... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
ممرات العبور من الحرية الفردية الى الحريات العامة وبالعكس

سلام عبود

تاريخ النشر       27/12/2010 06:00 AM


أحد أبرز الاختلالات البنيوية الوظيفية في الجسد الإجتماعي العربي هو شحـّة أو انعدام مصادر الطاقة الداخلية الدافعة. وبدقة أكبر انعدام مصادر التشغيل الداخلي وما يرافقها من سياقات حركيّة، تؤسس وتنظم عملية سير وتفاعل الحلقات الاجتماعية الأساسيّة، وتعزز ارتباطها ببعضها عبر نسيج مفصلي حيوي، حساس، قادر على الاستجابة التلقائية الخلاقة للتغيرات ولمتطلبات الوسط التاريخي الداخلي وشروط الواقع الخارجي.
إن وجودنا في حقبة تحولات وانقلابات تاريخية في موازين قوى دولية، لم تصل الى مفترقات طرق واضحة بعد، يزيد خطوات التطور تعقيدا. وما يزيد هذا التعقيد تعقيدا أننا لم نتمكن من فهم مكونات الصراع العالمي السابق جيّدا، ولم نتمكن من وضع أنفسنا في الموضع الصحيح من هذا الصراع في الوقت المناسب. فلم نزل نتحدث عن قطبين سياسيين وسقوط أحدهما، مصرّين على تجاهل الحقيقة المعروفة، القاضية بوجود ثلاثة أقطاب فاعلة ومتمايزة في نظم التطور الاجتماعي العالمي تاريخيا، الى جانب البنى التقليدية الموروثة والتابعة أو المنعزلة. يكشف إسقاط التيار الثالث، نظريا وتطبيقيا، عن ضعف حساسيتنا، وضمور فاعلية أجهزة الاختيار في شبكة استقبالنا وتمثلنا الثقافي والمعرفي. وربما يكون صحيحا القول إن العالم انقسم الى معسكرين أو كتلتين عسكريتين منذ ظهور المعسكر الاشتراكي. بيد أن إهمال أثر الاشتراكية الدولية تيارا حيّا وواقعيّا، ثقافيّا واجتماعيّا، يعكس غفلة جديّة، وتطرفا نزقيّا، في بنائنا الاجتماعي التحديثي، وفي أدواتنا المعرفية، وقصورا في عنصر الإرسال والاستقبال الثقافي والسياسي. من دون شك، إن التيار الثالث، المهمل، فقد الكثير من عناصر قوته داخليا ودوليا، وضعفت امتداداته الخارجية الضعيفة أصلا. إلا أنه لم يزل قائما، وربما يتمكن من استعادة دوره التاريخي المفتقد، حينما تفرضة الحاجات البشرية مجددا كضرورة أو كبديل ممكن ومقبول للتغيير الاجتماعي. إن سمة العصر الراهنة لا تتمثل في وجود قوة وحيدة، وإنما في وجود قطب متسيّد واحد، وخمول دور الأقطاب الأخرى، وعبثية نشاط بعضها، وتحول بعضها الآخر أو اضمحلاله أو تعفنه. وما يميز هذا التسيّد الآحادي أنه يأتي مقرونا، بالضرورة، بتفوق تقني ومعلوماتي ساحق، لكنه لسوء الحظ يخصع لهيمنة القوى الأكثر شراهة اقتصاديا، والأكثر جمودا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا في قائمة القوى القائدة للتطور الحضاري لعصرنا. إن إشاعة العسكرة، وتخريب البيئة، وتهميش الفكر والعدالة، وإفقار المحتوى الروحي والأخلاقي للحضارة البشرية، والإغارة على الحقوق المدنية وقوانين الحريات المنتزعة تاريخيا عبر نضال بشري طويل ومرير هي أبرز سمات هذا التيار. إن الارتداد بالتاريخ الى الوراء مضمونا ومحتوى، والسير به الى الأمام شكلا وتعبيرا خارجيا ووسيلة، هو جوهر سمات قرننا، ومحتوى تناقضه الرئيسي.
إن الإمساك بلبّ المشكلة الاجتماعية ثقافيا، من طريق رؤية مظاهرها التعبيرية الأكثر عمومية والأكثر ارتباطا بالذات: اللغة، ربما يكون وسيلة مقارنة حسيّة مفيدة لكشف ما يعتمل داخل الجسد الاجتماعي من عوامل وهن وضعف. اللغة مرآة حساسة، تعكس الطبيعة الداخلية للوعي والتفكير والسلوك على نحو ناطق. وهي وسيلة لكشف خفايا الضعف، لأن اللغة تشي، على نحو بليغ، بمكنونات الذات الاجتماعية الخفية. إن أبرز الحقائق الماثلة أمامنا الآن هي حقيقة تراجع مكانة ودور اللغة العربية، (أخرجتها بعض الهيئات الدولية من قائمة اللغات الكبيرة، تحت تأثير القوى المعادية للعرب، وأحلت محلها اللهجات الشفاهية) وتعزيز انفصالها عن مجرى الحياة اليومية، واغترابها الاجتماعي  الملحوظ، التي تعتبر علامة جدية من علامات الوهن العضوي التاريخي، وانعدام المقدرة على الاستجابة للضغوطات الخارجية، ومظهرا من مظاهر هشاشة البناء الروحي الثقافي والعاطفي للفرد بشكل خاص وللمجتمع بشكل عام.
إن تطور فن الصورة اليوم يمنحنا فرصة جيدة لرؤية الواقع العربي كله، بتعقيداته الثقافية الجوهرية، كاملا، مختصرا، في بضع لقطات تلفزيونية. في هذه اللقطات تبث لنا إحدى الفضائيات إعلانا يدعو المواطنين الى امتشاق السلاح والذهاب فورا الى حرب كارثية جديدة ضد "الأشرار التاريخيين" مدنسي "أصالة" الأمة، "المتسللين من حدودنا الشرقية"، تعقب الإعلان صورة ثابتة تحتوي على سبع كلمات، تشير الى البرنامج التلفزيوني القادم، ولكن باللهجة العامية الممزوجة بعبارات إنجليزية: "كلجر إن بريف. نيكست، كومنغ سون: تراجي!"#. كيف نفسر سلوك قناة فضائية ترفع إعلاناتها التجارية شعارات تحريض حربيّة وثأريّة، عرقيّة وقومية خالصة، وفي الوقت عينه تعلن من على الشاشة نفسها عن برامجها بلغة هي مزيج من العامية والإنجليزية؟
هذا المثال لا يسري على القنوات الترفيهية أو التجارية وما يصاحبها من تهشيم للعربية مثير للاشمئزاز، لأنه يصف سلوك قناة سياسية خالصة، يتولى مسؤوليتها أفراد وجماعات يعتاشون على التباهي بالانتماء الى أعلى المراتب في جهاز ايديولوجي وحكومي قومي قاد المنطقة الى سلسلة من الحروب المدمرة باسم الأصالة القومية. هذا التناقض المركّب، القومي خطابا، والتحرضي وسيلة، والمتناقض وظيفة، هو خطاب الذات المتورمة، الاستجدائية سلوكا، الخربة هوية، الغارقة في وهم صناعة الآخر: العدو الأبدي الاختياري، والصديق المخلص افتراضا. هذا المثال التبسيطي يعكس جوهر الإشكالية الثقافية والروحية المتعلقة بتفكك سياقات الاستقبال والارسال الداخلية للذات، واضطراب منظومة قيمها وقواعد سلوكها الوظيفية. من يستطيع أن يوقف أو يعدّل مثل هذه الظواهر الفاسدة؟ لا أحد يستطيع. لماذا لا نستطيع ذلك؟ لأن هذه الظاهرة لا أكثر من صورة نموذجية ورمزية تعبر عن قوة فعل القوانين الداخلية المسيّرة للواقع اليومي، قوانين ضعف الذات وشللها المميت، باعتبارها المؤشر التعبيري الظاهري على انحطاط الأمم. إن هذه العطالة الثقافية والاجتماعية هي المظهر الحركي القيادي الممكن واقعيا، في ظروفنا الراهنة، لأنها السلطة الفعلية العليا الممسكة بمفاتيح الواقع الأساسية. هذا المثال البسيط يلقي ضوءا ساطعا على سعة المساحة وحجم الحرية وقوة الإغراء، التي تتمتع بها قوى الهدم التي لا تقاوَم. من يصنع هذا الواقع؟ إن الإغراء الاغترابي الثقافي الشكلي والاستهلاكي، وطمس بعض ملامح الهويات الثقافية، هامش ممكن وواقعي يتحكم في بعض مجالات الوعي الاجتماعي في التجارب البشرية كافة؛ ولكن، في ظل اختلال موازين صراع الايديولوجيات والقيم والثقافات لصالح تيارات خارجية عظيمة الثقل والفعالية، تكون الآلة الثقافية والاجتماعية العاطلة، التي تستهلك ذاتها وتعتاش على طاقات وقتية ناضبة، عنصر موت أكيد للتجربة الإجتماعية حينما تشغل دور المحرك والميل الأقوى القائد للتطور الداخلي.
إذا انتقلنا من الثقافة الى المثقف ودوره الريادي التنويري والتحريضي والمعرفي والفني ستبدو الصورة أكثر قتامة. إن موضوع الحرية - نظريا وتطبيقيا - هو عنصر الضعف الأساسي، البنيوي، في شخصية المثقف؛ وهو عنصر ذو أبعاد تفاعلية مركبّة أيضا، فهو جزء مكون لبنية الواقع، يؤثر في تحديد ملامح هذا الواقع، وفي الوقت عينه هو عنصر يستمد مقومات وجوده من الواقع نفسه، لأن الحرية تغدو في سياق الفعل الاجتماعي سببا ونتيجة. إن الصلة بين السياسة والثقافة وارتباطهما بموضوع الحرية هي العصب الحساس في إشكالية التطور الاجتماعي الراهنة، وأساس مفهوم المواطنة الحقيقية، وجوهر مفاهيم الحق والجمال والخير. إن مقارنة بسيطة بين مثقفنا والمثقف الأوروبي مثلا تبين حجم الخراب الذي ينخر البنية الروحية لهذا العنصر الاجتماعي الحيوي. على الرغم من أن المثقف الأوروبي كان ويظلّ حاضرا في المشهد التاريخي كلّه، سياسيا واجتماعيا ومعرفيا وفنيا، وحتى حربيا حينما يقتضي الأمر، إلا أن هذا المثقف، منتجا أو محرضا أو منورا أو صانعا للقيم الجمالية والفنية، لا يضع مهامه الوظيفية كلّها جاهزة في سلة السياسي الحاكم. فليست مهمة المثقف الأوروبي استلام السلطة السياسية نيابة عن السياسي، لكنه يستطيع أن يسهم في تعبئة ملايين البشر المعادين للحرب مثلا ضد مشروع لا إنساني يُقدّر وقوعه في مكان يبعد عن وطنه آلاف الأميال، بينما يقوم كتـّاب الوطن المبتلى بالحرب بكتابة نداءات لشعبهم تطالبه بأن يقيم حدادا وطنيا على شهداء مرتزقة دوليين من عصابات "بلاك ووتر"، لقوا مصيرهم الشنيع في معارك الاحتلال. (نداء صدر في الأول من ابريل 2004، وقعه 166 عراقيا، بينهم ستة وعشرون شاعرا!)، ويصل الأمر حدا بالغ الشطط ضميريا وأخلاقيا حينما يطالب شعراء آخرون، باسم الثقافة أيضا، من حكامهم بتشييد نُصُب تذكارية في ساحات عاصمتهم المحتلة "لأبطال المارينز الشهداء"! إن المثقف الأوروبي المناهض لإرادة الشر ولنوازع معاداة الإنسان يملك إرادة إنسانية حرّة، تختزن طاقتها الخاصة القادرة على الفعل والاشتغال، بصرف النظر عن المكان والمصلحة الخاصة؛ طاقات فعّالة لا ترتبط بمن يحكم، بل ترتبط بالقيم النبيلة في مجتمعه وبالتاريخ الحضاري للبشرية عامة. لذلك ينجذب المثقف الحر، بمشاعر استباقيّة متوثبة، الى نبض الحياة، الى الجمال والخير والعدالة والسلام،  معبرا عن إرادته الحرة طواعية وبتحريض داخلي، بينما يمارس كتاب بيانات "بلاك ووتر" و "نُصُب المارينز" انفعالاتهم تحت ضغط الإحساس باالضآلة والانسحاق الروحي. (كتب جورج بوش في الفصل الرابع من مذكراته يقول: إن شيراك وصف رفض الحرب بالأمر الأخلاقي، شاركه في الرفض شرويدر وبوتين؛ لذلك اضطر بوش الى السفر شخصيا الى تشيلي والمكسيك لإقناع رئيسيهما، اللذين قابلاه بالرفض أيضا. لكن الرئيس المصري تطوع شخصيا بتقديم معلومات تُثبت المزاعم الأميركية بوجود سلاح الدمار الشامل في العراق، أما القادة السعوديون فقد أوفدوا الأمير بندر، سفير المملكة في واشنطن، لكي يبلغ الأميركان جاهزية "الحلفاء" لتنفيذ الأوامر!!) هذا الاختلال لا يكمن في الوظيفة  الداخلية المحركة للفرد فحسب، وإنما يكمن في جرح تكويني  بليغ، محفور عميقا في منظومة القوانين والقواعد المسيرة للبناء الإجتماعي كله، وفي فساد تام لمفهوم ووظائف الحرية الشخصية، باعتبارها وعيّا للضرورة. إنه اختلال في معادلة الحرية والموطنة والمسؤولية، المؤسسة تأسيسا مشوها في ثقافتنا.
