... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
ما الذي فعلته الرواية بنا؟

لؤي حمزة عباس

تاريخ النشر       08/01/2011 06:00 AM


في كل مرّة يُعاد فيها ترتيب مشهد الثقافة العربية بناء على هيمنة نوعية تتشكل بهدوء وتمهّل، مثل مياه جوفية، لتنبثق بعد إرهاصات ومقدمات، تطول أو تقصر، كما لو كانت تستأذن بالدخول بصوت خفيض، بانتظار انفجارها الذي سريعاً ما يغطي المشهد ويعيد بناء علاقات الأنواع الكتابية فيه، فيُقصي ما يُقصي من ضروب الإبداع، ويُعدّل ما يُعدّل من متجهات النقد الذي سيعمل بدوره على رصد الظاهرة وتعليلها، محاولاً لملمة الانفجار، قبل أن يلتقط أنفاسه ويرتب أوراقه متحوّلاً إلى تأصيل الظاهرة وهو يرمي الحجر بعيداً في أرض التراث.

وذلك ما حدث منذ مطلع خمسينيات القرن المنصرم، مع التحوّل إلى التفعيلة في الشعر العربي، بما اقترحته من حداثة اتصال ظلت خلالها خيوط الصلة ممتدة مع منجز الشعر العربي في مختلف عصوره، وقد مثّلت قصيدة التفعيلة فيه التحوّل الأهم وهي التي بقيت محافظة على صلتها معه روحاً ووزناً وقافية، على خلاف ما حدث مع قصيدة النثر التي ما زالت تؤكد خصوصية حضورها في الثقافة العربية بوصفها حداثة انفصال، على الرغم من محاولات النظر النقدي ومشاريع التأصيل التي ذهبت بها إلى آفاق النص الصوفي وتجليات بلاغة المقموعين، الأمر الذي حدث مع القصة القصيرة وقد أعادت بالفعل ترتيب مشهد الثقافة العربية لزمن ليس بالقصير بناء على مقولتها النوعية وهي تشهد عصرها الذهبي مع كتّاب الستينيات الذين ارتقوا بها إلى آفاق جديدة، الأمر الذي لم يكن منغلقاً على كتّاب ستينيات بلد عربي دون سواه، بل جرفت مياه القصة القصيرة الكتّاب المصريين مثلما جرفت كتّاب العراق، وأغرقت كتّاب سوريا مثلما أغرقت كتّاب المغرب العربي، حتى غدا إبداع السرد العربي على امتداد عقود قصصياً بامتياز، وأصبحت القصة القصيرة هي قاعدة الكتابة السردية، في وقت لم تكن الرواية إلا الاستثناء الذي حافظ على مهابته و ثراء حضوره مع جيل الآباء، وقد وقف نجيب محفوظ في القلب منهم، وسط انفجارات الإزاحة والهيمنة، حتى اصطدم الكتّاب العرب بجدارين روائيين يفصل بينهما ما يقارب العقدين من الزمان، ويجمع بينهما سحر الجائزة وبريقها الخلاّب، الجدار الأول هو جدار نوبل ـ مع نوبل محفوظ سقط واحد من أهم مستحيلات الاعتراف بعالمية الكاتب العربي ـ والجدار الثاني هو جدار البوكر العربية، شاء من شاء وأبى من أبى، مع الإشارة إلى أهمية ما أنجزه الدرس النقدي ما بعد البنيوي في تجديد النظر إلى الرواية والتأكيد على فاعلية دورها الثقافي بما يقدّمها لحظة إبداع فارقة تنفصل فيها عن تراتبية الرواية التقليدية وهي تجدّد وظائفها وتطوّر أدوات بحثها لتكون الرابط السوسيوثقافي الأهم في مشهد الإبداع العربي، كل ذلك مصحوب بتعبير نقدي يرّن مثل جرس في فضاء فسيح وهو يتوّج الرواية سيدة للزمن الراهن، سيعيد د. جابر عصفور التأكيد على هيمنة الرواية وهو يعمل على زحزحة الصيغة ومناقشة بدائل مثل (زمن السرد) و(زمن القصص) في تشديده على قدرة المجاز المرسل لـ (زمن الرواية) للدلالة بالأكبر على الأصغر، وبالأصل على الفرع، وبالأشهر على الأقل شهرة، لتعود الرواية لعرش التفضيل بعد أن حققت انفجارها غير المسبوق الذي أخذنا جميعاً إلى غابة من الإنتاج يصعب معها الإحاطة بمنجزها وقد أوقفت دور نشر عربية عديدة جلّ منشوراتها عليها، حتى أصبح من المألوف أن يواجهك صديق يعمل في دار نشر، قبل التحية، بالسؤال: هل لديك رواية؟َ أو تستمع لما يشبه النكتة من صديق آخر يعمل في دار نشر أخرى، وهو يؤكد بأن كلمة (رواية) على غلاف كتاب كافية لتسويقه: أكتب رواية على الغلاف واترك الورق أبيض، ستباع نسبة جيدة من المطبوع قبل أن يلاحظ أحد!

صدمتني النكتة، ولم تكن بالنسبة لي مزحة عابرة، خصوصاً وهي تُحكى في القاهرة مع مجموعة من نكات الوسط الثقافي على هامش واحد من أهم ملتقيات الرواية في العالم العربي، الملتقى الذي حمل في دورته الخامسة شعار: الرواية العربية إلى أين؟ وقدّم خلاله أكثر من مئة وخمسين بحثاً وست موائد مستديرة انشغلت جميعها بالرواية العربية من قضايا التجريب إلى مشكلات النوع، ومن التحولات إلى الإمكانات، ومن راهن الإنجاز إلى مستقبله، ومن مقولة الحريّة إلى فاعلية المتخيّل، ومن مشكلات النشر إلى مشكلات التلقي، ومن التكنولوجيا إلى السيميولوجيا، ومن اليوتوبيا إلى الهتروتوبيا، وهي تخطو من أسئلة الراهن إلى المستقبل، ليظل السؤال، بعد ذلك، قائماً: إلى أين تمضي بنا الرواية؟ بعد أن أصبح سؤال الإنتاج والتسويق أكثر أهمية من سؤال النوع، وغدا التداول بما تقترحه ـ وتقتضيه ـ سياسات النشر وإمكاناته مانعاً أمام تأمل المنجز ومعاينة تفاصيله، ناهيك عن تجزئة القراءة النقدية لحقول الكتّاب أنفسهم، كأن الكاتب لا يحقق حضوره مهما طال به زمن الكتابة إلا بالرواية وحدها، هذه الرواية التي غالباً ما نُظر لها بمعزل عن إنتاج الكاتب لا سيما القصصي منه، كأن الرواية وليدة لحظتها، أو كأنها تجبُّ، بقدرة قادر، ما قبلها، وأمثلة العزل والتجزئة النقديين كثيرة ربما يكون الأوضح من بينها مشروع منتصر القفاش الذي ظلت روايته حبيسة عزلة النظر النقدي الذي أخذها بعيداً عن تجربته القصصية وقد شكّلت أفضل عتبة ممكنة للدخول إلى تجربته في الكتابة الروائية خصوصاً مع روايتيه الأخيرتين، لكننا لم نقرأ من النقد ما يضئ الصلة ويكشف طبيعة التعالق.. أهي سطوة الرواية أم سلطة نقدها؟ حيوية إنتاجها أم قوّة تسويقها؟ تلك التي تدفع النقد العربي لقراءة تداخل الأنواع داخلها، وهي التي تملك قدرة الاحتواء والتذويب، وتمنعه عن تأمل فاعلية الصلة بينها وبين النص القصصي؟

إن ما تقدّمه الرواية العربية اليوم يكشف بلا شك الكثير من قدرات المواجهة والسؤال، مثلما يقدّم فرصة مهمة لتبيّن التجربة الإنسانية في أكثر من بلد عربي بقيت تجربة إنسانه حتى وقت قريب خارج حدود الكشف السردي، ولنا في الرواية السعودية خير دليل، على الرغم من التباين البالغ في مستويات المنجز الروائي، والمسافة البعيدة بين الكم والنوع.

إن سؤال الإنتاج الروائي لا يزال يقف مانعاً أمام دراسة المنجز على نحو كلي تحقق الرؤية النقدية فيه تواصلها وهي تلتقط سمات التواشج بين الأعمال المختلفة وتنظم مقولتها النقدية الواضحة في الكشف والمعاينة، إن سؤال الإنتاج حول الرواية اليمنية الراهنة، مثلاً، لا يزال يمنعنا من دراسة منجزها على نحو لا تنفصل فيه رواية أحمد زين عن رواية على المقري، ولا تبتعد الروايتان عن رواية وجدي الأهدل وسواها من الروايات.. إن إضاءة العالم مهمة لا تنهض بها رواية واحدة، ولا يلخصها حقل روائي منفرد، فهي تظل على الدوام بحاجة لعين أخرى تلتقط من التفاصيل ما غاب في خفاء التجارب المجاورة.

الأمر نفسه يواجه الكاتب العراقي على نحو أشد وطأة، وهو يُقابَل أينما حلَّ بسؤال مربك: متى تكتب الرواية العراقية ما حدث في العراق؟ السؤال الذي يظل معلّقاً مثل سيف فوق رؤوس الكتّاب العراقيين، يعود بهم كل مرّة يُلقى فيها إلى نقطة الصفر، صفر سيزيف، يهدد أعمالهم الروائية بالدخول إلى امتحان لا يقبل التأجيل ويعرّض مشاريعهم للانزلاق في الهوة الفاصلة بين جسامة الحدث وآلية المعالجة، بين فداحة الواقع: وحشيته وارتباكه ولا معقوليته، وانتظام الخيال، وقد قدموا منذ 2003 حتى اليوم إنتاجاً ليس بالقليل بالنظر إلى تعقّد المشكلة وسرعة تحوّلها وعمق جذورها الضاربة في أرض الدين والمجتمع، أرض الوهم والحلم والاعتقاد، أرض الهيمنة والاستحواذ، أرض المصائر المريرة المتقاطعة، وقبل التفكير بقسوة السؤال هل يمكن السؤال، بالمقابل، عن حقيقة الجهد النقدي العربي الذي توجّه لقراءة ما قدّمته الرواية العراقية منذ 2003 بالخصوص؟

صدرت قراءات لأعمال روائية متفرقة، بعضها قراءات ممتازة تأسست على جهد معرفي، وهي قليلة مقابل الكثير الذي لم يمنح الأعمال الروائية ما تستحقه من جهد، ناهيك عن المشكلة الأساس: القراءة المعزولة لكل عمل بعيداً عن حقل الكاتب، كأن الرواية جزيرة منقطعة، ولكل كاتب على حدة، كأنه حي بن يقظان يخطو خطواته الأولى على أرض الرواية، ليظل السؤال مفتوحاً وتواصل الصخرة، مع كل رواية جديدة، لعبتها المؤلمة.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  لؤي حمزة عباس


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni