواعد الانتساب الى الوطن الأمّ. وربّما تكون صيغة «اليهود النازحين من العراق»، المتعارف عليها الآن رسميّا في إسرائيل، صيغة تذكيريّة قائمة على توازن المشاعر، تتولى مهمّة امتصاص تأنيب الضمير، ومهمّة وسم اليهوديّ بميسم علاقات السوق القوميّة التبادليّة، التي تمنح اليهودي المهاجر الى إسرائيل حلا منطقيّا يبيح له تقبل شرعية وجود نزوح تعويضيّ مقابل نزوحه، نزوح طارد، حافظ لواحديّة الهويّة الوطنيّة الافتراضيّة: المواطنة اليهوديّة. مثل هذا الإحساس، المستلف سهوا من واقع لاحق، يرد على لسان أحد أبطال بلاص في مجموعة (نذر الخريف): «قد لا يبقى يهودي في أحياء المدينة القديمة. والفلسطينيون يقبلون. أيّ عالم!» (ص 91). إنّ اللغة عنصر ثقافي هامّ، لا يرتبط بفن الكتابة حسب، بل يرتبط أيضا بتكوين الهويّة التاريخيّة، فلا وجود لشاعر اسمه السموأل في التاريخ من دون العربيّة. يرصد الروائيّ سامي ميخائيل تداعي الهويّة من خلال اللغة قائلا: «أولادي وأحفادي ولدوا في إسرائيل لتكون وطنهم الأوّل، وتكون اللغة العبريّة لغتهم، هذه هي المفارقة: أن أتبنى وطن أبنائي، على عكس ما يحدث عادة: أن يتبنى الأبناء وطن أبيهم». لم يتبنّ ميخائيل وطن أبنائه حسب، بل تبنّى لغتهم أيضا. وهنا مكمن الخراب والعدوانيّة الثقافيّة. ففي صفحة ثقافة من صحيفة داغنسنيهيتر السويدية يقول سامي ميخائيل: «لم استخدم القاموس مرّة واحدة حينما ترجمت ثلاثيّة نجيب محفوظ»، ويضيف «تطلب مني قضاء خمسة عشر عاما لغرض تعلّم العبريّة»، «الآن، أحلم، أفكـّر، أحبّ، وأكره بالعبريّة». إن معادلات الوجود الثقافيّ الخاطئة تُقام دائما على مبدأ قلب الحقائق على رأسها؛ فلا غرابة أن يلد الأبناء آباءهم في الوطن الدينيّ.
لكن سامي ميخائيل، ظلّ يتحدث الى أمّه بالعربيّة. لأنّ الأمّ المهاجرة في روايته (فكتوريا) «بعد أربعين سنة في هذه البلاد (إسرائيل) تفهم اللغة العبيريّة التي يتكلم بها أولاد الأحفاد بصعوبة» (ص 309). تلك هي تناقضات القدر المسرحيّ المغلّف بالعقيدة الإرغاميّة.

ليلة كرستال عراقيّة
وربّما لذلك السبب سيطرت فكرة «الفرهود» على نصوص المهاجرين اليهود العراقيين، واحتلت موقعا مركزيّا في النصوص المكتوبة عن حقبة التهجير. ورغم الخلاف الجديّ حول تلك الواقعة ( تمّ الاعتداء السافر على أحياء يهود بغداد عام 1941 عند صعود مجموعة ذات ميول نازية الى الحكم. وقد بولغ في عدد الضحايا، فمنهم من جعله بالمئات، وقد تبنت المنظمات الصهيونيّة، التي لها ضلع بالحدث، هذا الرأي وأيّده بعض الكتـّاب، منهم نعيم قطـّان في رواية (وداعا بابل)، وعارضه بشدة بعض الكتاب العراقيين وحاججوه بدقّة صارمة، ومنهم الروائي العراقي حسين الموازاني، الذي رأى أنّ عدد القتلى لا يتعدى تسعة أشخاص. وهذا يعني أنّ تضارب الأرقام والمصادر كان واسعا. فمنهم من عدّ القتلى بالعشرات، ومنهم من حددهم بـ189 قتيلا، ومنهم من رفع الرقم الى 300 أو 400 قتيل، وقد يصل عند بعضهم الى ألف قتيل) وبصرف النظر عن العدد، لأنّ العلاقات بين الأقوام المتعايشة وحياة المواطنين لا تقاس عدديّا إلا في نظر الجزارين؛ إلا أنّ وجود إشارات تربط الحدث بالشيعة عُدت إحالات رمزيّة فاشلة روائيّا كممارسة فنيّة، وإشارات جرميّة ومعرفيّة خاطئة كحدث وواقعة، وكان هذا صلب اعتراض الكاتب حسين الموازانيّ.
لماذا سيطرت حادثة الفرهود على وعي الكاتب اليهوديّ؟ هل هي «ليلة كرستال» عراقيّة؟ نعم هي كذلك، على الرغم من صغرها عالميا. فالعلاقات بين العراقيين لم تكن قائمة على الأسس نفسها التي أقامها الأوروبيّون مع اليهود. لأنّ اليهوديّ في العراق تمتّع بوضع اجتماعيّ ودستوريّ مقبول نسبيا مقارنة بوضعه في أماكن أخرى. ( أنا ممن لا يؤمنون بهذا الوضع، رغم ايجابياته قياسا بوضع اليهوديّ في الغرب آنذاك، لأنّه يشبه الأوضاع الدستوريّة اللبنانيّة والعراقيّة الحاليّة: اصطفاف حسابيّ، عدديّ، للطوائف على حساب مبدأ المواطنة والروابط الثقافيّة والاجتماعيّة الجوهريّة للفرد). إنّ سبب حضور واقعة الفرهود بقوّة في الأدب اليهوديّ يعود الى أنّ ذاكرة الضحيّة تريد أن تدعم حججها بأمثلة حسيّة من محيطها، لكي تكون تجاربها المعاشة أكثر كونيّة من حدودها المحليّة الضيّقة. لذلك نرى هذه الواقعة حاضرة لدى موشيه، ويعيد بلاص تكرارها بقوّة في (نذر الخريف)، و يكررها نقـّاش في (نزولة وخيط الشيطان)، وتتصاعد بشكل تراجيديّ وتتماهى مع الأسطورة الكبرى للسبيّ البابليّ لدى نعيم قطـّان في ( وداعا بابل).
يقول نعيم قطـّان في كتابة (الواقعي والمسرحي): «نستطيع أن نعيش في عالمين دون أن نستسلم للتمزق» (ص 9). لكنّ التمزق هو الجملة الأثيرة في العقل السياسيّ الصهيونيّ المتطرف، وهو اللعبّة المثلى لتجميع اليهود التائهين. فبدون هذا الانقسام يعود اليهوديّ الى أصله الطبيعيّ إنسانا يحمل صفاته الفرديّة ووحدته الثقافيّة المؤسسة على صيغ أخرى غير الدين. بدون التمزّق يتحرر اليهوديّ من ارتباطه الزجريّ والإرغاميّ بذاكرة أسطوريّة، ذاكرة تعمل مثل مغناطيس مأسويّ يلتقط من الطريق كلّ معدن يصادفه، يشمّ فيه، وهما وصدقا، رائحة الأضاحي. مثل هذا المصير لا يمكن أن نسمّيه وحدة. أمّا الوحدة التي نراها لدى كتـّاب مثل نعيم قطـّان، لا يريدون أن يكونوا «كارهين» لأحد من بني البشر، فهي علاقة غير ممكنة في الأحوال كلّها. لأنّها «تطنيش» تاريخيّ، ومراوغة فنيّة للاحتيال على الذاتين: الذات الشخصيّة، لكي تقبل واقعا ظالما غير سوي وغير إنسانيّ، والذات الكبيرة، القادرة، المهيمنة، التي لا قِبلَ للفرد بمناطحتها يوميّا. إنّها «اللامبالاة» التاريخيّة، كما يسميها قطـّان نفسه في كتابه (الواقعي والمسرحي) . يلخّص قطـّان حالته القدريّة تلك بالكلمات التالية: «أن أكون يهوديا وعربيا وأن أعيش الصراع كشذوذ كمرض... هذا هو قدري» ( ص 14)، هنا يلخص قطـّان، من دون أن يصرح علنا، جوهر القدر الصهيونيّ كلـّه.