إن المجتمعات الحيّة ثقافيا هي المجتمعات المنتجة للقيم المثلى، وإن جوهر نجاح عملية الانتاج يتوقف على تفاعل وانسجام عنصري قوى الإنتاج ووسائله، الذي يعني ثقافيا، بدرجة أولى، مقدرة المجتمع على إنتاج قيم إنسانية قادرة على الإشباع من جهة، وقادرة على خلق مُشبـِعات وتطمينات جديدة، بديلة، على أنقاض قيم مستهلكة أو مندثرة.
إذا انتقلنا من المثقف الى البنى الثقافية نجد اختلالا جسيما في ترتيب ووظائف التكوينات الثقافية أوالجماعات الثقافية المتمايزة مهنيا ووظيفيا: النخب، الأدباء، العلماء، الحقل الجامعي، ممثلو ثقافة السوق، الثقافة الشعبية، ثقافة السلطة، ثقافات الأقليات والتكوينات الخاصة عرقيا وروحيا. إن ما يميز الثقافة في المجتمعات المنتجة، المنسجمة في بنائها الداخلي، هو وحدة وتمايز أطر ومكونات وأدوار المجموعات  الثقافية المتعددة، ومقدرة كل واحدة منها على ممارسة وظيفتها بنجاح في حدود مشروعها الخاص المستقل وبتفاعل خلاّق مع المكونات الأخرى، من دون ان تفقد دورها وشخصيتها أو خصوصيتها لصالح جهة ما.  إن ضعف أو غياب هذه الوحدة والتمايز الوظيفي في الفعالية الاجتماعية اليومية، يسهم في تقزيم دور المثقف فردا، ويضاعف فرص ضياعه وانسحاقه تحت وطأة الأوضاع المعيشيّة والسياسيّة بيسر بالغ، وبالتالي يقود الى سلب المجتمع أحد مشغلات حركته الداخلية، والى إضعاف بنية الثقافة عامة، باعتبارها كيانا فاعلا ومؤثرا على مجرى التطور التاريخي للأمم.
إن الأمر ذاته، بالصورة عينها، يسري على مؤسسات وقوانين الثقافة كافة. يسري على حقوق وقوانين النشر، التي لا تستطيع أن تجاري أو تتبارى مع واقع وقوانين ومعايير النشر الغربية وشروطها، ولا تستطيع في الوقت نفسه أن تخلق قوانينها الخاصة الفاعلة والعادلة. المسجد، الكنيسة، المكتبة، المدرسة، مراكز البحث العلمي والثقافي، دُور الثقافة، شبكات الإعلام، بنى وظيفية مستنسخة استنساخا تلفيقيا رديئا.  أما بنية الاتحادات الثقافية فلا نستطيع مقارنتها، ولو تجاوزا، بالاتحادات في المجتمعات المتقدمة من حيث التركيب، والعلاقة مع الأعضاء والسلطة والمجتمع، ومن حيث إنسانية واستقلالية الأهداف، والشمولية الوطنية، والحيادية في القرار، ودقة التنظيم؛ يضاف الى ذلك عجز بنانا التام عن صناعة بدائل محلية مقبولة تبعدها عن الصورة النمطية الأقرب الى الحزبيّة. بنية الأحزاب السياسية أكثر فسادا من غيرها. بنية أنظمة الحكم أضحت خرافيّة التكوين. فما عاد ممكنا التفريق بين الملكي والجمهوري، بين العسكري والمدني، بين القبلي  والعصري، بين الهدّام والبنـّاء. أشكال توزيع وتنظيم واستغلال الثروة والملكية عنصر جوهري يقع في قلب المسؤولية التنظيمة، لا تستطيع المجتمعات الباحثة عن التطور الحقيقي الفرار من أسره، ومن شروط تخطيطه وإعادة بنائه وتجديده بالتوافق التغييرات في المجالات الثقافية والاجتماعية والتنظيمية. هذه الحلقات هي مكونات البنية الداخلية، المحركة للوعي، وهي مكونات مصابة باختلالات جسيمة، عضوية، ناشئة عن العطب الأساسي: فقدان الطاقة الداخلية الذاتية المولـّدة والناقلة للحركة، وفقدان الهوية الحقيقية، العارفة، والواعية لذاتها.
 من أين تأتي هذه الطاقة؟ لا مصدر لها سوى تفعيل مكونات ( موجودات ومخزونات) المجتمع الأساسية، بإعادة بناء الوظيفة الاجتماعية للمؤسسة الحاكمة، والهيئات الاجتماعية العامة، وتفعيل حرية المواطنة واستثمار إرادتها المستقلة، باعتبارها الخلية الصغرى للطاقة المجتمعية. أي من طريق إعادة هيكلة البناء الاجتماعي والروحي بما يكفل تحقيق ترابط وثيق قائم على التوازن العادل والشرطي بين القوانين العامة والحرية الخاصة، بين الفرد والمؤسسة الاجتماعية، بين الحقوق الاجتماعية والمسؤوليات الشخصية، بين حاجات الحاضر وامتدادات الماضي، بين الذات الاجتماعية، باعتبارها كيانا مستقل الشخصية، والعالم الخارجي.
إن الأمثلة على عطالة الفاعلية الثقافية والاجتماعية كثيرة: إختلال واضطراب صور وموازين التبادل الثقافي الإنساني بين مؤسسات الثقافة القومية والعالم الخارجي، وجنوحها، محتوى ونتيجة، لصالح الأقوى خارجيا. مصادرة وتغييب المصادر الثقافية للقوى المجتمعية الأضعف سياسيا وعدديا في الداخل، وسوء إدارة التوازن الثقافي التاريخي الداخلي المنظم للعلاقة بين الذات القومية المتسيدة وثقافات القوميات الصغيرة والتكوينات الثقافية التاريخية الأصغر محليا، التي هي مكون عضوي تاريخي حي ومتميز، ومخزون أصيل، ومنشط ثري لآليات الفعل الداخلية المحرّكة لطاقات المجتمع عامة.
إن اضطراب المؤسسة الاجتماعية في اختيار مرشحها لنوبل مثال حسيّ  صغير ونمطيّ آخر، يصف حالة العطالة والشلل البنيوي في الذات والمؤسسة الثقافية واهتزاز قيمها وتشتت مكوناتها الداخلية. تفكك هوية المرشح نفسه، في مواجهة الضغط الخارجي، مثال آخر مركّب، متتم، يشير الى العطالة القيمية ذاتها، ويوضح ما نعنية بتداخل السبب والنتيجة في الفعل الثقافي وفي موضوع الحرية، ودليل ملموس آخر على اضطراب مكونات الهوية وضعف عملية التبادل الثقافي مع الآخر. الزعامات الثقافية، الجوائز، المنتديات، المنح الثقافية الفردية والاجتماعية، قوانين الملكية الفكرية، وفقدان النخب مقدرتها على إنتاج قيم أخلاقية إنسانية، طوعية، ذات مردود اجتماعي عام، يسمو الى مرتبة المثل العليا. إن المثل السلوكي والأخلاقي الثقافي الأعلى ملمح هام من ملامح ارتباط الحرية الفردية بالقيمة الإنسانية العامة: رفض سارتر استلام جائزة نوبل، وفعل باسترناك ذلك أيضا، حتى لو كان من أجل حبيبته، ولم يمنع الترشيح لنوبل هارولد بنتر من مهاجمة النزعة العسكرية ونعت قادتها بالإجرام الجماعي؛ وحينما غادر هننغ مانكل- أحد اشهر كتاب السويد، وزوج ابنة أشهر مخرج سينمائي عالمي- بيته الوادع المحبب وركب سفينة كسر الحصار، كان الكاتب العربي المبتلى بالاحتلال يقول: هذا الإشكال ليس قضيتي، نتانياهو لم يأخذ رأيي حينما قصم ظهرغزة! إن سعة مساحة الحرية الشخصية، في المجال الإبداعي خاصة، هي الدليل الأكبر على أصالة وانسجام الذات الثقافية مع نفسها، وعلى فاعليتها الإنسانية.
تستطيع المجتمعات العربية الفقيرة أن تدخل موسوعة جينيس ثقافيا من طريق صناعة أكبر صحن تبّولة، أو أكبر قدر برياني، وتستطيع المجتمعات الأكثر غنى ورفاها أن تُنبت أعلى برج تجاري وأضخم مهرجان سينمائي في صحرائها الثقافية. لكنها جميعا، لن تستطيع أن نتنج قيما اجتماعية إشباعية، معمّرة، وجلّ ما تفعله، بعد دخولها كتاب جينيس، هو أن تلتهم تبّولتها، وتؤجر شققها مفروشة، وتتسلى بتوديع النجوم.
 تلك بعض مظاهر انحطاط الأمم حضاريا، وبعض مواضع نضوب طاقاتها الداخلية المحركة للوعي الاجتماعي.
إن وعي الذات هو السبيل الوحيد والأمثل لمعرفة طريق المستقبل.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سلام عبود


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni