... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  قصة قصيرة

   
تغريبة ابن زريق البغدادي الاخيرة

سلام عبود

تاريخ النشر       12/07/2010 06:00 AM


 مستل عن رواية تغريبة ابن زريق البغدادي الاخيرة التي صدرت مؤخرا عن دار الحصاد بدمشق                                
                                 قرطبة
 
                                 - 1 -

"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"
لغط تناهى إلى مسامعي. فتحتُ عينيّ وأنا أصحو مرتبكاً، مُستفزاً. الفجر لم يطلع بعد. هل وقعت الواقعة؟
الإحساس المسبق، المعتـّق، الذي يسيطر على مشاعري  طغى على غيره من الأحاسيس. كثرة انشغالي، وهو انشغال القرطبيين كافة، بما ستجلبه الساعات المقبلة من أحداث ملك تفكيري حينما تناهت إلى أذنيّ أصوات تتحدث في أروقة الخان.
نهضتُ على عجل وخرجتُ، فوجدتُ بعض نزلاء الخان  يتهامسون  وعلى وجوههم أمارات الحزن.
"إنّا لله وإنّا إليه راجعون !"
تكرّرت العبارة غير مرّة.
اقتربتُ من النزلاء وفكّرت وأنا أطمئن نفسي: " ما يحدث الآن شأن صغير، لا يتعلق بالوضع العام  في قرطبة"؛ وقبل أن أقوم بالسؤال، نطق أحدهم موجها كلامه إليّ:
ــ   لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، مات العراقيّ.
ــ   العراقيّ !
ــ   نعم، وجدوه ميتاً في فراشه.
انقبضت نفسي، ليس حبّا به، فأنا لا أحبّ طريقته الملحاحة والاستفزازيّة في التعامل مع الزبائن، لكنّني أحسست بقوّة الموت الكاسرة، التي تستطيع أن تختطف رجلاً نشيطاً، موفور الصحة كعمران العراقيّ، مساعد صاحبة الخان.
قلت مستفسرا:
ــ   كيف حدث هذا؟
ــ   لا أحد يعرف؛ شيء غامض ومحيّر أن يموت رجل مثله. لكنّ عمران العراقيّ تفقـّده لسبب ما، نجهله، فوجده ميّتاً.
اختلطت الأمور عليّ اختلاطا تاماً.
ــ   عن أيّ عراقيّ تتحدثون؟
ــ   النزيل القادم من أرض السواد، الذي يسمّونه ابن زريق البغداديّ.
ماجت الأرض بي. دوار مفاجئ لفّ بي الأرض لفّاً. وبالكاد تمكنت من تثبيت قدميّ بالأرض المرتجّة تحتي.
ابن زريق !
اندفعتُ من دون وعي إلى الممر الذي يأوي فيه. وجدت باب الغرفة مفتوحاً وجمعاً من الناس يتحلّقون حول سريره. رأيت عمران العراقيّ يتحدث إليهم، وحينما أبصر قدومي قام، ثمّ رفع طرف الشرشف الذي  يغطي السرير، كما لو أنّه يدعوني للاستمتاع بالمشاهدة. رأيت عن بعد وجه ابن زريق متذمّرا، هازئا كعادته، بلحيته الخفيفة المهذبة وتقاطيع وجهه الصارمة، لكنّه رغم ذلك ظلّ يحتفظ بملامح الكبرياء والجمال والتفرد المميزة فيه، التي تكسب سنوات عمره الثلاثين مزيداً من الغموض والمشاكَسة المستفِزّة.
لم أقل شيئاً. احتبست الآهات والكلمات في صدري، ولم أعد أعرف ماذا أفعل أو أقول. فأنا لا أكاد أعرفه. لم أقابله سوى مرّات قليلة في أروقة الخان، ولم أتحدث معه سوى مرّة واحدة، تحاورنا فيها على عجل، ولم أتمكن من معرفة إذا كان راغباً عن الحديث معي شخصيّاً، أم أنّه كان متحفـّظاً لسبب ما، أو أنّ ذلك طبع فيه. تحدّثنا باقتضاب، لكنّ حديثنا القصير ترك أثراً عميقاً، بعيد الغور في نفسي، وربّما خلّف أثراً لا يمحى، حتـّى أنّني فكّرت في أن أعود إلى الحديث معه، في وقت آخر، أكثر ملاءمة. وها هو ينام ميتاً في سريره.
الإحساس بالغربة هو أعظم ما هاجمني في هذه اللحظة.  أن يقطع المرء كلّ تلك المسافات والبحار ليقضي هنا، بعيدا، غريباً، وحيداً.
"إنّا لله وإنّا إليه راجعون !"
ظلّت هذه العبارة تتردّد في الأروقة، فلا يملك أحد منّا سوى هذه العبارة يواجه بها مصيراً غريبا كهذا.
 
* * *

الحيرةُ والوجومُ والحزنُ سادت المكان وشلّت حركة الجميع وأسرت مشاعرهم، حتـّى مجيء الخانيّة ألفيرة.
بحضور ألفيرة، المفجوعة إلى حدّ لا يقبل الإخفاء، تغيّر وقع الحركة في الخان، ودبّت حركة سريعة  ومحمومة شملت الجميع.
ــ   الموت هو العادة الشائعة الوحيدة، التي لا يمكن للمرء أن يعتاد عليها ويألفها.
نطقت ألفيرة بعيون باكية وهي تحييني، ثم أضافت وهي تسير بهمّة:
ــ   لا بدّ من ترتيب لوازم الدفن في الحال.
مضت ألفيرة  وهي تلقى أوامرها على خدم الخان، من دون أن تحاول إخفاء شدّة حزنها.
من المحتمل أنّها تحبّه ! فكّرت وأنا أراها تختفي في غرفة الميت، وتبعد الخدم من الغرفة، وتبقى وحيدة مع ابن زريق. ربّما كانت لديها آمال فيه. كم استقبلت وكم ودّعَت !
ألفيرة أندلسيّة، تقترب من الخمسين، فيها قدر كبير من بقايا جمال لافت، تدير برقّة وأناقة ونظام صارم خانها الأكثر شهرة في قرطبة كلّها. طباعها الفريدة الآسرة، وشقرتها المميزة، التي قلّما يجد المرء نظيراً لها في هذه الأنحاء، تكسب شخصيتها خصوصية استثنائية، وتمنحها سلطة حقيقيّة على كل من يقترب من محميتها الخاصة. تربطني بها علاقات متعددة. فهي تنتسب إلى العائلة ذاتها التي انحدرت منها أمّ جدّتي في نواحي مجريط، لكنّها ترتبط بالفرع الذي ظل يعتنق النصرانيّة ولم يُسلم.  تربطني بأخيها راميرو تجارة، فهو القيّم على شؤون الحسابات وتصريف الغلّة في مزرعتي وأراضي زوجتي. اعتادت ألفيرة  أن تعاملني بحبّ كأخت كبرى، وفي بعض الأحيان أحسّ أنّها ربّما كانت تهفو إلى ما هو أبعد من الأخوّة، لكنّ شخصيتها القويّة تمنعها من إظهار رغباتها وتكبح نزواتها. هي مصدر ثقة واطمئنان نفسي لعائلتي كلّها ولي بشكل خاص. أما الخان فيعود إلى عائلتها، التي تثق بها ثقة كبيرة، لحكمتها واستقامتها، ولكونها على صلات واسعة بعليّة القوم من آل جهور وبقايا الأمويين وبني عامر وكبار البربر وحتـّى الصقالبة. صلاتها القائمة على التوازن عميقة جدا، يحسب لها كثيرون ألف حساب. معارفها خليط متصارع، متعدد المشارب. تشبه ألفيرة حلقة جامعة توصل أكثر من خيط مقطوع ببعضه. لم تشارك قطّ في رأي سياسيّ محدّد، لكنّها على دراية تفصيليّة تامّة بواقع الأندلس وممالكها، قرطبة على وجه التحديد، كما لو أنـّها تملك خرائط المدينة السريّة كلّها.
أنا أحضر إلى خانها من حين إلى آخر، لسبب أو من دون سبب، وأحظى منها بأفضل غرفة مخصّصة لكبار التجار والمسافرين. فأنا ضيف خاص جدّاً. ربّما يغريني هذا التكريم، الذي تخصّني به ألفيرة أكثر من أيّ شيء آخر، لذلك أجد نفسي دائماً أعرّج عليها وأتصنع حججاً للمبيت عندها، كلّما أحسست بضيق وكدر أو ملال.
في دقائق تمّ كلّ شيء على أحسن وجه، ومن دون عوائق. نُقل ابن زريق للغسل ثم للتكفين، وسار جمع من الناس وراءه  في اتجاه مقبرة الربض.
كان عمران هو القائم بأعمال الدفن.  تصرّف بشهامة عالية، وبدا الحزن عظيماً على محيّاه، ولم تثلم شهامته سوى الحماسة التي أبداها في جمع بعض المساعدة الماليّة على روح الميت من الحاضرين، الغرباء، لسداد لوازم الدفن، كما قال. لم يطلب منّي شيئا. تقدمت منه ووضعت مبلغا في يده فسحبها بخفـّة، مستنكراً، لكنّه أحسّ بإصراري فتقبلها، وهو يقول:
ــ   كرمك سابق، يا أبا سليمان.
بعد الدفن تفرق الناس جميعهم ولم يبق في المقبرة سواي وعمران وبعض خدم الخان.
ألقيت نظرة أخيرة على القبر: كومة من التراب النديّ، يرقد تحتها إنسان عبر البحار والقفار، ثم جاء ليُلحد في حفرة ضيّقة، في أرض غريبة.
ــ   نحن أهل ما دام هو عراقيّ مثلي، نحن أهل والله.
ألقى عمران كلماته وهو ينظر إلى الأرض، كما لو أنّه كان يبعثر كلماته في تراب الشارع أو يخلطها بغبار الطريق.
ــ   ولكنّي لا أرى أحداً من العراقيين سواك. ألا يوجد لديه معارف أو أصدقاء؟ ألا يوجد عراقيون هنا في هذه الناحية؟
ــ   كـُثـُر.
ــ   ولكنّي لا أرى أحداً.
ــ   أما يكفي وجودي !
لم أجب. أحسّ عمران أنّ كلماته الأخيرة تحتاج إلى توضيح، فأضاف:
ــ    وربّ الكعبة، زوجتي مريضة منذ يوم أمس، لكنّني رغم ذلك ظللت ساهراً عند جثة ابن زريق أحنو عليها كما لو كان حيّاً.
سكت، ثمّ عاد يقول:
ــ   أتعرف ماذا يسمّون هذا؟
لم ينتظر جوابا منّي، نظر إليّ بثقة تامّة وقال:
ــ   هذه هي الطيبة العراقيّة، الطيبة العراقيّة الأصيلة والنادرة، الطيبة العراقيّة في أنصع صورها.
ــ   ليس غريبا على أهل السواد ذلك.
أجبت وأنا أحسّ بشيء من التعاطف معه. فرغم عيوبه الشخصيّة العديدة، إلاّ أنّه لم يزل يحتفظ بما هو مشترك مع الآخرين من بني جلدته. ألم يقل ذو القروح: "وكلّ غريب للغريب نسيب ." هل المعاشرة أم المكان والمجاورة هي التي تخلق الروابط بين البشر؟
ــ   نحن رغم اختلاف عقائدنا ومذاهبنا وأماكن ولادتنا، إلاّ أننا ــ  أبناء السواد جميعا ًــ  تربطنا عرى لا تنفصم.
ــ   ولكنّك لم تجبني عن سؤالي: لماذا لا أرى عراقيّا غيرك هنا؟
ــ   لا أعرف ! ربّما... حقيقة لا أعرف.
ــ   لكنّك تقول لي بأنّك تعرف القاصي والداني، كيف لا تعرف سبب هذا الجحود؟
ــ   أنت تسمّيه جحوداً، ربّما لا يسمّيه الآخرون كذلك.
ــ   وماذا يسمّونه؟ رجل في ريعان الشباب، يموت في أرض نائية غريبة ولا يمشي في جنازته أحد من أهل بلده. هذا أمر يحيّرني.
ــ   نعم، يحيّرك، ولكنّه لا يحيّر الآخرين.
ــ   وأنت؟
ــ   أنا هنا معك.
ــ   أعني، ما تفسيرك؟
ــ   لكلّ إنسان أسبابه.
ــ   وما أسبابهم؟
ــ   ربّما مجرد أسباب شخصيّة: أمزجة وأهواء. فبعضهم رأى فيه متكسباً؛ وربّما وجد فيه آخرون شيئاً من الكبر الزائف والتفاخر الكاذب. كما أنّه متجهم، عابس، متطيّر، صعب المعشر.
ــ   ولكن، هذه الأمور لا صلة لها بالموت.
ــ   لكلّ واحد من الناس رأيه.
 ــ   حسن، قل لي: ما رأيك أنت؟
ــ   أراك مهتمّاً جداً به.
ــ   ليس به، فأنا لا أعرفه، لم ألتق به لقاءاً مباشراً سوى مرّة  واحدة، قبل يومين. لكنّني مستثار ومنفعل. ما الذي جعلني وجعل هؤلاء الأغراب نسير خلف نعش رجل لا نعرفه؟
ــ   أنت تحمّل الأمور أكثر ما تحتمل. لو تعرف كم قدمت له من مساعدة، لكنّه رغم ذلك لم يكن ودوداً، ولم يكن سوى متكبر. بيني وبينك كان أقرب ــ   أستغفر الله ــ   إلى أن يكون شحّاذاً، رغم عنجهيته وكبره.
ــ   ألهذا السبب لم يأت أحد؟
ــ   ربّما، وربّما لأنّه... أقول هذا بصراحة مطلقة، ربّما هو رافضي.
صعقني ردّه. سكتّ واحتبست الكلمات في حلقي. أحسّ عمران أنّه ربّما تسرّع في استسهال الإدانة، فأضاف محاولاً إقناعي:
 ــ   لماذا يخفي أصله الكوفيّ ! لماذا يصرّ على تسمية نفسه بالبغداديّ. بغداد شيء والكوفة شيء آخر !
ــ   وماذا في هذا؟
ــ   أنا مثلك أتساءل هذا السؤال ! لو أنّه لا يريد أن يخفي شيئاً لماذا يخفي أصله الكوفيّ إذاً ! يتحدث مثل أهل بغداد، ولكنّ أصله يفضحه، فنبرته وكلماته الكوفيّة لا تُخفى على أحد.
ــ   يا عمران أنت تفترض افتراضات ظالمة. لماذا تعتقد أنّه يخفي لهجته وأصله؟ أنا لم ألمس هذا فيه.
ــ   هذا أمر طبيعيّ، فأنت لا تستطيع التفريق بين لهجات أهل السواد. لكنّ غيرك يستطيع.
ــ   لكنّه لا يخفي أصله الكوفيّ، فقد ذكر هذا أمامي.
ــ   ربّما هو يثق بك أكثر منّي، وهذا أيضاً يثير العجب. كيف يفعل هذا وهو لا يعرفك، بينما يخفي ذلك عنّي وأنا من استقبله وساعده ووقف إلى جانبه؟ لماذا؟
ــ   يا عمران لقد قال بنفسه أمامي إنّه عليّ أبو الحسين، فكيف يخفي مثل هذا الاسم تشيّعه؟
ــ   وقال لي إنّه أبو الحسن، وقال لآخرين إنّه أبو عبد الله؟ فأيّهم هو؟
ــ   أنا لا أعرف شيئاً عنه. لقد أخبرتك بأنّني لم ألتق به سوى بضع دقائق. أنت تذهب بعيداً في تفسيراتك، أنا لا أفهم إلى أي شيء تلمّح، وماذا تقصد !
ــ   يا أبا سليمان لماذا نختصم على أمر مات وشبع موتاً ! أنت سألتني وأنا أجبت عن أسئلتك لا أكثر ولا أقل.
شبع موتاً ! نظرتُ إلى الخلف. لم يزل تراب القبر نديّاً، يتميز عن  تراب القبور القريبة بلونه الحيّ، الداكن.
لمحت ابن زريق غير مرّة في أروقة الخان خلال المرّات الماضية، التي أقمت فيها هنا؛ لكنّني لم أتحدث معه، حتّى مساءاً قبل الأمس.
كان لقائي به غامضاً، مرتبكاً، كما لو أنّه مرتب من قبل قدر أرعن. كنت عائداً من خارج قرطبة. وضعت فرسي في الإسطبل وأنا أشعر بالضيق لأنّ الفرس كان مضطرباً. كنت مضطرباًً ومنقبض النفس مثله. طلبت من السائس أن يهدئه فوعدني خيراً. توجهت من فوري إلى ألفيرة، حيث اعتادت أن تجلس في صدر الخان.
ــ   أنا سعيد برؤيتك مجدّداً يا ألفيرة.
قبل أن تردّ على تحيتي وقفت وصافحتني مبتسمة وقالت:
ــ   ذهبتَ إليه !
ــ   كيف عرفتِ؟
ــ   لأنّك جئتَ راكباً فرسك الأصهب.
ــ   أنتِ لا تفوتكِ فائتة يا ألفيرة !
ــ   أنتَ لم تعتد المجيء إليّ على ظهر الأصهب.
ــ   لأنّ الأصهب لا يحبّ زحمة الأسواق وضجيج المدينة.
ــ   ورّبما لأنّه يحبّ المسافات البعيدة.
ــ   هذا صحيح.
ــ   وهل أرغمته على المجيء عندي لكي تخفي شيئاً.
ــ   لا يا ألفيرة، أسأت الظنّ بي. على العكس، لم أشأ الذهاب إلى البيت وإبدال الفرس. حملته قسراً على التوجه إلى هنا.
ــ   الأمر عسير إذاً !
أحسست أنّني لن أفلت من قبضتها مهما حاولت. ألفيرة  خبيرة في نفوس البشر وفي سلوكهم، تقرأ تصرفاتهم من خلال ملابسهم ومن خلال لوازمهم ونبرات صوتهم.
ــ   أنتِ خطيرة يا ألفيرة. ما تقولينه صحيح. أنا استخدم الأصهب كلّما ذهبت إليه؛ لكنّني هذه المرّة قررت أن أتوقف عندك، لأنّني كما قلت لك، لا أستطيع الذهاب إلى البيت منقبض النفس. أنت تعرفين أم سليمان، أنا أفضّل أن لا أكدّر مشاعرها بمشاكلي الخاصة، وأنا أعرف أنّها لا تستطيع أن تفهم دوافعي وأسبابي جيّداً.
ــ   لا تبرّر سبب مجيئك يا أبا سليمان، يكفيني أنّك هنا، قربي. فمرحباً بك !
ــ   أنا لا أبرر يا ألفيرة، لكنّك ظننت أنّني أخفي عنك شيئاً، وأنت تعرفين كلّ شيء، كلّ شيء.
ــ   كان يائساً، أليس كذلك !
ــ   إلى أبعد الحدود. ولكن، لم يكن ذلك ما يقلقه.
ــ   وما الذي يقلقه؟
ــ   هو مهموم لكثرة الواعدين.
ــ   هذا أمر طبيعيّ، الدولة تغدو مثل مزاد علنيّ إبان محنة ضعفها.
ــ   يقول إنّ بعضهم عرض عليه العودة إلى الوزارة، ومنهم من عرض عليه القضاء، ومنهم من عرض عليه ما هو أهم وأكبر من هذا.
ــ   وهذا ما يخيفني.
ــ   كثرة الوعود وضخامتها؟
ــ   كثرة الواعدين تخفي وراءها كثرة الخصومات؛ وضخامة الوعود تعني البحث عن السلطة بأيّ ثمن.
ــ   الوعود الكثيرة تحمل في ثناياها احتمالات كثيرة.
ــ   تحمل أخطاراً كثيرةً. لأنّ الوعد هو وجه الواعد الحسن؛ لكنّ فشل واعد ما يرجح نجاح واعد آخر. ولا يعرف المرء  أيّ وجه سيُظهر من ينجح ومن يفشل !
ــ   صدقتِ، كثرة الوعود تزيد المهالك.
ــ   أيتوقع شيئاً حسنا؟
ــ   يتوقع أسوأ العواقب، ويخشى فتنة كبرى تطيح أساس دولة الخلافة !
ــ   انقلاب الأحوال المفاجئ في هذه المدينة يخيفيني أيضا.
ــ   لهذا نصحني أن أحتاط.
ــ   ولهذا جئت اليّ؟ !
ــ   بصدق ! نعم. فأنا أريد أن أستشيرك في أمر.
ــ   خطير؟
ــ   لا أعرف، ولكنّه حمل ثقيل.
ــ   أنا مصغية.
ــ   سأخبرك به لاحقا.
شيء ما فيّ جعلني أتردد في نطق الكلمة التي أعددت نفسي طويلاً لقولها، والتي جئت إلى هنا لكي أقولها لألفيرة على وجه التحديد. شيء ما قاهر أعاقني؛ لو أنّ الفكرة خرجت من رأسي، لو أنّها خرجت من فمي فلن تعود إلى موضعها البتـّة. استجمعت شجاعتي وقلت: ربما سأذهب إلى المغرب.
ــ   أتهرب من التهلكة بالذهاب إليها .
ــ   نعم، هذا ما أفكّر فيه. هناك أكون أمام خصم واحد. لكنّني هنا أمام خصوم لا عدد لهم، ولا أعرف احتمالات أفعالهم.
ــ   وتريدني أن أقنع أمّ سليمان بهذا؟
ــ   تقريبا.
ــ   هل عجزت؟
ــ   لا، لكنّني أخشى أن تسيء فهمي، أو أن أجرحها حينما أواجهها بهذا الأمر.
ــ   ألن يجرحها ما سأقوله لها. أنا أفضّل لو أنّك فعلت هذا بنفسك.
ــ   من دون شك سأفعل، ولكن قبل هذا أريد منك أن تمهّدي للأمر. تحدّثي عن اضطراب أحوال قرطبة والأندلس وضرورة الابتعاد عنها حتـّى تنقشع السحابة السوداء وتتضح الأمور. تحدّثي عن سفر للترويح عن النفس وللبحث عن مراجع علميّة وأدبيّة، لا أكثر.
ــ   سأفعل، سأتكفل بإقناعها؛ ولكن من يقنعني أنا؟
ــ   أنت لا تحتاجين إلى إقناع يا ألفيرة، لأنّك تعيشين في روحي، ترعينها مثل أخت كبرى.
ــ   أخت كبرى !
ــ   لأنّك كذلك عندي يا ألفيرة، أم أنّك تشكّين في هذا !
ــ   أنا لا أشكّ، ولكنّي أطمع، وربّما أغار أيضا.
ــ   مم تغار الأخت؟
ــ   بعض الأخوات يغرن أكثر من الزوجات.
ــ   لديّ ما يكفيني من الغيرة يا ألفيرة. أمّ سليمان مخزن عامر بالغيرة،ألا يكفي هذا؟
ــ   ولكنّ غيرتي مختلفة.
مثل هذا الحوار العابث كان يحدث بيننا دائماً. لكنّه حوار صادق وصاف إلى حدّ العذريّة. كانت تجيب بنقاء تام، وربّما برغبات خفيّة، مبهمة. لكنّها لم تكن تبخل في عواطفها نحوي، كانت تشملني بكل أنواع العواطف، عواطف الأم والأخت والصديقة، وربّما أيضاً عواطف المُحبّة الغيور، ولكن اليائسة.
نطقت الكلمات وهي تقوم مسرعة، وتتجه نحو الرواق المقابل. رأيت الرجل القادم من أرض السواد، المسمّى ابن زريق يدخل من باب الخان. لمحت ألفيرة مقدمَه فقامت على عجل وأوقفته، وراحت تتبادل معه بعض الكلمات، كما لو أنّها كانت تواسيه أو تقنعه بأمر ما. أخذت تشير إلى قدميه ونعليه المتـّسخين، اللذين كانا كما لو أنّهما غطسا تواً في الوحل. ثمّ لم تلبث أن عادت بصحبته.
أحدث مرآه شعوراً مبهماً، غير مألوف، في نفسي. بدا لي مهموماً إلى حدّ لا يُحتمل، يسير مثل نائم أو ثمل. جرّته ألفيرة  جرّا إلى حيث أجلُس وأجلسته إلى جواري بلطف وعطف بالغ، فراح من فوره يشكو لها بعض همومه الخاصة، في عبارات غامضة، مقتضبة، جارحة: " كأنّي خُصصت بخساسته وحدي"، "كأنّي طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بير زمزم".
ــ   لا عليك يا بغداديّ، لا عليك، ستتدبّر الأمور قريبا، فلا تكن عجولا.
 ظلّت ألفيرة تطمئنه بطريقتها الودودة، الناعمة، وحينما شعرت أنّه لا يستجيب لها قالت له:
ــ   لا تفكّر في أجور المبيت والطعام وما تستلفه من لوازم الخان. لا تفكّر في هذا البتـّة، طالما أنت هنا، عندي. أما ما تملكه من مبلغ فادّخره لحاجاتك الضروريّة. وإذا احتجت شيئاً ستجدني جاهزة دائماً ومسرورة. أنا أعرف أنّ نفسك الأبيّة لن تسمح لك بفعل هذا، لكنّني لا أعرض عليك منحة، أنا أسلّفك وسأسترد ما أقرضك إيّاه بالتمام والكمال يوماً ما أنا أراه قريباً جداً جداً، كما أراكما الآن أنت وتوأمك هذا.
نطقت ذلك وهي تمسك بساعده وتضغط عليها بحنو، وأشارت إليّ برأسها. وكما لو أنّه تنبّه للمرّة الأولى إلى وجودي، رفع رأسه، وصوّب نظره نحوي. بدت لي  عيناه محيّرتين، عسيرتين، غير قابلتين للقراءة. بدتا لي فارغتين تماماً، كما لو أنّهما صفحتان من كتاب جرى مسحهما من كلّ ما كتب فيهما، أو ربّما كانتا مملوءتين تماماً إلى حدّ تداخلت فيهما الكلمات والحروف والمداد والألوان واختلطت.
ــ   هذا نسختك العراقيّة يا أبا سليمان. هذا عليّ أبو الحسين. سبحان الله ! أنتما في السنّ نفسها، وفي المزاج نفسه، وفي الغايات نفسها. هذا نسختك الأندلسيّة يا بن زريق البغداديّ الكوفيّ.
للمرّة الأولى أراه يبتسم. ابتسامته عجيبة، لا تصدّق، تشبه وردة جميلة تنبت على قبر.
قلت مستفسراً، وأنا لا أعرف كيف أبدأ الحديث معه ومن أين:
ــ   هل أنت كوفيّ أم بغداديّ يا أبا الحسين؟
ــ   كوفيّ أو بغداديّ، لا فرق عندي. أنا عراقيّ.
ــ   أراك مهموماً يا صديقي !
ــ   وماذا يجني المرء من قرطبة غير الهمّ.
ــ   وكيف حال دار السلام؟
ــ   ليست بأحسن حال من قرطبة.
ــ   وهل أنت طالب علم؟
ــ   هذه وغيرها.
ردّت ألفيرة بإعجاب:
ــ   هو شاعر وأديب يا أبا سليمان. ستسمع اسمه قريباً يعلو في مجالس الأمراء، وتردّد كلماته القيّان.
ــ   لا أظنّ ذلك يا ألفيرة.
ــ   لا، يجب أن تظنّ وتتأكد من هذا يا بغداديّ، اليأس ليس من شيم العظماء.
ظلّت ألفيرة  تجامله بطريقتها، وتحاول أن تفرّغ بعض شحنات آلامه.
ــ   لا أظن ذلك أيتها الأندلسيّة الطيّبة.
ــ   لماذا لا تظنّ ذلك، أنت مصرّ على أن تغلق على نفسك أبواب الله الواسعة.
ــ   الواسعة ! أين هي الأبواب يا ألفيرة، أين الأبواب؟
نطق وهمّ بالوقوف، لكنّ ألفيرة قالت له:
ــ   لا تنصرف ! ما رأيك لو أنّك رافقتني إلى بيتي، ربما سيحضر عندنا اليوم رجل له مكانة كبيرة في قرطبة ومعه ضيوف كبار من المريّة. إنّها فرصة لك لكي تروّح عن نفسك ولكي تلتقيهم.
أردّت أن أهوّن عليه الأمر فقلت:
ــ   إذا وعدت ألفيرة فإنّها واثقة تماماً من أنّ وعدها سيتحقق لا محالة.
نظر البغداديّ إلى وجهي بأسى، ثم تبادل نظرات غامضة مع ألفيرة، التي طأطأت رأسها؛ لكنّها سرعان ما رفعت رأسها وهي تزيح خصلة شعرها الصفراء من على جبينها وتقول بحماسة:
ــ   ربما ستكون هذه البداية الحقيقيّة يا بغداديّ.
ــ   لا أظنّ يا ألفيرة، لا أظنّ.
 قلت بتعاطف تام ومشاعر صادقة وأنا أراه يدفن نفسه في حفرة الإنكار المطلق:
ــ   لماذا هذا الإصرار على غلق الأبواب يا بغداديّ؟
ــ   أوّلها شؤم وآخرها لؤم.
ــ   أنا لا أكاد أفهم ما تقول.
ــ   هل سمعتَ بشخص اسمه التوحيديّ؟
ــ   لا، من يكون؟
ــ   أبو حيّان التوحيديّ.
ــ   لم أسمع به.
ــ   حينما تسمع أخباره ستعرف قصتي على حقيقتها. استودعكما الله. أنا متعب، ولا بدّ لي أن استريح قليلا وأخلو إلى نفسي.
قام على مهل، وذهب ماشياً بهدوء عجيب، كما لو أنّه سائر نحو قبره.
كان ذلك آخر عهدي به.

                             - 2 -

حينما وصلنا الخان شرع عمران يلقي الأوامر على خدم الخان، بينما توجهت أنا إلى ألفيرة. وجدتها تجلس في مكانها، ولكن في حال لم أعهدها فيها من قبل. بدت لي ثائرة الأعصاب، تسرف إسرافاً غريباً في إظهار حزنها وثورتها وانفعالها.
ــ   عجيب أمرك يا ألفيرة ! لقد قمت بشؤون الدفن كلّها طوعاً، لكنّك لم تحضري دفنه؟
ــ   أنا لا أحتمل أن يوضع إنسان في باطن الأرض، ثمّ. ..
ــ   ولكنّ الموت حقّ، وهذا مصير كلّ من عليها.
ــ   وهذا ما لا أستطيع تحمّله. رّبما لأنّني أشعر بنوع من الذنب تجاهه.
ــ   ذنب ! كنت عطوفة عليه.
ــ   لا أعرف إذا كنت كذلك، أم أنّني التي قدته إلى هلاكه !
ــ   لا تحمّلي نفسك وزر شيء لم تقترفه يداك يا ألفيرة.
بكت ألفيرة بحرقة وقالت:
ــ   دعنا نترك هذا المكان.
ــ   كما ترغبين، ولكن إلى أين؟
ــ   إليه !
ــ   ما أعجب أحوالك يا ألفيرة ! قبل دقائق كنت تقولين إنّك تكرهين رؤية الناس يقبرون. وها أنت تريدين الذهاب إليه في قبره.
ــ   نعم، أريد هذا، وإذا لم أذهب إليه من فوري ربّما سيحدث لي شيء فظيع.
ــ   أنا لم أرك من قبل مضطربة و...
ــ   مختلّة، قلها ! مختلّة، أليس كذلك؟
ــ   لا، أعني منفعلة وثائرة.
ــ   وتائهة.
ــ   أنت حزينة يا ألفيرة.
ــ   لست حزينة، أنا قتيلة يا حبيبي وأخي، أنا قاتلة وقتيلة.
نطقت كلماتها واستلت رقعة من رفّ موجود إلى جوارها. رفعت رأسها الباكي نحوي ومدّت يدها بالرقعة، ووضعتها بعنف في يدي.
أخذتُ الرقعة ونظرتُ فيها فوجدتُ أبياتا من الشعر مكتوبة بخطّ كوفيّ جميل.
نظرتُ إلى ألفيرة وقلت مستفهما:
ــ   أبيات شعر كالعقيق.
ــ   ليست أبيات شعر، وليست عقيقاً، هذه بعض دماء القتيل. دماء الزمان والمكان والإنسان يا أبا سليمان. دماء ودموع وآمال لم تر البشريّة مثيلاً لها قطّ، ولن تسمع بمثلها البتـّة.
لم أفهم ماذا تعني. ولم أتمكن من استيعاب ما تقوله أو تفعله. بدت مثل شخص فقد رشده وأخذ يهذي.
نظرتُ إلى الرقعة مجدداً لأعرف ما فيها، لكنّ ألفيرة أسرعت وأخذت الرقعة منّي بخشونة لم أعهدها فيها من قبل. كانت مثل حيوان متوحش جريح فقد المقدرة على تحديد الخصم الذي ينوي مهاجمته.
قامت ومشت، من دون أن تلتفت إليّ. مشيت خلفها منقاداً إليها . ذهبت إلى الإسطبل وركبت فرسها وتحركت. عجّلت في ركوب فرسي ولحقت بها. لكنّها لم تعرني التفاتاً، ظلّت تحثّ فرسها على المسير حتّى عبرت القنطرة ثمّ اتجهت خلف النهر صوب مقبرة الربض، ففهمت أنّها تقصده، وأنّها ذاهبة إلى قبره.
دخلنا المقبرة معاً. ترجلَت بخفـّة، لكنّها كادت أن تهوي، فأسرعت وأمسكت بها، فما كان منها إلاّ أن احتضنتني باكية، وهي تقول:
ــ   لقد قتلته، ولن أغفر لنفسي.
وحينما صرنا عند القبر، ناولتني الرقعة وقالت:
ــ   إقرأ بصوت عال.
ــ   لا تؤاخذيني كثيراً لو تلكأت في القراءة، فأنا مرتبك، كما ترين.
  لم تعقــّّب على كلامي. أحسست أنّها غير معنيّة بشيء مما أفكّر فيه أو أحسّه. كانت غارقة تماماً في حزنها. فتحتُ الرقعة وشرعتُ أقرأ، وهي تقف أمامي مترنـّحة، يفصل بيننا قبر ابن زريق. كففت عن النظر إليها ، وركـّزت أنظاري في الرقعة، لأنّ ألفيرة لبثت تميل إلى أمام والى وراء، كما لو أنّها توشك أن تهوي على صفحة القبر:

لا تَـعـذَلِـيــه فَــإِنَّ  الــعَـذلَ   يُـولـِـعُـهُ     قَـد ُقلـت حَقّـاً، وَلَكِـن لَيـسَ يَسمَعُه

جــاوَزتِ فِـي نـصحــه حَـداً أضَـرّ بِـــهِ     مِـن حَيـثَُ قَـدّرتِ أَنَّ النصح  يَنفَعُـهُ

قَـد كـانَ مُـضطَلَعا  بِالخَطـبِ  يَحمِلُـهُ     فَضُـلـّعَـتْ بِــخُـطُـوبِ البـين  أَضلُـعُـهُ

مـــا آبَ مِــن سَـــفَــرٍ إلاّ وَأَزعَـــجَـــــهُ     عـزم  إلى  سَــفـَـرٍ  بِـالرغــمِ  يُــزمِعُــهُ

كَأَنّـَمــا هُــوَ فِـي حِــــلِّ وَمُــرتـــحــــلٍ      مُــوَكَّـــل بـِــفَـــضـــاءِ الــلــَـهِ  يَذرعــهُ
 
  استَودِعُ اللَـه،َ فِـي بَغـداد،َ لِـي قَمَـراً      بِالكَـرخِ مِـن فَلَـكِ الأَزرارِ مَطلَــعُــــهُ

وكـــم تـشــفـــّعَ بـي أن لا أفـــارقــــــهُ،      ولـلـــضـروراتِ حــــــال لا تُــشَـفــّعــُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بـي يَـومَ الرَحيـلِ ضُحَـىً،     وَأَدمُــعِــي مـُســتَـهــِـلّاتٍ  وَأَدمُــعــُــــهُ

أعطيتُ مُلكـاً فَلَـم أَحسِـن سِياسَـتَـه،ُ     وَكُـــلُّ مَـن لا يُسُـوسُ المُلـكَ يَخلَعُـهُ

وَمَن غداً لابِسـاً ثَـوبَ النَعِيـم    بِـلا      شَـكـرٍ عَــلَيــهِ، فـَعـنهُ الــلَـــهُ يَنـزِعُـــهُ

وَالحِرصُ في المرء وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت     بَغِـيُ،ألا  إِنَّ  بَغـيَ  المَـرءِ  يَـصـرَعُـــهُ

لــو أنــني لـم تــقـع  عيـني عــلى  بــلـد         في سـفــرتـي  هــذه  إلاّ  وأقـــطــعــــــهُ

اعتَضتُ مِن وَجـهِ  خِلّـي بَعـدَ  فِرقَتِـهِ      كَأســاً  تجَــرَّعَ  مِـنـهـا مــا  أَجَـرَّعُـــه

فرغتُ من القراءة. رفعتُ رأسي نحو ألفيرة، فوجدتها تتوسد القبر، كما لو أنّها تعانق شخصاً حيّاً. لا أعرف منذ متى فعلت ذلك. كنت مأخوذاً أكثر منها. نظرت إلى ما حولي فلم أر شيئاً سوى القبور المتلاصقة. لم أعد أقوى على الوقوف. غيمة كثيفة من الأحزان هبطت على فؤادي فأغرقته بقتامتها. أحسست كما لو أنّني فقدت ذاكرتي. ضباب مُخَدِّر أخذ يتكاثف في رأسي. جلست أمام القبر والرقعة أمامي موضوعة عليه، وشرعت أتبارى مع ألفيرة في إظهار حرقة البكاء، وأنا لا أدري على وجه اليقين على من كنت أبكي: على شخص لا أعرفه معرفة أكيدة، أم على مصيره الغريب الغامض، أم على خيباتي الشخصيّة ! كانت فرصة نادرة لإطلاق الأحزان من دون خجل أو حرج.
لا أعرف كم لبثنا منكبّين على وجهينا، نسرف في إطلاق أحزاننا.
فجأة شعرت كما لو أنّ يدا تهزّني. فتحت عينيّ فوجدت القبّار يقف خلفي وهو يقول:
ــ   اعذرني يا سيّدي، لأنّني قطعت عليك غفوتك. فأنت والسيّدة استغرقتما في النوم. هل أنتما متعبان؟ هل أستطيع أن أقدّم لكما خدمة؟
ــ   أين فرسانا؟
ــ   لا تخف ! لقد عنيت بهما، هل تريدان مساعدة؟
فتحت ألفيرة عينيها مذعورة وقالت:
ــ   أين نحن؟
ــ   لا تقلقي يا ألفيرة ! نحن هنا، في المقبرة.
فركت عينيها وعدّلت هيئتها، فبدت شخصاً آخر بلمح البصر. عادت فجأة إلى طبيعتها التي أعهدها فيها:  ودود، حازمة، على الرغم من الإعياء الواضح، الظاهر على صوتها ووجهها.
نظرت إليها  فوجدتها هادئة، ساكنة المشاعر. شدّة تقلّب مزاج  ألفيرة جعلني أظنّ أنّني لم أزل نائماً أحلم، لكنّني تأكدت من حقيقة ما يجري حينما رأيت الريح تداعب الرقعة الموضوعة فوق القبر. كانت أطرافها تتحرك مثل شيء حيّ. مددت يدي بحذر وأخذت الرقعة المرتجفة، وأنا خجل من نفسي لأنّني أغفيت من شدة التعب وفقدت السيطرة على مشاعري.
قلت لكي أسيطر على مشاعري:
ــ   أهذا شِعره؟
ــ   يا ويلي ! هذه روحه يا أبا سليمان، روحه. هذا لا يسمّى شِعراً، هذه روح، روح طاهرة، محبّة، عظيمة، لا تجود الأرض والسماء  بمثلها بعد اليوم، روح سُكبت هنا وخلّفت وراءها جسداً هامداً غريباً مهاناً.
سارت  فتبعتها. أوصلتها إلى بيتها.
قلت لألفيرة لكي أبرر لها ضعفي:
ــ   لم يحدث لي مثل هذا من قبل. صحيح أنّي لم أنم منذ منتصف الليل، لكنّني لم أحسب أن يأخذني النوم بهذا الشكل، لقد ظننت أنّني أحلم.
ــ   وأنا كذلك. واعذرني لو بدر مني شيء مخجل، فقد كنت ثملة بعض الشيء. هذه هي المرّة الأولى في حياتي التي أخرج فيها من البيت وقد احتسيت بعض النبيذ. يحدث لي هذا حينما أشرب على عجل. يبدو أنّني كنت حزينة جداً، أكثر مما أظن.
ــ   فاجأنا موته.
ــ   الموت كالفراق، الموت والفراق سرّ من أسرار الغيب.
ــ   وما سر القصيدة؟
ــ   القصيدة هي ما جعلني أقع في ما وقعت فيه اليوم. قصتها طويلة. وجدها عمران على سرير ابن زريق وهو ميّت.
ــ   كنت تتحدثين عن الموت، وتلومين نفسك، وتتهمينها بقتله !
ــ   أنا لا ألوم نفسي، بل أدينها، فأنا التي بعثته إلى هلاكه. أنا التي أوصلته إلى أبي عبد الرحمن. استمع أبو عبد الرحمن إليه، وأراد إكرامه، كما قيل، لكنّ بعض خاصته أشاروا عليه أن يختبر سماحة المادح وحلمه وصدق إخلاصه ويبلوه، فأعطاه شيئاً قليلاً، تافهاً، لا يُعطى مثله حتـّى لطارق باب مسكين، فانكسرت إليه نفسه، وقال: " إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! سلكت البراري والبحار والمهامه والقفار فأعطاني هذا العطاء النزر؟".  وقد رأيته بنفسك يوم أمس الأول. كان عائداً حينذاك من أبي عبد الرحمن وهو في ذروة يأسه وحزنه وانكساره. حينما رأيته في تلك الهيئة انقبض قلبي وهاجمتني الشكوك.
ــ   لاحظت ذلك أيضا، كان موحل القدمين.
ــ   هذا ما أعنيه. وهذا ما أقلقني. قلت له: "لماذا قدماك موحلتان بهذا الشكل؟ أجئت ماشيا من قصر أبي عبد الرحمن إلى الخان؟"، فأجابني: "لا، جئت راكباً، لكنّني عرّجت على الوادي الكبير، وغمست قدميّ فيه، وأنا أحسّ كما لو أنّني أغطسهما في ماء دجلة"  .  فانقبض قلبي ووسوس الشيطان لي حينذاك بأنّه ربّما كان ينوي إلحاق الأذى بنفسه.
ــ   إذاً هم الذين قتلوه.
ــ   وربّما أنا.
ــ   ما ذنبك أنت ! أنت كنت تقدّمين له خدمة حينما قمت بإيصاله إلى شخص كبير المقام يدّعي حبّ الأدب.
ــ   ما يؤرقني أنّني سمعت كلاماً آخر، يختلف عن تلك الرواية في بعض التفاصيل، ولكنّني لم أتمكن من التأكد من عمران، لأنّه لم يفدني بشيء مفهوم لحدّ الآن.
ــ   ماذا سمعتِ؟
ــ   لا أدري كيف أربط بين الأمور، أنا غير واثقة من شيء؛ ربّما أنا لم أزل تحت تأثير الصدمة أو النبيذ، وربّما أنا أهذي حقاً، كما قلت أنت.
ــ   كيف تفسرين الأمر؟
ــ   لقد فتشّت جسده بقعة بقعة لأرى إذا كان مصابا، لكنّه كان سليم الجسد. حتـّى عمران لم يلحظ شيئاً غير طبيعيّ حينما زاره قبل منتصف الليل ورآه يبكي من شدّة الخذلان. سألت عمران أكان يبكي من ألم ما؟ فقال لي: لا، كان حانقاً، يقول: قطعت كل تلك البحار والمفازات لألقى ما يلقاه أشدّ الشحاذين بؤساً. كأني خصصت بخساسته وحدي. قال عمران كان ابن زريق يردّد هذه العبارة، وهو ينتحب مثل ذبيح.
ــ   وماذا يعني هذا؟
ــ   لا أعرف؟ لكننّي أقول لك: أنا الآن قد أوافقك لو قررت السفر إلى عدوة المغرب.
ــ   أتلمّحين إلى أمر ما يا ألفيرة؟
ــ   لا، لو كان عندي ما أريد قوله لما أخفيته عنك، لكنّني لا أرتاح للرجال الذين يتولون قيادة فرق ما يعرف بجيش الخارج، المرتزقة، مهما كانت أخلاقهم فاضلة. لأنّهم محاطون بقوم مغشوشين، عديمي الضمائر، ويتعاملون مع جماعات مجهولة الأصول والخلق والطبائع، فتتأثر أخلاقهم بمن يحيط بهم.
ــ   هل لديك شكوك في...
ــ   لا يا أبا سليمان، قلت لا. لكنّني منقبضة القلب، وربّما أريد أن أخفـّف من ذنوبي عن طريق اختلاق ذرائع وأوهام أخدع بها نفسي.
حديث ألفيرة حيّرني. فهي لا يمكن أن لا تقصد شيئاً. لكنّني رغم جسامة ما تتحدث به شعرت أنّ شكوكها أو خيالاتها لم تعد تعنيني في شيء. كانت روح ابن زريق التي أودعها في رقعة لا قيمة لها، هي التي أسرت لبّي. صورة امرأة آسرة، كاسرة، من بغداد، تجمع بين الجمال والعظمة، تشبه أفلاك السماوات، تتشبث بردائه وهو يبتعد عنها، قائلاً لها: لا تقلقي، سأعود إليك سريعاً، غير مدرك أنّه ذاهب إلى حتفه ! لماذا تركت الجنّة وراءك يا بن زريق؟ لماذا؟
أحسست أنّني مشدود إلى شيء ما، لا أستطيع نسيانه. كنت أحادث ألفيرة وعقلي مشغول بكلمات ابن زريق:
ــ   هل أستطيع الاحتفاظ بالقصيدة؟
ــ   نعم، لك أن تنسخها، ولكن أعد الأصل لي.
أخذت الرقعة، طويتها بعناية وقلت لألفيرة:
ــ   يجب أن أذهب. أنا متعب جداً، وأراك أنت متعبة أيضاً.
ــ   تستطيع المبيت هنا.
ــ   شكراً يا ألفيرة، أريد أن أختلي بنفسي.
ــ   تستطيع أن تختلي بنفسك هنا أيضاً.
ــ   لا أستطيع يا ألفيرة، واسمحي لي بالذهاب.
ــ   إذا كنت مصرّاً على الذهاب؛ ولكن تريّث، لا تغادر قبل أن أعود إلى الخان. سأذهب إلى أم سليمان غداً،وستسمع منّي ما يرضيك.
ــ   إلى اللقاء.
خرجت مسرعا. لم تزل الشمس في قبّة السماء. الفكرة الوحيدة التي سيطرت على عقلي هي أن أذهب فوراً إلى سوق الورّاقين لأجد أفضل خطّاط يستطيع أن ينسخ لي قصيدة ابن زريق، وأن يصنع لي نسخة تضاهيها دقّة وجمالاً.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سلام عبود


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni