... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
خارج العاصمة : فوات ما فات وما يأتي

محمد خضير

تاريخ النشر       08/01/2010 06:00 AM


  1 
فات الكثير مما ينبغي عليّ إتباعه، لجرد مدّخراتي السنوية، وإني لأشعر بقدر من الأسف على فراغ جرابي من لقط الطريق، وبقدرٍ مماثل من حسد الأدباء الذين تركوا بين أوراقهم مفكرات تتضمن قوائم حساب المطاعم والفنادق التي ارتادوها وأسعار الثياب والحاجات التي اشتروها،

وغير ذلك من سقط الحياة اليومية. فجأة يجد المرء أن فواتاته لا تُحصى في قائمة، وبخاصة تلك التي تشوقه وتسجل رقيّ معارفه، فضلاً عما يدّخره لكتابة أحد أعماله الأدبية. وعلى درجة من الأهمية، فقائمة الفواتات تتضمن جرداً بالقراءات الروائية، وتدوين خلاصة لحوادثها وشخصياتها وأماكنها ومفردات حوارها الغريبة، وغيرها من أطعمة وأشربة وأثاث، وما حول ذلك. كم يبلغ أسفي على ما فاتني من عبارات نادرة، وأخرى شائعة من مثل ((على حين غرة)) أو ((في طرفة عين)) أو ((ضربة لازب))، استعارات مثل ((بائعة لذة)) أو ((فرس رهان)) أو ((ناطح صخرة))، استعمالات نحوية، لغات ولهجات ومصطلحات، أهملتُ تدوينها حين قراءتها أو سماعها أول مرة. خلَتْ مفكراتي من هذه الفواتات، ولو أني بوبتها في دفاتر خاصة لحصدتُ منها الكثير، ولكانت متعة جمعها هائلة، كما أظن.  وإذ يزداد أسفي يوماً بعد يوم على نفسي، أشعر أن الوقت لم يفت تماماً لنصح من فطن إلى إملاء هذه المحاصيل على نفسه يومياً، أن يسير بعمله حتى نهايته. أما من فاتهم الأوان من الغافلين أمثالي للبدء بذلك، فلهم العزاء بما يرزمون من فتات أيامهم في رزمة واحدة في نهاية كل عام، يؤرخونها ويرسلونها بعد فوات أوانها، عسى أن ينفع ما فات ومضى باستدراك طعم الأوقات الفائتة وسريانه في مستقبل نصوصهم.
    تتحرك الأشياء الضعيفة، الآثار الذابلة والميتة، الأفكار الراكدة والمخذولة، بدفع غامض إلى الأركان والزوايا، إلى هامش صغير بجانب مساحة احتلتها الأشياء الكبيرة والأفكار النشطة، الصور والذكريات المؤطرة، تتحرك وتتكوم في الركن المتبقي من نهاية كل عام. هذه الأفكار المتبقية من حصاد السنين هي فواتات الحقل الذي جاءت علية رياح الخريف، زفرات التقويم المندفع إلى نهايته، روائح العمر الذي سيأتي عليه المطر. لا حيلة لي في أن ألتقط  بعض هذه (الفواتات) من مساحاتها الصغيرة في بطون مفكرات الأعوام الماضية وأطرافها، وأقدمها في رزم مضمومة تحت نور المسرح الذي تتفاعل عليه أدوار هذه الأيام المتصارعة، تخلصاً من ضغطها وإلحاحها المشبع بالأسى والتشنج.
  2
   أبدأ بعرض ميلي الطبيعي والعقلي لاحتواء الأشياء في نظري وحروف نصوصي، وتطويع غريزتي البهيمية لغريزة التأليف الخيالية، أي غريزة الكتاب الأساسية.  فالكتّاب مفطورون على تأليف الكتب، عملهم الأساسي صناعة الكتب. تولد غريزة الكِتاب في أحشائهم مع ولادتهم، وتنمو مع نشوئهم الغريزي، يمتثلون لدافعيتها التي تنبجس مثل قوة لا تفسير لها من الأعماق، يبجلّونها ويرفعونها إلى أسمى الرتب، لا يردّون لها نداء ولا يكبحون سطوتها على النفس الجامعة غرائز الجسد. بل أن غريزة الكتاب تسطو على النفوس التي تخلو منها فتدخلها وتسيطر عليها، فتفرض عليها قوتها الغريزية. غريزة أولية تتلذذ إذ تحطم، تخترق، تعذّب، تستولي، تحرِّر ما عداها من غرائز الحياة. غريزة الكتاب فطرة أولى، جامعة لملذات الطبيعة، تستعبد ذاتها إن لم تحرِّر غيرها. الكتاب الذي يستجيب لغريزته الأولى، يولد حرّاً استثناء من مؤلفه الذي ينتمي للجموع التي تنصِّب الأصنامَ على غرائزها. المؤلف المدحور إزاء حرية كتابه، ينضوي إلى الجموع التي تقدم شعائر الاحترام للكتاب، تريده أن يغدو صنماً يضاف إلى أصنام الأرض. يضاف الكتاب إلى خزائن الأرض، ويغادر ذاكرته الطبيعية، ليدخل ذاكرات إلكترونية، أُعدت لترويض غريزته الهوجاء. إنه الحجْر نفسه الذي ميز عصور إعدام الكتاب، باعتباره مصدراً للشرّ، أو تقديسه باعتباره نصاً فوقياً، تستنسخ الكتب الأرضية كلها من أصله المحفوظ. لكن الكتاب يسير في الأرض جرّاً من قيوده.
   3
    ليتني استطعتُ تسجيل بيانات ذلك النمو البطيء، أو الاندفاع الأهوج لغريزتي الكتابية ثم الطباعية (بأوسع منتجاتها النفسية والجسدية). دعني أبدأ من نقطة هادئة مشتركة: يتعاظم شعور رفض الظلم الاجتماعي ببطء ورسوخ في وعي الشباب بعد انتقالهم من الوسط التربوي العائلي إلى الوسط المدرسي الأخوي، فتنشأ حول قاعات الدرس روابط طلابية تعيش تجربة الرفض المتوجسة لسلطة النظام الاجتماعي الصارمة في صورة منشور مجهول المصدر منسوخ على صفحة دفتر مدرسي. كان منشوري الأول قصيدة السياب (حسناء الكوخ) تناقلته الأيدي خلال دورة الصباح السرية. أوصلَتْ تجربة المنشور الأول الطالب الثانوي المندفع إلى حلقةٍ من أخويات مكسيم غوركي أودعَتْ عنده منشوراً ثانياً بعنوان (أنشودة الصقر). وما عتمت بذور المنشـورين أن أُخصِبتْ بقراءات كتب (الأم) و(أسـرة رومانوف) و(ستة وعشرون رجلاً وفتاة واحدة). شقّت الروايات قشرة الفترة الملكية حيث شقّت القشرة القيصرية في الموضع نفسه. داست الجزمات قشرة الجليد القاسي فتصاعد منها هواء تموزي ساخن، وانبثق (النص) الأول لطالب الثانوية من تحت أقدام التموزيين الذين كان يجري معهم. كان عنوان ذلك النص منتزعاً من عنوان (والفولاذ سقيناه) لأوستروفسكي. نشأ النص الأول في ظل جدار شاهق من الأجساد الفوارة المتراصّة، فلم يبصر الفضاء المترامي وراء الجدار. لم يكن ذلك سهلاً على الشاب الذي تربّى على منشورات الطبيعة المجهولة وغرائز الكتب الثورية لغوركي. صارت نصوصه التالية توّاقة للمساحات المفتوحة وراء الجدار، وأرسلت من هناك مضامينها إلى أهل الجدار الذين كانوا يتمسكون بلغة الأخويات المنغلقة على ذكريات نضالها العنيد. كانت النصوص تمرح في جنتها الريفية، وعندما تقوّض الجدار وطمر أعضاء الأخوية القدماء، ورث أخو الرجال المنقرضين أفضل رموز النشأة المدرسية وأحمى غرائز منشوراتها السرية.
   4
     غزوات البرابرة المتوالية على حصون الأخوية المغتربة على أرضها، زلزلت دفاعها عن مواقعها الأولى، لكنها لم تطح تماماً بنبالة أفرادها المحمية بتقاليد النشأة الغريزية : تمرد مشوب بالغضب على الجانب المكشوف من وجه النص المستباح، وهدوء  على الجانب المغمور من جسد النصوص في نبع الحرمان الشهوي. ماركس الذي دفع الجيل المتحمس إلى كومونات الثورة الطبقية، أعاده سارتر إلى حصن الالتزام الفردي المطوّق بالأخويات الأممية، وأنقذه التصوّف من طفولة العمل اليساري. جسدٌ شفاف ببوحه الغرائزي، مرفوع على أيدي الثورة، يتوق إلى الانفجار تحت الشمس القارية، وتعبير مجازيّ أسود يشدّه إلى القاع الذي تمور فيه ديدان الرغبة المحبطة. سدودٌ تقوم وأخرى تنهار في لحظات، ماركس يترنح أمام سارتر، والمتصوفة يتداركون الموقف بهدوئهم النبيل. صمود سارتر رافقنا حتى الوقت الذي همدت فيه جذوة التاريخ. فجأة استولت العولمة الليبرالية على بيانات ماركس لإنقاذ الرأسمالية المتوحشة، وصاحب الإيقاعُ الوجودي الترنيمةَ الأخيرة لافتداء التجربة الماركسـية المغدورة بضربات يائسـة، وحدها الأخوية الارستقراطية واجهت قدرها أمام نفايات الغزو الأخير. الأركان الثلاثة حملت موقد التاريخ الخامد، والعبارة تهاوت من الوحدة والعار. سارتر يتراءى أبداً في مقدمة جنازة ماركس، والتصوّف يصفق الباب وراءه: كيف تحيا العبارات من دون ذلك الحشد التاريخي، ومن أين نقترض لأخويتنا؟ أنرفع عباراتنا بذلك القلق الغريزي الذي دفعنا نحو المساحات الخضر وراء الجدار؟ أين الجذور؟
  5
   غدت مهمةُ الأدب بعد فاصلة 2003 تفليص فجوة الانهيار وامتصاص صدمة التغيير والتكيف مع شعور الخوف من الحرية. انهارت المصادر الميثولوجية والأصول الشعبية لسلطة الحكم في الوجدان الجمعي المتراكم منذ الحرب العالمية الثانية، وبدت للعيان نصوص المهاجر والمخيمات والمعتقلات وأنطولوجيات الجماعات الإثنية. أصواتٌ تائهة تنادي للاجتماع واللقاء على حافة منطقة الانهيار. جزر التيار، سموات الهجرة، تحن للقاء في منطقة محايدة. تحققت المعجزة، والتقى الأدباء العراقيون الموزعون على جوانب الحدود في الكويت في مايس عام 2005 برعاية من مؤسسة البابطين الشعرية، تلاه اجتماع آخر في مايس 2007 في أربيل بدعوة من مؤسسة المدى. جمعت (صدمةُ الانهيار) أعضاءَ الأخوية المتفرقين في متلازمة الأدب العراقي المقطوعة الجذور، كان الاسم الآخر لهذه الأخوية: متلازمة الجبر والاختيار. وصارت لتربية الغريزة وهجومها (الكتابي) جهات أكثر خطورة وإلحاحاً. سالت من ينابيع التنشئة الأولى مياه فوارة. الزمن يعكس وجهته.
   6  
     تطلبت الصدمة تجوالاً من نوع آخر في أقاليم الغريزة الكتابية. هياماً في منطقة الانهيار حول منطقة الجذور المحظورة. الكتابة المجزأة إلى حظائر وغيتوات. بين حظر وحظر تجوال يهيم بخطواتنا، بعد خروجها من أوكارها، وأخطر هذه الأوكار وكر الأخوية القديم. أنتج حظرُ الكتابة سابقا ًدفاترَ تجوالٍ من نوع عظيم: دفاتر هرمان هسه وماركيز وصنع الله إبراهيم ومحمد شكري. بينما عانى النوع العراقي خوفاً من الاقتراب من متاريس الحظر اليومية، قصوراً في حرث المتلازمات الأخوية بحثاُ عن الجذور، تردداً في مقاربة خطاب الصدمة المفصوم بانهياراته التاريخية.
    أين يبدأ اليوم العراقي الآن، وأين ينتهي؟ جمعُ الحال والظرف بعلامة سؤال واحدة محاولة لتبسيط الوضع الشائك لمواطنٍ غير مسمّى، محشور في الفسحة المديدة لانتشار كتلة متشابهة من المواطنين، يبدأ يومه في وقت مبكر من الصباح وينتهي مع ساعات الليل الأولى. وخلال هذا الوقت القصير بساعاته، الطويل بحوادثه، يتعرض المواطن المجهول إلى أخطار لا حصر لها، ينجو منها بمصادفة أو بأخرى، أو يسقط ضحية باردة في مصيدة، فيتمّ حذفه من جدول الأيام، ليحلّ في مكانه مواطن يشبهه لا نعلم متى يأتي دوره في الحذف والنسيان، وكيف يبدأ يومه وأين ينتهي.
    متابعة هذه الضحية الدورية تتطلب تجوال أيامٍ عديدة، بل شهور مديدة، في مدن عراقية كثيرة، لاستخلاص يومٍ واحد في حياة مواطن نعرّفه برمز جامع لرموز شتى في إعصار فترة الانهيار، بما فيها الرمز الخاص بمؤرخ هذا اليوم الجوّال، الذي سيرتدي لإنجاز مهمته هويات أشخاص متنكرين في أزياء ممرّض مستشفى، بائع متجول، ساعي بريد، سائق أجرة، طبيب شعبي، مشعوذ، نصّاب،جزّار، إسكافي.. وسيتعرض مثلهم جميعاً إلى احتمالات الحذف بمصادفة تعيسة ما لم يدوّن وقائع تجواله اليومي في الأجل المعلوم، قبل حلول الأجل غير المعلوم لمؤرخ غيره ينجز العمل بدلاً منه، وقد لا ينجزه.
   7   
    أعود إلى غريزتي، من حيث ابتدأت، ملخِّصاً فواتَ أيامي، وتكتيك عملي الكتابي، بهذين الفصلين: فصل الرغبة وفصل العمل (الكاووس والناموس).
     الفصل الأول: تفتُّح الرغبة، غرائز الكتابة تتحرك تحت سطح الأصابع والأوراق، مع تبدل الطبيعة، يقظة الروح، أشكال الحرية الجسدية. حروف تتجمع مثل غيوم في سماء خريفية. مطر، بهجة، انحراف، الرغبة في تصوير كل شيء واحتوائه إلى الأبد. نصوص تنبت مثل الفطر تحت جلد الرغبة المندفعة إلى الأعلى، إلى الهواء. وهذا هو فصل (الكاووس).
   الفصل الثاني: جمع الثمار الناضجة، العمل مع بستانيي العالم. تأليف وصايا العمر. إدراك السرّ، الذي يتبعه فتور الرغبة فانسحاب الحواس فانطواء العالم فتوقف العمل. وهذا هو فصل (الناموس).


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد خضير


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni