عدن اسم قديم، ورد ذكره في الأزمان الغابرة وتردّد صداه في الصحف الأولى. في القرآن الكريم وردت كلمة عدن غير مرة، في سور عديدة، منها: الكهف، والتوبة، وطه، ومريم. في جميع المواضع أضيفت اليها كلمة أخرى، هي "جنّات"، لتكون "جنات عَدْن".

يحلو للمفسرين واللغويين نطق عدن السالفة بتسكين الدال، كمصدر من الفعل عَدَنَ، بمعنى أقام، وجنّات عَدْن، بمعنى جنّات مقيمة. وهم بذلك يصرّون على طرد عَدَن من جنّاتها. هناك تعليل لا صلة له باللغة والتفسير النصيّ في شأن معاقبة عدن وطردها من الجنة. يعلل هذا الفريق الجاحد الأمر استناداً الى المنطق، فيقول إن هذه المدينة الصخرية، تخلو من أيّ أثر يدل على وجود جنّة سابقة. هناك من لا يعتقد بذلك ويصرّ على ربط عدن الحالية أو القديمة (أدانا) بالجنّة، مُرجعاً سبب جدبها الحالي الى عوامل بيئية، أو سياسية أو اجتماعية، وربما نفسيّة أيضا! ويقال أيضا إن مدينة عدن الحالية ليست هي مدينة عدن القديمة، أو إنها لم تكن في الموقع ذاته، والأقاويل كثيرة.
أما العهد القديم فيرى في سفر التكوين، الإصحاح الثاني، أن موضع عدن يعني مكاناً محدداً، هو المكان الذي أقام فيه سيدنا آدم قبل أن يُطرد ويأتي الى الأرض. يحدد العارفون بالأمور مكان الجنّة المذكورة بالمنطقة الواقعة بين دجلة والفرات. وقد وردت التسمية "جنة عدن شرقا"، كموضع لإقامة سيدنا آدم قبل أن يبدي ضعفاً أنسياً، ويختبر مذاق الغواية. تلك الحادثة المشؤومة، التي تسببت في إقصائه عن الجنة، ودفعه نحو "اللاجنة" قسراً، أظهرت للبشر أن جدّهم ما هو إلا بشر مثلهم، وأنهم بحقّ خارجون من صلبه. لذلك يتحسّر بعض الناس، وهم يتذكرون تلك الهفوة البشرية التي ارتكبها أبو البشر، متمنين لو أن جدّهم كان أكثر عفة وانضباطاً، لجنبهم مغبّة النزول الى الأرض ورؤية الأشياء العجيبة التي توجد فيها كالفقر، والخيانة، والحروب، والشرط، والأحزاب والديموقراطية، والعولمة، والأمراض الخبيثة، والرؤساء البلطجية، وغيرها من العجائب الدنيوية. لكن ذلك النفر الحالم - في واقع الأمر هم أغلب سكان المعمورة- نسي أمراً عظيماً لولاه لما وجدنا، نحن البشر، بالشكل الذي نبدو فيه الآن، ولكان من المحال أن يظهر بيننا شعراء كهوميروس، وأبي العلاء، والبردوني. لو لم يُطرَد جدّنا من الجنة، بعدما أكل من شجرة المعرفة فتفتحت عيناه وأصبح كالله عارفاً بالخير والشر، كان من المحال أن يرى هوميروس الأعمى سقوط طروادة، وأن يبصر ضرير المعرّة تخوم العالم الآخر، وما كان في مقدور اليمانيّ الكفيف أن يتأمل إشراقة بلقيس، الضائعة في رمال الزمان!
وإذا كنا نحن العرب، نخلط في نطق الكلمتين، وفي المعنيين. فقد وجد الأوروبيّون حلاًّ محكماً لا يقبل التأويل،  وغبياً لا يرتضي إلا بطرد عدن من الجنة. فقد كتبوا عدن الآرامية الموجودة في الجغرافية المقدسة EDEN، وعدن العربية، التي أضاعت جنتها ADEN، وبذلك حلّوا اللغز المحيّر، الذي أرّق عقولنا. لكنهم، وهم يفصلون بين عدن وعدن، قطعوا شرايين الحلم، ووأدوا قدحة الخيال، ودمّروا كل الطرق السحرية المؤدية الى مملكة الله العالية.

فوّهة البركان

عند مقارنة النص القرآني بنص العهد القديم، نجد أن القرآن استخدم "جنات عدن" مادة للترغيب والإغراء، للذين يحيدون عن طريق الضلال، أما العهد القديم فاستخدم "جنة عدن شرقاً" كنوع من التذكير بالخطيئة (الغواية) والمعصية. ويعتقد بعضهم أن اختلاف الصحف الأولى يشمل مواطن أخرى. فإذا كان الله غرس جنة عدن في موضع محدد يقع بين الفرات وجيحون وفيشون وحداقل، كما جاء في الإصحاح الثاني من سفر التكوين، فإن سورة طه تشي بأمر آخر، أكثر عولميّة، وربما أكثر كونيّة. فقد قال الله لآدم وزوجه: "اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو". "اهبطا"!، لا اخرجا، قال الله. ترى من أي علياء، وأي الطبقات السبع هبطا؟ وكيف أمكن عدن أن تكون في الأرض وفي سواها في الوقت عينه؟ فلو كانت عدن هي الجنة بحقّ، إذاً فهي موجودة خارج الأرض، التي نُفي اليها سيدنا آدم. فعدن ليست عدن، وإذا كانت هي نفسها، فهي ليست نفسها التي نتحدث عنها. بهذا المنطق المعقّد، المريب، ولكن الصارم، يصرّ البعض على تأكيد فكرة رفض قبول عدن في الجنة، ولا نعرف الى أي مدى هم محقّون في ذلك!
ربما يكون الإنكليز أكثر واقعية من غيرهم - ومما لا شك فيه أنهم كانوا كذلك، وكان لا بد لهم أن يكونوا واقعيين، لكي يتمكنوا من إرسال جيوشهم خلف البحار التي لا تغيب عنها الشمس ليلاً. حينما نزل الإنكليز على شواطئ عدن، وأخمدوا المقاومة المحدودة، البدائية، الباسلة، التي أبداها سكان عدن، الذين لم يكونوا سوى عدد ضئيل من الصيادين الفقراء الشجعان، الذين أخذتهم العزّة وهم يرون أرضهم تدنَّس من قبل محتل أجنبي، وجد الإنكليز أنفسهم يعيشون في قلب بركان، في فوهته تحديدا. لذلك أطلقوا تسمية "كريتر" على الجزء القديم من عدن، الذي ظل حتى اليوم يسمى عدن لدى سكان المدينة، تذكيراً بأن هذا الجزء من المدينة هو نواتها القديمة. هذا الحيّ، على رغم اسمه الأجنبي، إلا أنه شقيق لحيّ عربي آخر، هو حيّ القصبة في الجزائر. فمن هذا الحيّ سمع العالم في أواسط الستينات أصوات الرصاص الذي تبادله ثوار الجبهة القومية وثوار جبهة التحرير مع جنود المستعمرين الإنكليز.

عدن بلا جنّة

تفتش في عدن عن الجنة فلا تجدها. أين توارت أشجارها؟ وأين اختفى عرفها العبق؟ أين الطيب والبخور؟ أين الند واللبان، ومدارس أبناء البدو الرحّل؟
ذلك وهم، فلا جنّة في عدن!
حينما مرّ القمر الاصطناعي في سمائها، وصوّرها من أعلى، من المكان الذي نظرت فيه اليها الكتب السموية والملائكة يوماً ما بعيون ملوّنة، أظهر القمر الاصطناعي دائرة عميقة محفورة في الصخر، تحيط بها مياه البحر المالحة من جهات عدة، يشاركها في الطوق سهل من الرمال المتطايرة، يحدّ طرفها الشمالي. أين هي الجنّة إذاً؟
يصاب المرء بالخيبة وهو يبحث عن أثر للجنّة في عدن. في نهاية المطاف يضطرّ،  مكرهاً، الى التسليم بصحة آراء المفسرين والرواة وعدسات الأقمار الاصطناعية، ويتحزّب لحكمهم القاسي، القاضي بطرد عدن من الجنة، واعتبار تلك الجنة مجرد وهم نشأ في العقول ولبث فيها، حتى كاد أن يغدو حقيقة غاوية.
لكن الثابت تاريخياً أن جند القائد الروماني إيليوس جالوس زحفوا نحوها عام 25 قبل المسيح، وتمكنوا من ايجاد موطئ قدم لهم في المدينة، وبعد فشل الحملة تركوا وراءهم جزءاً من قواتهم في عدن. ومرّت جيوش الحبشة من هنا عام 525 بعد المسيح، قبل أن تهزمهم طيور السماء وتبدد شملهم. في عدن يستطيع المرء أن يجد أثراً لمرور جيش الأحباش. ففي عدن تعيش حتى اليوم فئة اجتماعية مميزة، تسمى "الأخدام". أولئك قوم من السود، يعملون بالأعمال الوضيعة، ويحتكرون تلك المهن، كجزء من تقسيم العمل السائد في القرون القديمة والوسطى. ويقال في عدن إنهم من بقايا ذلك الجيش المارد، الذي عبر البحر الإفريقي ساعياً نحو موطن الأنبياء البيض.
إذاً نعثر في عدن على خيط من التاريخ، في وجود فئة الأخدام، الذين تمتعوا، للمرة الأولى في تاريخهم، بالمساواة في الجنة المضاعة. لكن أين الخيول؟ أين طريق البخور؟ أين شواهد القبور؟ أين رفيف أجنحة الهدهد؟ أين جند إيليوس جالوس؟ وأين المرأة التي أحرقت شيذرها (عباءة عدنية)؟ تسير في عدن فلا ترى شيئاً. وإذا كانت الجنة وهماً، فهل يعقل أن يكون ذلك التاريخ المدوّن للمدينة القديمة: عدن أو أدانا، هو الآخر وهماً! ذلك محال. ولكن أين ذلك الشيء الذي ليس بمحال؟ تفتش عنه في عدن فلا تجده، وتفتش عن عدن فيه فلا تجدها!
لست وحدي من سعى باحثاً عن الجنة في عدن، كثيرون فعلوا ذلك، وربما أكون أنا آخر سلالة الحمقى أو العقلاء، الذين فعلوا ذلك. فقبلي نزل الكابتن البريطاني هنس في 19 كانون أول 1839 على شواطئ صيرة في عدن، وأباد المقاومة غير المتكافئة، التي أبداها السكان، وأضاف المدينة الى ملكية التاج البريطاني. ولم يكن هنس آخر من حلم بملكية جنة عدن، بعده حلم آخرون، كلٌّ بطريقته. حلم الغزاة أحلاماً مدججة بالرماح والبارود، وحلم الثوار أحلاماً ملوّنة عاصفة، وحلم المفكرون بعدن عاقلة. أما الفقراء والمغلوبون على أمرهم، فلم تتح لهم الحياة فرصة تغيير حلمهم القديم، الذي يدركون أنه لن يتحقق أبداً. فما انفكّ  حلمهم سجيناً في قمقم المعجزات السهلة الممتنعة، التي سيصلح بها سيدنا آدم هفوته القديمة، لكي يضمن لما بقي من البشر حق الصعود الى الأرض الإلهيّة.
من الأوروبيين، غير المحاربين، مرّ من هنا، في شوارع عدن، وفي حي التواهي، حيث يقع الميناء، شاب غريب، نحيل، جاء يبحث عن شيء مفقود في قلبه، شيء لا يعرفه. أتى من فرنسا البعيدة، بعدما كتب أشعاراً دوّخت الناس في أوروبا، لما تمتعت به من عفوية وجرأة فنية، وغموض ساحر، وخروج على كل المقاييس. كتبها وهو فتى يبعثر ذرّات روحه في هواء الكومونة، وفي أغبرة التشرد. من دون سبب، وجد نفسه يبحث عن تفاحة آدم، وهو في طريقه الى إفريقيا. حينما قضم التفاحة المسلحة مات مسموماً وهو يردد صيحته، التي لم تزل تتردد في أسماع بول فرلين: البحر! بعبور البحر ودّع العالم شاعراً هجر الشعر وملأ روحه الشقيّ بالبن والبنادق وأنياب الفيلة، ودّع أرتور رامبو.
لا جنة في عدن! إذاً، أين يبحث المرء عن الجنة؟
في عدن ضاعت الجنة التي ذكرتها الكتب والسموات، وتناقلتها الألسن، ولم يعد المرء يجد فيها سوى حرائق من ذكريات، مرّة المذاق.
ولكن، كيف تضيع المدن؟
كيف يُمحى أثرها؟ كيف يتبخر جسد الحقيقة في فضاء الغيب ويذهب الى العدم؟
في دروب الجنة المختفية خلف غابات الخيال، مرّ كثيرون. غزاة وطغاة فاتكون مرّوا، واختفى أثرهم. حفاة حالمون مرّوا وضاعت أحلامهم في غبار الطريق.
هدهد سليمان مرّ قريباً من هنا، علي بن الفضل القرمطي مرّ من هنا، عبد العزيز الثعالبي مرّ من هنا حاملاً ابتسامة "تونس الفتاة"، رعيل المعارضة اليمنية الأول: دماج، والزبيري، والموشكي، والنعمان، والشامي، وأبو راس مرّ من هنا، عبدالله وعلي باذيب مرّا من هنا، نقابات مسواط والسلفي مرّت من هنا، ثوار الجبل وفدائيو المدينة مرّوا من هنا. قصص محمد أحمد عبد الولي وعبدالله سالم باوزير وأحمد محفوظ عمر مرّت من هنا، سكّيرو اتحاد الأدباء الرائعون مرّوا من هنا، التعليم الإلزامي مرّ من هنا، الطب المجاني مرّ من هنا، السكن الرمزي مرّ من هنا، فتيات فرقة الرقص الشعبي مررن من هنا، أغاني أحمد قاسم والمرشدي ومحمد سعد عبدالله وبلفقيه مرّت من هنا. كثيرون مروا، مثل الأحلام، من هنا.
قد يضيع الحالمون. أما الحلم، فسيظل جمرة تتقد في القلوب، قد تنطفئ حيناً، لكنّ وهجها السحري سرعان ما يندلع مثل الحريق. لقد ضلّت أقدامنا الطريق الى مملكة الحلم مرات ومرات، لقد تهنا ونحن نحمل أجسادنا الجريحة وضمائرنا المثقلة بالندم والأحلام الموؤودة. لكننا نرى في الشفق البعيد فتية حالمين، يحملون أفئدة خضراً، وأجساداً ماردة، نراهم يسيرون على جسر الحلم، الذي يقود الى الجنّة المضاعة، الجنّة المتوارية خلف أدخنة معارك الطغاة.