إنّ الخروج من القدر الصهيونيّ ثورة عظيمة يتوجب على الجميع النضال من أجل خلق ممهدات قيامها. ثورة توقف العرض المسرحي البهيج للذات المغلقة على نفسها وهي تعيش حياتها الواقعيّة غير السّارة. تلك هي خلاصة تكوين دولة العقيدة الدينّة، المتناقضة شكلا ومضمونا. تلك خلاصة نموذجيّة مثلى، يوجزها كاتب فرد، صادق وماهر، ويوثقها بتجربته الذاتيّة والشخصيّة، لأنّه يجسد بها تجسيدا خلاّقا صورة المجتمع الذي ينتمي اليه في لحظة تاريخيّة محددة: وجود إسرائيل كممثل مسرحيّ بارع، يحتال على الواقع والتاريخ وعلى مواطنيه. باسم الملحمة المجلوبة من أغبرة التاريخ تُبنى أسطورة عصريّة وقتيّة، طارئة، على حساب الهويّة التاريخيّة الحقيقيّة، التي هي المصدر الأساسي للبقاء، والاستمرار، وعنصر الوجود الدائم، الإنسانيّ، الطبيعيّ.

رحلة العودة الى اللاعودة

يقول قطـّان أيضا: «إن الذين نجوا من الإبادة الجماعية لم ينسوا حلم اليهوديّة القديم. والعودة الى الشرق كان بمثابة القبول بفشل اندماج اليهود في الغرب» (الواقعي والمسرحي ـ ص 42)
نعم، إنّ الأمر كذلك. فما عاد هذا الفشل التاريخيّ يخفى على أحد. لكنّ هذه العودة «الفشليّة» تخفي تحتها فشلا آخر، أكبر وأعمق، لم يتمّ الكشف عنه بجلاء. لقد تمّت هذه العودة الى الشرق لا من أجل التوافق مع التاريخ، والذات، والهويّة، والمحيط الثقافيّ، وإنّما سارت بشكل مقلوب، من طريق سعيها الى تهريب مملكة العودة الشرقيّة الى الغرب الذي هربت منه، لأنّها لم تسع للاندماج في الشرق أيضا. إنّها رحلة ذهاب وإياب فاشلة، وتأرجح بين أوطان افتراضيّة، وليست بحثا عن ذات حقيقيّة. لأنّ جوهر الخطأ يكمن في فكرة تسييس الدين، وإحلال اليهوديّة محل الجغرافيا والتاريخ والمجتمع. لذلك نرى اليهوديّ يعجز عن الاندماج والانسجام في الغرب فيهرب الى الشرق، لكنّه يحقق اندماجه الشرقيّ من طريق تهريب الشرق الى الغرب الذي هرب منه. إنها رحلة معقدة، سلسلة من عمليات الهروب من المصير، من الذات، إنّها رحلة تشبه التيه الأبديّ، أو المتاهة الأزليّة.
حينما ينشر الكاتب العراقيّ «المسلم» غائب طعمة فرمان نصا، يقال عنه: كاتب عراقيّ مقيم في موسكو، وحين يهاجر المندائيّ عبد الرزاق عبد الواحد يقال عنه: كاتب عراقيّ سواء أقام في في دمشق أو عمان، وحينما يموت المسيحيّ سركون بولص يتمّ نعي شاعر عراقيّ مات في برلين. ولكن، حينما ينشر سمير نقـّاش يقال عنه: كاتب يهوديّ من أصل عراقي مقيم في لندن، أمّا نعيم قطـّان فهو يهوديّ مقيم في كندا، وشموئيل موريه يهوديّ من أصل عراقي في إسرائيل. لماذا يختصّ اليهوديّ وحده بصفة اليهوديّ؟ لماذا يكون الدين هو الرابط الوحدويّ لليهود حسب؟ بالدين يستطيع الرافضين لقيام دولة إسرائيل من العرب محو ارتباط اليهوديّ بوطن اسمه إسرائيل، هكذا يقول أنصار إسرائيل. ربما! ولكن، مثل هذه التسمية تطلق حتّى على من يعيشون خارج إسرائيل ولا يحملون جنسيتها. لماذا يحدث هذا حتّى خارج المعضلة الإسرائيليّة؟
لماذا لا يتحرّج كتاب يهود معارضون للهيمنة الصهيونيّة مثل موريه من «تديين» اللغة، حينما يتحدث عن لهجات مسيحيّة وإسلاميّة ويهوديّة في مقدمة رواية (نزولة وخيط الشيطان)، ومثله يفعل سامي ميخائيل في (فكتوريا). من صنع هذه الرابطة فوق الوطنيّة، وفوق الشخصيّة؟ إنّها خرافة الوطن الافتراضيّ، الوطن المفرّغ من الملامح الذاتيّة الحقيقيّة، الوطن الأسطوريّ، المعمّم على الجميع، الوطن القبليّ الموجود قبل ولادة المواطن نفسه، الوطن الذي ينتزع من المواطن خصائص مواطنته، ومن الإنسان خصائص وجوده الفرديّ، ويحيله الى ملحق بعقيدة دينيّة ينتسب اليها مرغما، وربّما لا يؤمن بها أصلا. هنا تكمن إشكاليّة الدولة اليهوديّة الدينيّة وإشكالية اليهوديّ كمواطن في دولة: البحث عن هويّة جامعة، ومسح الخصوصيّة الثقافيّة للواقع، باسم البحث عن الجذور الأبعد. يقول نعيم قطـّان الذي عاش في فرنسا وكندا: «اعترف هنا بأنّي لم استطع أن أعيش الشرق إلا وأنا في قلب الغرب». إنّ هذا الاكتشاف الفذ لا ينطبق على قطـّان وحده، إنّه حقيقة دولة إسرائيل كلّها، إسرائيل المهاجرة من الغرب الى الشرق، التي لم تتمكن من العيش في الغرب والتأقلم معه إلا بعد أن استوطنت الشرق.
وإذا كان اليهوديّ المهاجر القادم من أوروبا وجد في الشرق (إسرائيل) بقعة لتحقيق التلاؤم مع الغرب، الذي افتقده وهو يعيش في الغرب، فإن اليهوديّ الشرقيّ فعل العكس، أرغم من قبل السياسات العربيّة الحمقاء ومن قبل ضغط التيه اليهوديّ الغربيّ المدجج بخرافات الواحديّة الثقافيّة الزائفة الى أن يعود الى الجذور التي اقتلع منها، يحقق انتماءه بالحلم، بالخيال، بالحنين، بالعودة الروحيّة الى وطن أوّل أجبر على هجره لصالح وطن تعويضيّ. في إسرائيل يُرغم اليهوديّ من أصل عراقيّ على استعادة عراقيته المستلبة. يقول اسحق بار موشيه: «نتذكر بحزن أن حكام العراق انذاك كانوا يصفوننا بأننا يهود، وقد تركنا العراق كيهود ووصلنا اسرائيل كعراقيين، المنظر مأسوي ومضحك في الوقت نفسه، فقد ساعدنا حكام العراق على تثبيت هويتنا ، وها هم اليوم أبناء ديننا وجلدتنا يساعدوننا مرة اخرى على تأكيد وتثبيت عراقيتنا». لم يكن راسمو المصير اليهوديّ حمقى الى الحدّ الذي يرتضون فيه أن يُدفع أبناؤهم التائهون الى حضن أعدائهم بهذه القسوة والرعونة. لكنّ القدر الصهيونيّ، ككل قدر غاشم، لا يمكن أن يباع مجزءا. الأقدار الغاشمة تشترى بخيرها وشرها حزمة واحدة، مترابطة. تلك العودة الى الهويّات الفرعيّة جزء من تناقضات الذات الشموليّة، جزء من تناقضات سلّة الحواة التاريخيّة، التي قد تُخفي في بعض زواياها عودة مشروطة ومقيّدة، عودة على الورق، وفي المخيال والكلمات، في الجانب المسرحيّ من العرض التاريخيّ. هذا هو الحدّ المسموح به، حتّى الآن، من جرعات التمرّد على القدر الواقعيّ.
هذه الانقلابات في مكونات الهويّة هي جوهر كينونة الوجود اليهوديّ الراهن كدولة ومجتمع، وجوهر وجوده المضطرب والمختـّل لصالح وحدة خرافيّة لا تقوى على صناعة وطن حقيقيّ، ثابت وأصيل الملامح. ومن أجل أن تكون الرحلة الى الشرق أكثر رسوخا على المجتمع اليهوديّ أن يجد سلاحا أكثر مضاء من القنابل، عليه أن يستأنس ذاته، أن يكفّ عن إغراء وترويع الآخرين بغية جذبهم الى تطبيع الأقوياء. على المجتمع، لكي يتمكن من البقاء، أن يطبّع مع نفسه أولا، أن يستعيد ذاته الواقعيّة في محيطه الطبيعي، وأن ينزع ثوب الاغتراب الحضاريّ وقفطان الوحدة الخرافيّة الدينيّة والأسطوريّة، لكي يكون مؤهلا بحقّ للتطبيع السلميّ، الطبيعيّ، مع محيطه التاريخيّ، وبيته الكبير، الأبديّ. إن الثورة اليهوديّة الكبرى ستتحقق على يد المثقفين، لا على يد السياسيين، لأنّها ثورة من أجل امتلاك هويّة، وليست حربا من أجل اغتصاب أرض أو تشييد وطن افتراضيّ مسور بالكونكريت المسلح والسلاح الذريّ.
يرى سامي ميخائيل، وهو مناضل متحمّس ضد المشروع الصهيوني أنّ «الحل الوحيد للمشكلة هو قيام دولتين، يهودية إسرائيليّة وفلسطينيّة مسلمة»، ويستدرك موضحا «أنا أقول مسلمة، لأنني أعتقد أنّ عددا كبيرا من المسيحيين الفلسطينيين فقدوا الأمل وهاجروا». هنا نرى عمق الأزمة الوجوديّة، التي أخذت تضرب حتّى قناعات خصومها بقسوة. ما النتيجة الحسيّة المنتظرة لهذا الهجوم الثقافيّ التاريخيّ؟ إنّ العقيدة الصهيونيّة المسلّحة لا تصوغ شكل كيانها الشخصيّ دينيّا فحسب، بل تريد إرغام خصومها على التحول الى نمط واحديّ مماثل، يطابق جوهرها التجميعيّ، الطارد ثقافيّا. إن تغذية الصراع الفلسطينيّ الداخليّ إسرائيليّا يجعل الوجود المسيحيّ هو المستهدف الأول، الموضوع على طاولة الإجتثاث. بهذه النتيجة المؤلمة ترغب إسرائيل في تأكيد حقيقة وجودها، وإثبات صواب واحديتها الثقافيّة القائمة على تزييف وجود الآخرين بالقوّة المسلحة، وبالإلغاء كقدر وحيد ممكن.
تلك إشكاليّة سياسيّة خالصة وليست معضلة دينيّة. إشكاليّة هجوميّة لا يمكن إيقاف زخمها إلا من طريق واحد هو إعادة اليهوديّة المسروقة سياسيّا الى أصلها الطبيعيّ كدين وليس كآيديولوجيا، وإعادة اليهوديّ الى أصله ككائن اجتماعيّ ثقافيّ ومواطن في وطن ما، وليس كمواطن في بقعة افتراضيّة، مهربّة سهوا من الغرب الى الشرق ومن الشرق الى الغرب. إنّ البحث عن هويّة هو الحل الأوّل والأخير للمشكلة الإسرائيليّة، لأنّ إسرائيل نفسها ككيان لم تؤسس هويتها الحقيقيّة بعد، ولم تزل كيانا مغتربا، تكابر وتعاند من أجل فرض حلول عسكرية وسياسية بالقوّة، ظنّا منها أنّ ذلك يقود، أو يرغم الواقع على جعلها ذاتا ثقافيّة وأمّة، ووطن. بيد أنّ هذا لن يحدث كحقيقة واقعيّة إلا بإسقاط فكرة الوطن الافتراضيّ والعودة الى الجذور، بالتصالح مع الذات، أي العودة الى الواقع لا الى الأسطورة، الى الذات لا الى المخيّلة، الى الثقافة لا الى السياسة وشكلها العنفيّ : السلاح.
عن " السفير "

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سلام عبود


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni