... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
مشاهدات من «العراق الجديد»: بغداد تذهب إلى الخراب.. ورموزها تختفي

معد فياض

تاريخ النشر       07/01/2010 06:00 AM


سبع سنوات، تقريبا، مضت على تغيير النظام في العراق. سبع سنوات مرت من حياة العراقيين الذين يستعدون في بداية العام المقبل للمشاركة في ثالث عملية انتخابات برلمانية. سبع سنوات انطفأت، أو اشتعلت، في التاريخ العراقي الجديد الذي صار يصنف، حسب الأحداث، بما قبل أو ما بعد السقوط أو التحرير أو الاحتلال الأميركي لبلد عرف بأنه وأهله، عصي على الاحتلال والمحتلين. بلد استطاعت شعوبه وعبر آلاف السنين نسج مجتمع متعدد الأديان والطوائف والقوميات، هذا النسيج يبدو حتى اليوم، قويا على الرغم من التفجيرات والاقتتال والتدخلات الإقليمية التي تتشابك مصالحها فوق أرضه وبين ناسه.
سبع سنوات مضت على وعود السياسيين الجدد والأحزاب، التي عارضت بالأمس نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وبشرت بوعود بناء «العراق الجديد»، كما أطلق عليه الأميركيون لدى الغزو، كدولة مؤسساتية فيدرالية يسودها ربيع النظام الديمقراطي بعيدا عن خريف الانقسامات، وينتصر فيها القانون للمظلومين.
ولكن كيف هو وضع العراق الجديد بعد سبع سنوات من التضحيات الجسام والتفجيرات والاختطافات وسيادة الميليشيات وغياب القانون في أجزاء كبيرة من ربوع الرافدين اللذين يعانيان الجفاف؟ فهل هذه السنوات السبع العجاف، والتي ستليها، سنوات خير أم إن جفاف الأرواح والأفكار والحياة سيستمر كعنوان لهذا البلد؟
«الشرق الأوسط» لم تذهب إلى السياسيين الذين وعدوا العراقيين، وما زالوا، بحياة مؤثثة بالربيع، بل ذهبت إلى الناس، رصدت حياتهم عن قرب وفوق أرضهم لتنقل صورا من «العراق الجديد» من غير تزويق أو تحريف.
بدأنا برصد الحياة في العاصمة بغداد، ثم هبطنا إلى البصرة، ثاني مدن العراق «وثغره الباسم»، لنصعد إلى شماله في كركوك «مدينة التآخي» التي تتحدث بأربع لغات، ومن هناك اجتزنا بوابة إقليم كردستان لنتوقف عند قلعة أربيل، قبل أن نصل إلى السليمانية (بيروت كردستان).
وفي هذه الجولة، تعمدنا التوقف في «لاليش» حيث معابد اليزيديين؛ الدين الذي اختلف فيه كثير من الباحثين الذين حملوه أكثر مما يجب من العناوين الغريبة. هنا صور وخرائط عن «العراق الجديد».
* شوارع وأسواق ومقاهي بغداد لا تغير أسماءها، ولا مواقعها ولا تاريخها، لكن أحوالها تتغير، بل تغيرت أكثر مما يجب، وأكثر مما يتصوره أو يتخيله أي بغدادي، أو أي عراقي أو زائر كان قد جاب هذه الشوارع والأسواق والمقاهي التي رافقت قيام هذه المدينة عبر مراحلها، فهناك أسواق و(مقاهي) قائمة منذ العصر العباسي، وشوارع قامت خلال الحكم العثماني.
ذاكرة الناس، أيضا لا تتغير، ربما تتأثر، أو تتطبع، أو تتناسى بمرور السنين والأحداث، وما مر بالبغداديين خاصة، والعراقيين عامة من أحداث تجعلهم يقاومون المؤثرات التي تطرأ على ذاكرتهم اتجاه المدينة.
إن أفظع ما تعرضت له بغداد، كمدينة حضارية، وحاضرة لها خصوصياتها المعمارية والاجتماعية، هو هجوم الريف نحوها، والمحاولات الحثيثة لترييفها، وهذا ما كان قد شخصه العالم الاجتماعي العراقي المعروف الدكتور علي الوردي (1913 ـ 1995) نظريا في كتاباته التي درس خلالها الشخصية العراقية وعبر عدة مؤلفات، أبرزها، (وعاظ السلاطين)، و(لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث ـ 8 أجزاء)، واليوم يحصد البغداديون، أبناء المدينة، نتائج الهجمات الريفية المتتالية على مدينتهم، وجرجرتها من موقعها المديني إلى واقعهم الريفي، هذا إذا عرفنا أن الريف العراقي لم يتطور منذ نشأته بفعل إهمال الحكومات له، وساعد أيضا في ذلك هو أن غالبية من حكموا بغداد هم ليسوا من أبنائها ولا ينتمون إلى روح المدينة بقدر انتمائهم إلى الريف وحاولوا أن يجعلوا منها بلدة ريفية كبيرة.
وما زاد، أيضا، في مشاكل بغداد وخرابها هو أن كل الذين حكموها إما أنهم كانوا من العسكر، أي لا يتمتعون بعقلية مدنية، منفتحة على الحوار والإنجازات المعمارية والثقافية والاجتماعية الصحيحة. وهذا ما اعترف به وللمرة الأولى منذ سقوط النظام السابق عام 2003، أمين عاصمة بغداد، صابر العيساوي، عندما اتهم علنا وزارتي الدفاع والداخلية والوقفين الشيعي والسني بإلحاق «أضرار» جسيمة بالتصميم الأساسي لبغداد و«تشويه مظهرها»، وذلك عندما استعرض خلال اجتماع للجنة التصميم الأساسي لبغداد «التجاوزات الحاصلة من قبل جهات ومؤسسات حكومية تتصدرها وزارتا الداخلية والدفاع والوقفين الشيعي والسني»، منبها إلى أن «هذه المؤسسات شيدت عددا كبيرا من المباني والمنشآت على الأراضي العائدة للدولة دون الحصول على الموافقات الرسمية من أمانة بغداد، مما تسبب بأضرار كبيرة بالتصميم الأساسي وتشويه مظهرها ومنظرها، فضلا عن عرقلة تنفيذ عدد من المشاريع الاستراتيجية المهمة». ذلك أن إجراءات البناء أو تصميم أي بناية في العاصمة العراقية، ومثلما يحدث في جميع المدن الحضارية، يجب أن تقرن بموافقة البلدية أو الحصول على إذن أو إجازة بناء، وقد بقي هذا الإجراء معمولا به حتى اليوم الأخير من عمر النظام السابق، لكن الأمور فلتت من بين أيدي المسؤولين عن هذه الإجراءات بعد الاحتلال الأميركي في أبريل (نيسان) 2003، إذ صار بإمكان أي شخص أن يبني ما يريد سواء داخل حدود عقاره أو متجاوزا على عقارات الدولة، أو الآخرين، وتعدى الأمر ذلك عندما قامت بعض العوائل باحتلال بيوت عراقيين مسافرين أو موجودين داخل بيوتهم وتم إخراجهم بقوة السلاح، والأكثر من هذا وذاك هو قيام عوائل بانتهاك أبنية تعود لمؤسسات حكومية واتخاذها كسكن لهم، مثل بناية وزارة الدفاع القديمة وقيادة القوة الجوية، وغيرها من الأبنية.
كانت بوابة وزارة الدفاع التي تطل على نهر دجلة محمية بأحكام من قبل العسكريين، ولم يخطر على بال أحد أن تشرع هذه البناية، التي يقع على جانبي بوابتها مدفعان قديمان ذهبيان، أبوابها للعوائل اللاجئة والتي ليس لها أي مسكن. وبسؤال رجل كان يجلس مع حلقة من أصدقائه عند البوابة عن عدد العوائل التي تتخذ من مكاتب الوزارة القديمة مساكن لها، قال «العوائل في الداخل كثيرة جدا، كل عائلة اتخذت من مكتب أو أكثر مسكن لها». صمت الرجل قليلا واستطرد متسائلا «وين نروح، هل نبقى في الشارع نحن ونساؤنا وأطفالنا؟». عقب آخر، وهو يداعب حبات مسبحته، قائلا «كل يوم تهددنا الحكومة بإخلاء البناية باعتبارها عائدة للدولة، لكن الحكومة نفسها بوزرائها ورؤساء أحزابها احتلت قصور صدام حسين ووزرائه وقياداته، أليست القصور التي يسكنون بها ملكا للدولة؟ لماذا لا يخلون هم هذه القصور قبل أن يطلبوا منا إخلاء بناية وزارة الدفاع». كان في محاججة هذا العراقي الذي تجاوز الستين من عمره الكثير من المنطق الصحيح.
وعودة إلى اعتراف أمين العاصمة، العيساوي، فإن «وزارة الدفاع شيدت مركزا للتدريب على الرماية في جانب الرصافة (شرق دجلة) ضمن الأرض المخصصة لتنفيذ مشروع التوسيع الثاني لمشروع ماء شرق دجلة مما أدى إلى تأخير إنجازه، بينما أقامت وزارة الداخلية مركزا أمنيا في منطقة بوب الشام (15 كيلومترا شمال شرقي بغداد) على جزء من الأرض المخصصة لتنفيذ مشروع ماء الرصافة العملاق، مما يتطلب القيام بإزالة المبنى الذي يعيق تنفيذ هذا المشروع المهم». وحسب العيساوي «شيد ديوان الوقف السني عددا من المباني تجاوزا خلف مسجد أم الطبول في منطقة اليرموك (غرب) دون الحصول على موافقة رسمية، كما شيد مباني أخرى في منطقة سبع أبكار (شمال) وغيرها من مناطق بغداد» ويضيف أنه كان «لديوان الوقف الشيعي دوره أيضا، إذ قام بتشييد عدة مبان متجاوزة على أراضي الدولة بصورة غير قانونية في منطقة العطيفية (شمال) لأغراض تجارية».
لو تطلعنا إلى بغداد من الجو لا نجدها اليوم مدينة مدورة مثلما أرادها أبو جعفر المنصور، إذ بقيت العاصمة العراقية محافظة على خارطتها الدائرية، وفي أواسط الثمانينات كان هناك مشروع كبير في أمانة العاصمة وبإشراف المهندس هشام المدفعي، نائب أمين العاصمة وقتذاك، وبالتعاون مع شركات غربية لوضع مخطط أساسي يحافظ على بغداد كمدينة مدورة، لكن هذه المدينة فقدت كل أشكالها الهندسية اليوم بعد أن غزتها الأحياء العشوائية والتي بناها ما يعرف شعبيا بـ(الحواسم)، وسرعان ما غزت هذه الأبنية العشوائية أحياء بغداد الأصلية والقديمة فغيرت خرائط العاصمة لهذا لا نرى اليوم في بغداد سوى الخراب، بل إن أحياء تحتل مركز المدينة التجاري في جانب الرصافة مثل البتاويين والأحياء المحيطة بشارع (أبو نؤاس) وإحياء شارع الرشيد، مثل السنك التي كانت تقطنها العوائل البغدادية العريقة والكرادة والفضل، وصولا إلى باب المعظم مرورا بالوزيرية التي سميت كذلك لسكن معظم وزراء العهد الملكي فيها وحتى الأعظمية، كل هذه الأحياء تحولت إلى خرائب بدلا من أن يتم تطويرها والحفاظ على عمارتها البغدادية التراثية الأصيلة. وفي جانب الكرخ، أمعن النظام السابق في تدمير حي الشواكة الذي يمتد تاريخه إلى العصر العباسي وتهديم بيوته من أجل زرع عمارات كونكريتية بزجاج عاكس في شارع أطلق عليه اسم حيفا.
كما تلاشت أهمية مراكز المدينة في بغداد التي كان لها أكثر من مركز، وفي كلا الجانبين من نهر دجلة الذي يعد شريان وروح المدينة، ففي الكرخ، كانت منطقة (علاوي الحلة) التي تقع فيها بناية المتحف العراقي، والصالحية التي تضم مبنى الإذاعة والتلفزيون، والشواكة، والكاظمية تعد من المراكز التجارية والاجتماعية التقليدية في الكرخ قبل أن تقوم الأحياء السكنية والأسواق التجارية الراقية في المنصور والحارثية واليرموك.
وكانت منطقتا الباب الشرقي والميدان اللتان يربط بينهما أقدم وأجمل شوارع المدينة، شارع الرشيد، وصولا إلى منطقة الباب المعظم التي لا تزال تضم جزءا من سور بغداد القديمة ملتصقا بجدار بناية وزارة الدفاع القديمة (القلعة) وحتى الأعظمية، من أبرز مراكز بغداد في جانب الرصافة. لكن بغداد اليوم بلا مركز، سواء كان تجاريا أو سياحيا، سوى متنزهات شارع (أبو نؤاس) ومتنزه الزوراء الذي يزدحم بالعوائل خلال الأعياد أو أيام العطل الأسبوعية.
بغداد هي أيضا مدينة الأسواق القديمة والمقاهي التقليدية والخانات التجارية والشوارع التي كرست لهوية العاصمة العراقية تجاريا وثقافيا وارتبطت بالنشاط السياسي لأهلها، ولعل أهم أسواقها هي، الشورجة، سوق الصفافير (النحاس)، سوق السراي، سوق دانيال، وسوق شارع النهر. وتعد مقاهيها، مثل، مقهى الخفافين والتجار وحسن عجمي والزهاوي، ملتقى أصحاب المهن والحرفيين والمثقفين والسياسيين. بل إن ثمة مقهى تسمى (مقهى المعقدين) بسبب اتخاذ بعض الشعراء والكتاب والنقاد الحداثيين فيه خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي.
لكن شارع الرشيد، الذي هو أول شارع تم شقه في بغداد، يعتبر حسب الباحث التراثي أسامة ناصر النقشبندي «من إنجازات والي بغداد العثماني، خليل باشا، إذ تم افتتاحه في 23 يوليو (تموز) 1916 وكان يمتد من باب المعظم إلى منطقة السيد سلطان علي بطول 3,120 كيلومترا، قبل أن يصل حتى شارع (أبو نؤاس) المحاذي لنهر دجلة، مارا بأهم المقاهي والحوانيت، محتضنا أهم الصناعات والمهن والحرف الشعبية المنتشرة في محال متزاحمة، محافظا على التقاليد البغدادية العريقة بين ساكنيه ورواده حتى إذا ما ثبتت معالمه، بهدم مئات الدور والمحال هجمت عليه إدارات الصحف، ودور السينما، والملاهي، والشركات التجارية، والأطباء والصيادلة، وغيرهم كل يريد له مكانا مميزا في امتداده حتى أصبح مركزا رئيسيا للتجارة بين بغداد وجميع مناطق العراق، بل كان إلى عهد قريب الشارع المحتكر لكل أنواع التجارة في بغداد. أما من الناحية السياسية، فقد شهد شارع الرشيد كثيرا من التظاهرات المناهضة للاستعمار».
ويوضح الباحث جميل الجبوري تسلسل الأسماء التي أطلقت على هذا شارع بدءا بـ«شارع خليل باشا (خليل باشا جاده لي)، ومرورا بشارع هند نبرك، ثم شارع النصر، تلته تسمية الشارع الجديد، وأخيرا استقر على تسمية شارع الرشيد».
ولعل أهم ميزات شارع الرشيد هو الرواق المتسلسل الذي يحمي المارة من الشمس والمطر وتميز أسلوبه المعماري بوجود الأعمدة والشناشيل والبالكونات في أبنيته، وتفرع أهم الأسواق التراثية البغدادية عنه وأبرزها شارع المتنبي، وحسب الدكتور إحسان فتحي أستاذ وباحث معماري، فإن «الأبنية التراثية في شارع الرشيد عكست التطور العمراني الذي شهدته بغداد مطلع القرن الماضي». ولكن لم يبق من تلك المعالم سوى مساجد تمت صيانتها، منها مساجد المرادية والأزبك ومرجان والسيد سلطان علي، علما بأنها شيدت خلال القرون الثلاثة الماضية.
سوق السراي، سوق عباسي (سوق الوراقين) آخر أخذ اسمه المعاصر من السراي العثماني الذي تقع بنايته في امتداد السوق الذي تبوح رائحة الورق التي تغلف فضائه بأسرار الكتب والأوراق ومحلات تجليد الكتب بمحتويات دكاكينه التي تعرض أيضا أنواعا من القرطاسية والحقائب المدرسية، فكل عام وقبل افتتاح المدارس، ومنذ عشرات الأعوام، يزدحم سوق السراي بالعوائل التي تصطحب أطفالها لتسوق الدفاتر والحقائب والأقلام. ويمكن القول إنه ما من عراقي دخل المدرسة يوما، ولم يأت مع والده أو والدته إلى هذه السوق لاختيار حقيبته المدرسية وبقية مستلزمات القرطاسية.
ومن يمضى في سوق السراي، وقبل أن يجتاز (كبة السراي الشهيرة)، ذلك المحل الذي يزدحم أمامه كل من أغوته رائحة (كبة البرغل البغدادية)، سيجد نفسه وعند زاوية (ركن) شارع المتنبي أمام مقهى الشابندر، وهو واحد من أقدم مقاهي بغداد. هذا المقهى تعرض للتدمير إثر تفجير شارع المتنبي في الخامس من مارس (آذار) 2007 وراح ضحية هذا التفجير العشرات واحترقت أمهات المكتبات البغدادية، مثل مكتبة المثنى، كما قتل أبناء صاحب مقهى الشابندر الثلاث والذين تتصدر صورهم واجهة المقهى.
مقهى الشابندر هو ملتقى الأدباء العراقيين يوم الجمعة، ذلك أن شارع المتنبي يزدحم خلال هذا اليوم إذ يأتيه كل من يريد كتابا لا يجده في أية مكتبة، وباعة الكتب يفترشون الشارع وهم يعرضون بضاعتهم. إلا أن أكثر بائع كتب شهرة على الإطلاق في شارع المتنبي هو نعيم الشطري الذي يفتتح مزادا بالكتب النادرة كل نهاية أسبوع، مستوقفا الجميع بصوته الجهوري، معبرا عن الحالة الحياتية لبغداد ببضعة أبيات من قصيدة للمتنبي أو للرصافي أو للزهاوي أو السياب أو للجواهري، وليس لك أن تجتاز هذا الشارع من غير أن يستوقفك صوت الشطري الذي تجاوز عمره الستين ولا يزال هو نجم شارع المتنبي. قال محمد الآلوسي، بينما كنا نقطع شارع المتنبي الذي يعود تاريخه إلى العصر العباسي بعد أن تمت إعادة بنائه وصيانته وفق أسلوب معماري تراثي بغدادي وبمبادرة وإشراف من الدكتور برهم صالح، عندما كان نائبا لرئيس الحكومة العراقية، وهو يشير إلى سوق مبني بالطابوق المحلي وتحتل واجهته بعض المكتبات ومحلات صياغة الذهب، وقد نقش على واجهته العليا بالكيشاني الأزرق والشذري (سوق الآلوسي)، قال «كان هذا بيت العائلة، عائلة والدي، إذ إن هذا الشارع القريب من السراي الحكومي العثماني، ومنطقة القشلة، كان حيا سكني للعوائل البغدادية الأصيلة قبل أن تتوسع هذه المدينة ويتجه سكان أحيائها التقليدية إلى مناطق أكثر انفتاحا من حيث المساحة، ويبنون بيوتهم حسب تصاميم حديثة، بينما تحولت هذه المناطق إلى مراكز تجارية وبيوتاتها القديمة إما تم تحويلها إلى فنادق أو مكاتب أو تهدمت وبنيت بدلا منها عمارات ومحلات تجارية».
وعائلة (الآلوسي) تنحدر من جدها أبو الثناء الآلوسي، العلامة المعروف، الذي ينحدر من بغداد وقد هاجر إلى أطراف الرمادي (الأنبار) هربا من فتك المغول واستقر في قرية أخذت اسمها منه (آلوس) وقد اشتهر أفرادها بجمع المخطوطات، مخطوطات العائلة خاصة، والتي تهتم بالفلك والرياضيات واللغة والفقه الإسلامي والتاريخ..
ليس هناك بغدادي، خاصة، وعراقي، عامة، ليست له ذكريات مع شارع الرشيد، إذ لا بد أن جلس في أحد مقاهيه العريقة، أو تسوق من محلاته، أو شرب عصير الزبيب المشهور في محل (شربت الحاج زبالة)، أو أكل (كعك السيد) مع شاي أبو الهيل في مقهى حسن عجمي المقابل لمحل أشهر وأقدم صانع للكعك، قبل أن يتجول في سوق الهرج بحثا عن شيء لا يمكن أن يجده سوى في هذا السوق، وهو يتجه إلى مقهى أم كلثوم لينضم إلى مجموعة المسترخين بصوت (كوكب الشرق).
لكن شارع الرشيد اليوم في حالة يرثى لها بل هو يمضي من سيئ إلى أكثر سوءا، ولم يعش الشارع طوال تاريخه مثلما الأوضاع المزرية اليوم، فتلال القمامة تنتشر في كل مكان، ومحلاته التي كانت تشتهر بعرض أنواع من الملابس الرجالية التي تحمل ماركات عالمية تحولت إلى ورش لتصليح السيارات، أما مكتباته، سواء كانت الموسيقية منها، أي التي تبيع التسجيلات الصوتية والموسيقية، أو التي تعرض عناوين مختلفة من الكتب فقد أغلقت أبوابها تماما. الأكثر مأساوية هو حال مقاهي شارع الرشيد التي كانت تتميز بروادها، خاصة مقهى الزهاوي وحسن عجمي والبرلمان والمقهى البرازيلية، فبعض هذه المقاهي أغلقت وتحولت إلى مطاعم ودكاكين، مثل البرازيلية والبرلمان، وإذا كان مقهى الزهاوي، والذي تحول إلى مقر لملتقى العاطلين عن العمل وكبار السن، لا يزال يقاوم الخراب، فإن مقهى حسن عجمي الذي يقع على بعد أمتار عن الزهاوي، قد أخذ طريقه نحو الخراب الحقيقي.
مقهى حسن عجمي الذي كانت تحتل واجهته العديد من السماورات النحاسية القديمة (جمع سماور، وهي كلمة فارسية تعني الإبريق الذي يغلي فيه الماء، وغالبا ما كانت بواسطة الفحم)، المصنوعة يدويا من قبل حرفيين اعتنوا كثيرا بتفاصيل نقشها وزخرفتها، إذ لم يعد وجود لمثل هؤلاء الحرفيين، هذه الأباريق المذهبة والفضية طالما استحوذت على إعجاب المارة أو رواد المقهى عندما كان (المقهى) يزدحم كل يوم بخيرة المبدعين العراقيين من كتاب قصة وشعراء ونقاد، أمثال الدكتور مالك المطلبي، والكتاب الراحلين، فؤاد التكرلي وموسى كريدي ومحمد شمسي، والشاعر سامي مهدي، وغالبية هؤلاء من جيل الستينات من مثقفي العراق، يختلط معهم، ويجلس إلى جانبهم أدباء من أجيال مختلفة، يدخلون في نقاشات وسجالات جل اهتمامها الإبداع، لا غير، من غير أن يكترثوا للفوارق العمرية أو ما يطلق عليه بصراع الأجيال الثقافية. لكن وضع هذا المقهى اليوم يخلق فعل الصدمة في ذاكرة كل من جلس فيه والتقى برواده من المثقفين، واستغرق في نقاشات معهم، المقهى من الداخل يبدو خاويا من كل شيء، حتى من الأصوات التي كانت تملأه ضجيجا، من القصائد والسجالات، وحتى من الضحكات.
صاحب المقهى، أحمد محمود، كان يلعب الطاولة مع صديق له خارج المقهى وقد فقد الآن كل مجده وسطوته وجلسته عند المدخل وهو يراقب حركة العمال وخدمتهم للزبائن، قال «لم نعد نطيق الجلوس في الداخل، البناية أصبحت خربة، وانقطاع الكهرباء المستمر والماء جعل من الصعب جدا البقاء في البناية المظلمة». صمت قليلا وهو يتأمل بناية المقهى من الخارج وكأنه يصدم للمرة الأولى لما يراه، فجعته حقيقة أن مقهى حسن عجمي، وهو الأشهر بين مقاهي بغداد والعراق على الإطلاق، كان خاليا تماما من رواده، حتى أن صورة الحزن تجسدت في وجهه. قال متأسيا «والله حرامات هذا المقهى يصل إلى هذه الحالة المزرية، فمنذ بنائه وحتى قبل سنوات قليلة لم يبلغ هذه الدرجة المأساوية». موضحا أن هذا المقهى «بناه حسن عجمي عام 1886، ثم رحل، وأنا أديره منذ عام 1968، وأردت أن أغير اسمه إلى مقهى الشاعر الحصيري (عبد الأمير) الذي كان من أشهر رواده، أما رواده القدماء فأشهرهم معروف الرصافي ومحمد مهدي الجواهري الذي طالما ردد قائلا وهو في الغربة «ليتني أعود إلى مقهى حسن عجمي».
يشير صاحب المقهى بإصبعه إلى ما وراء الزجاج، فيقول «هناك كان يجلس موسى كريدي، وقبله هناك كان يجلس عبد الستار الجواري (وزير تربية سابق)»، وهناك.. وهناك، حتى يصعد طوفان الحزن إلى عينيه، فيقول مستذكرا «لقد غيب الزمن والظروف الصعبة أجمل مقاهي بغداد، مثل مقهى: البلدية، والبرازيلية، والبرلمان، ومقهى حجي خليل الذي تحول إلى معمل لصناعة الحقائب، والكندي».
وعن سبب غياب رواد المقهى يوضح محمود، قائلا «مثلما تعرفون فإن غالبية الأدباء إما أن يكونوا قد هاجروا إلى خارج العراق أو رحلوا عن عالمنا، ومن تبقى هنا فيصعب عليه الوصول لأسباب أمنية أو اقتصادية، مع أن سعر استكان (قدح) الشاي 250 دينارا عراقيا وهي أصغر عملة الآن ولا تستطيع أن تشتري بها أي شيء»، منبها إلى أن «المقهى بحاجة إلى صيانة شاملة وتوفير الطاقة الكهربائية له، فقد وعدتنا الحكومة بصيانته لكن لا أحد يهتم بموروث العراق الثقافي ولا بذاكرة الناس».
وبسؤال عادل العرداوي، مسؤول العلاقات في أمانة بغداد عن سبب إهمال المباني التراثية في شارع الرشيد، واحدها مقهى حسن عجمي، قال «غالبية هذه الأبنية لا تعود ملكيتها إلى أمانة بغداد، بل إلى أشخاص أو إلى وزارات ومؤسسات أخرى، فمقهى حسن عجمي مثلا تملك بنايته وزارة الداخلية».
أما مقهى الزهاوي الذي يحمل اسم الشاعر والأديب جميل صدقي الزهاوي، فقد اشتهر باعتباره ملتقى لشعراء القصيدة العمودية خلال العقود الأولى من القرن الماضي. كما كان مسرحا للخلاف بينه وبين نده معروف الرصافي. وحسب أحمد محمود، صاحب مقهى حسن عجمي، المقهى الأكثر قربا لمقهى الزهاوي، فإن هذا المقهى (الزهاوي) افتتح في 1917. وقد قاوم عوامل الزمن كما خضع للتجديد لأكثر من مرة كونه من ممتلكات أمانة بغداد، وبذلك تمكن من الحفاظ على معالمه. وهذا المقهى، الذي بدا أكثر ترتيبا ونظافة من مقهى حسن عجمي، رواده من المتقاعدين الذين لم يجدوا لهم ملتقى سوى تحت سقف (الزهاوي)، وقد علقت بعض الصور الأرشيفية للشاعر الذي يحمل المقهى اسمه، بينما جلس على أريكة مصنوعة من الخشب ومفروش فوقها حصير (أو كراويت كما يسميها البغداديون).
كان في المقهى رجل خمسيني، وتشير عضلات ذراعيه إلى أنه كان رياضيا سابقا وقد تحلق حوله بعض الشباب الذين يحمل بعضهم رشاشات كلاشنيكوف أو مسدسات شخصية، وينادونه بلقب (الحجي) من غير أن يعلنوا عن اسمه فهو نصب نفسه كمسؤول عن قوة صحوة المنطقة. عرفنا ذلك عندما اعترضوا علينا ونحن نصور المقهى من الداخل وطالبونا بالحصول على موافقة (الحجي) الذي بدا مزهوا بالصلاحيات التي أسبغها على نفسه، لكن المطالبة بالحصول على موافقة (الحجي) تراجعت عندما أبرز أحد المرافقين لجولتنا هويته كونه كان يعمل في مكتب نائب رئيس الوزراء وقتذاك برهم صالح.
كان ثمة رجل تجاوز السبعين من عمره يرصد تحركنا داخل المقهى وهو يرتشف الشاي من استكان بغدادي، وبسؤاله اسمه أجاب من غير أن يبدي أي اهتمام «شتريدون (ماذا تريدون) باسمي، أنا أبو نجم، هل هذا يكفي». يأتي أبو نجم إلى هذا المقهى منذ الصباح الباكر ويتركه قبيل موعد الإغلاق الذي يعتمد وطبيعة الحالة الأمنية في شارع الرشيد، وقد أسرّ بقصة مفادها أن «شاعر الهند طاغور كان قد زار هذا المقهى عندما جاء إلى العراق والتقى الشاعر الزهاوي خلال ثلاثينات القرن الماضي»، مشيرا إلى أن عالم الاجتماع العراقي علي الوردي والشاعرين محمد مهدي الجواهري وبدر شاكر السياب كانوا من أبرز رواد المقهى.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  معد فياض


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni