... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
كمال سبتي: شعرية الخلود واستعادة الأمكنة

علي حسن الفواز

تاريخ النشر       15/03/2011 06:00 AM


الصورة : كمال سبتي
استعادة الشاعر الراحل كمال سبتي يعني استعادة بعض توهجات اللحظة الشعرية التي استغرقت كثيرا الزمن الشعري العراقي، وسنوات منافيه القهرية. كما ان هذه الاستعادة لشاعر امتلأ كثيرا بالضجيج والكثير من اشتهاءات الحياة، تمثل نزوعا للاستغراق في الكثير من الاسئلة التي تمثل في جانبها الآخر استقراء لمعطى بعض وجوه التحولات الشعرية التي حاولت ان تؤنسن مفاهيم الحداثة واسئلتها، وايجاد اشكال من التعالق الفكري بينها وبين ما افترضته اجتراحات التجريب الشعري في مرحلة ما بعد الستينيات، اذ بدت القصيدة وكأنها الفضاء المفتوح لكل هذه (الهزات) اللغوية والجمالية والانسانية، والتي اخذت بتلابيب كمال سبتي ليكون احد الشعراء المدهوشين الذين يحلمون بصناعة تاريخ مفارق ليوميات الشعراء المنفعلين بهذه (الهزات) وهم في سيرورة بحثهم عن الحرية والحلم والرؤيا..

كمال سبتي خرج من لعبة الاحتجاج الشعري العراقي الى منافيه الشخصية الباردة، وليموت هناك وحيدا وبطريقة غير تراجيدية، تلك التي جعلته بعيدا عن بريده الذي لن يأتي. لم اكن اعلم ان قلبه سيخذله ذات يوم، فانا كنت على يقين غريب بانه كان بدون قلب دائما، وان ما في داخله كان بلدوزرا يأخذه الى الامكنة العصية محمولا ومجاهرا بنوع من السخرية المرّة... كان يكتب الشعر كجزء من لعبته في السيطرة على قانون الحياة التي يعيشها بصخب، وكجزء من رغبته الحميمية في مراودة الخارج الجسد/ المرأة/السلطة /المنفى من خلال مراودة القصيدة التي تختصر المكان والزمن والجسد والانوثة.. في شعريته ثمة الكثير من التوغلات التي توحي بان القصيدة هي جوهر هذه الرغبة الحميمة، وربما هي سر كينونته، وان الكتابة هي سياقه التعويضي التي تحرضه على اقتراح قدرة الشاعر في امتلاك لعبة الكشف والاغواء والمحو والخروج من لزوجة الاشياء الممغنطة بالسحر والخرافة واللذة الى عالم تؤهله اللغة بالاصوات والاستعارات والبلاغة المفتوحة، والتي تملك سعة فضاء قصيدته بكل ما تستدعيه من موحيات طاعنة بالغناء، ونازعة الى استغوار حكمتها الباهرة الضاجة بالتاريخ السري، واصواته الخبيئة التي تستاف غبار المخطوطات. هذا ما جعل الشاعر وكأنه مسكون بقناع اديوسيوس الراحل ابدا خارج الامكنة الوضعية والامكنة الرمزية.. او ربما يتلبس احيانا برغبة عارمة، تلك التي تتركه يبحث عن (عشبته) الشائهة وسط مناف ضاجة بالحياة، وضاجة بسيولة احلامه المضادة للموت، والتي تتمثل شروط لعبته المكررة في المكوث والسفر والتراجع أو الغواية لاصطناع شهوة الرؤيا او تدمير الحواس.

في المنافي تبدو لعبة الشاعر نوعا من التحرير الخطي لكتابة تحمل معها شفرات تعويضية غير محققة، يتمثلها وهو يمارس كتابة نصه في المواجهة او مغامرته في الاحتيال على ألامكنة الاخرى او اللغة المضادة التي تصنع تأويله للعالم والمتسللة عبر شقوق الروح او المنافي، لكن نصوص المنافي التي يكتبها الشاعر ( كمال سبتي) كثيرا ما كانت تاخذ غير هذا المنحى في تحرير نص اللذة من مغنطة المكان ومن اوهامه المحتشدة، او ربما من سيولة المنافي التي تمنحه احساسا بالاغتراب والمتاهة، لانه لا يكتب مراثيه الشخصية للامكنة الغابرة او الغائمة او يرسل بريده العاجل لموتاه العالقين فيها او يمارس سرد سيرة احزانه داخل انساق لا تمنحه حقوق اودوسيوس المهاجر باعتباره مالكا للامكنة، بقدر ما كان يكتب اوهام رؤيته الاستعادية لهذه الامكنة التي لم ينتصر عليها ابدا، لذلك هو يدّون نص هزيمته الانطولوجية امامها ويسمي كتابته بـ(نصوص من بريد عاجل للموتى).

الشاعر كمال سبتي الخارج من ازمة ألامكنة الى ازمنة متشظية، اذ هي تتحول الى منافيه التعويضية التي يقترح مواقيتها وجهاتها. اذ هو النازح الجنوبي بكل ملامحه القروية باحثا عن خلوده الشخصي، وحالما بعالم يتسع له دائما، هذا العالم لم يرث منه الاّ شفرات منافيه، تلك التي ظلت تتمظهر في نصوصه وكأنها تعيش لصق ذاته، تؤثث المكان وتمنحه احساسا استيهاميا بالانوثة وحكمة الشرق وتجعل النص ينزاح الى الوثيقة التي تتلمس الاشياء والمذكرات وتجعلنا امام جسد الشاعر المكشوف للحرب وخرائب الامكنة التي لا مناص سوى الهروب من وقتها الملىء بـ(السعادات الغبية) ورغم موحيات هذه المدينة الاسطورية واحتضانها لمدونات وأثر ونصوص والواح عميقة وقارّة تؤله البطل وفكرة الخلود الاّ ان الشاعر ظل يحمل في منافيه رائحة هذا الخلود من خلال رقى ايقوناته ورسائله الى موتاه، وكأن هاجس الكائن المنفي في الداخل وفي اللغة وفي اسراراللذة ظل يطارده، وهو يبحث عن تعويضات وايهامات ومدن غير ارضية وربما نصوص تشبه (خطابات المودة). هذا ما يجعل كمال سبتي المولع بالاصوات والضجيج والاحتجاج امام عالم اخر من سايكولوجيا العزلة/الشرط القاسي للمنفى/ والتي تدفعه لاصطناع المزيد من الامكنة التعويضية، وكتابة نصوص الاصوات العالية، تلك التي تتبدى في رؤاه المفارقة، او في البحث عن عوالم مضادة لها حكمة الزمن ولها سعة ألامكنة التي تنسحب تحت معطفه لتضخه بشيء من رائحة غبار الناصرية. ولعل مجموعته الشعرية (حكيم بلا مدن) كانت تحمل هذا الهاجس مثلما تحمل احساسا استعاديا بالانتماء، فالشاعر يشبه الحكيم الصيني الذي يسافر الى كل المدن الصينية ليحصل على (عشب الشعرية) وهو ما يقابل رحلة البطل السومري القديم كلكامش للبحث عن عشب الخلود. الشاعر يتلمس في رحلته نحو هذه ألامكنة شروطا قاسية لاستدلال المعنى وللكشف عن ان هذه ألا مكنة لا تعدو سوى حاضنة للمزيد من الاوهام، لانه مجذوب في اعملقه الى امكنة غائرة او صورة الحياة الحقة الغائبة التي قال عنها (رامبو) انه يستعير منها روائحه وصباحاته ومودته وحكمته القديمة، والبطل الشعري يكتشف ان هذا الخلود الافتراضي يوجد خارج العشب تماما، اذ هو يكمن في العمل والوجود والحرية والحب والمعرفة والصداقة. وحين حاول الشاعر كمال سبتي الاشتغال في هذه الفضاءات وتقديم صورة اكثر امتلاء لشعريته من خلال دلالة المنفى والسفر الاضطراري اليه، فانه استحضر بالمقابل رؤى ومثيرات ومغامرات اكتسبت سمات شعرية من خلال رغبة الشاعر القديمة بالتخلص من المهيمن الى السياحة في الزمن والمكان والتخلص من الرموز القهرية في النصوص والعلامات، وهذا ما يجعل كتاباته تبحث عن معنى ازلي ربما هو معنى الجسد او الحرية او الحكمة.

استعارة الشاعر للحكمة الصينية في استحضار الامكنة وموت المنفى لا تعمد الى اقتراح مقابل يوظفه الشاعر كبنية تعويضية عن الاغتراب او يتلمس العوالم الاشراقية للحكمة الشرقية التي يجعلها الشاعر فضاء للاستعارة، وانما هي محاولة اراد من خلالها ان يستحضر شفرات (اللغة الشعرية) ليتماهى معها ازاء مهيمنة المنفى ونصها الوضعى التعويضي، ليتجاوز ولو وهما بأنه الكائن الملعون في المنفى..

هذه المشاكلة للكشف عن القيمة الانسانية والمعرفية للامكنة التي غادرها اضطرارا، تحولت الى فضاءات شعرية غامرة ومفتوحة، فهو لم يسوح في الامكنة مثل عادة الشعراء كرامبو او الشاعر الصيني الذي يتلبسه كقناع او مثل ابطال اسطوريين كاودوسيوس او كلكامش، لانه ظل مشدودا الى عوالمه القديمة الغائرة في روحه، والتي ظلت تمارس عليه حكمتها الخفية وتشده الى مجهولها، فهو ظل لها نص الحنين النوستالجي، ويكتب لها ايضا المراثي ويستعير لغة الخطاب الاتصالي بوصفه (بريدا عاجلا) ليظل من خلال وهم هذا البريد رائيا عميقا لكل سحرية الفصول الاربعة.... لكنه ظل ايضا يتعاطى مع موضوعة المنفى بمشاطرة شعرية خالصة.

يقول الشاعر كمال سبتي في احد احاديثه (انا شاعر، اقول عن نفسي، هربت من البلاد لانني شاعر. وافتخر امام نفسي بانني ما سعيت في شيىء الاّ وكان من اجل الشعر) ما يقوله الشاعر يمثل وعيا متقدما باهمية وظيفة الشعر في صنع مكونات الوجدان، مثلما يمثل عالما تعويضيا في اللغة والوجود، اذ له فرادة غريبة في تأهيل الكائن لممارسة القوة واللذة والخراب والتحقق في وجود الاشياء. بهذا المعطى يطلق الشاعر لعالم الكتابة احساسات تحيله الى ذاته الاولى التي حملت معها توقا غريبا للمغامرة وللتعاطي الايهامي مع الامكنة كونها دارة للحروب ومقابر محمولة للموتى.. وبهذا يكوّن الشعر ايضا وجودا اخر ومناخا تسعيد به الطبيعة والكائن لذتهما في التكرار والخصب. يقول كمال سبتي ايضا عن هذه الطقوس (والشعر هنا تربية وعادات وسلوك وافكار وقراءات وتاريخ ونظر وكلام.. فحملته بهذا كله اقيس العالم به.. وما كان يقاس.. وهذا كله خراب لي قبل ان يكون خرابا للاخرين) ومن هنا فان الشعر يتحول الى حساسية طاغية تتملك الشاعر، والى شهادة مستعادة على طفولة الامكنة وتحولها في الرهافة والصعوبة، فهو يملك طاقة الرائي ويملك منظورا شعريا له خاصية التلصص، والكشف والوقوف امام مسارب شعرية تتاسس على اساس وعي المستقبل في كون هذه الكتابة ستكون محاولة لصناعة الاثر الذي يمكث في الروح وفي اللغة. هذه التركيبة تضع الشاعر امام كيمياء الكتابة ذاتها باعتبارها جلبة في فضاءات الزمن وحرية في التعاطي مع النسق واحتيال على لعبة الواقع. وفي اطار محايثة الشهادة / رؤيا الشاعر التي تحولت الى قرابات صورية وتخيلية في سيرة المكان/ المنفى وفي سيرة المكان/ الطفولة، اذ يحاول الشاعر ان يعيد انتاج لعبة المنفى وان يحولها الى تحققات واستعارات تجدّ الاركيولوجيا اللغوية عبر المزيد من الاستعارات في حفر الذاكرة والبنيات السطحية والعميقة بحثا عن عوامل اكثر انسانية للحياة الحاسمة كما يسميها الشاعر. لذلك فان اعادة قراءة المنفى وكتابة المعنى فيه تكون كمن يبحث عن الجوهر، وهذا ما يجعل الشاعر ينزاح باتجاه آلية تفكيكية تعود به الى (وقت رامبو) أي الى خروج شعري يماثل المعادل التعويضي للمنفى فى لا براءته، والتماسا الى اصطناع مكوّن تطهيري ينقذ الشاعر من قصدية منفاه ومن عدميته، وان يكون هذا المطهر عالما شبيها بما بعد الطوفان، اذ يتأسس الخلق ويكون الطريق الى الحياة حكمة مقروءة كما يصفها الشاعر.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي حسن الفواز


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni