... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
محمد غازي الاخرس و(خريف المثقف فـي العراق)

علي حسن الفواز

تاريخ النشر       28/11/2012 06:00 AM


يطرح كتاب الناقد والباحث محمد غازي الاخرس الموسوم بـ(خريف المثقف في العراق) مستوى معينا من القراءة النقدية للتاريخ المعاصر، من خلال نقد الظواهر والسلوك الثقافي للجماعات العراقية، فضلا عن إثارته للعديد من الاسئلة التي تلامس مرحلة مهمة من تاريخ العراق السياسي والثقافي. أهمية هذه الاسئلة تكمن في مقاربتها لإشكالات التحولات العاصفة التي شهدها المكان العراقي السياسي، والمكان الثقافي، وعلائق هذه الامكنة بالمثقف بوصفه الكائن الاكثر تمثلا لإرهاصات الانهيار الذي مسّ بنية الدولة الشمولية، والكائن الاكثر انشدادا للارهاصات التي استشرفت ملامح الانهيار العميق للهوية الثقافية الجامعة وللمكان الثقافي المهيمن، اذ بات المثقف العراقي امام انهيار مقابل لرمزية المكان الوطني، وانخراط المثقف (الوطني) التائه في الكثير من المواقف التي وضعته في لحظات فادحة من الطوارئ، حيث هي لحظات وقوفه المريع والقلق ازاء سلسلة من الخرابات التي مست الايديولوجيا والخطاب، ومثيولوجيات السرديات الكبرى التي صنعها الدولة خلال عقود كأوهام وأطر وقوانين وصراعات اصطنعت لها بالمقابل اشكالا ثقافية بشرت بموت الصورة السردية للمثقف الثوري، وحضور المثقف التابع، فضلا عن الاستيهام مع صورة غير واضحة الملامح للمثقف الاصولي الذي يبدو وكأنه صورة تعويضية للنموذج الصياني/ النموذج الخارج من المركزيات والحافظ لماتبقى من اوهام المكان الوطني والعقائدي، والذي أحسب أن موته، هو ماكان ينبغي للكاتب لاخرس أن يختاره للاشهار عن مواجهة مفتوحة مع النموذج الشائه لظاهرة المثقف (الوطني) الذي ظل خارج طرق الحرير دائما، ومتماها مع اوهام خريفه الاخير.

سعى الباحث لوضع معالجاته التوصيفية والنقدية عبر معاينة أزمة المكان وأزمة المثقف من خلال مقاربة مرحلة خطيرة من تاريخ العراق، اذ وضع نموذج (مثقفه) أمام انواع متخيلة من الجحيم الدانتوي/ الوطني، بدءا من جحيم المكان وجحيم الهوية والجماعة، وصولا الى جحيم المنفى. لكن هذا الجحيم الملتبس بدا وكأنه يضع ضحاياه بعيدا عن استقراء صورة الضحية في المكان العراقي الوطني الداخلي، اذ استعان الاخرس بوثائق المنفى، ويوميات المثقفين الهاربين الى حرياتهم، وهذه الاستعانة كثيرا ما أسبغت على مدونات الكتاب نوعا من اسقاطات الصراع المحشو بمراثي الإيديولوجيا، والتي عاشها المثقف المنفي بنوع من الفوبيا وهو محمول على النكوص دائما الى اوهام كبرى واحلام كبرى، اذ ظلت هذه الاوهام تطارده وهو بعيد عن يوميات الحرب والحصار والقمع، وكثيرا ماكان يصنع البعض من المثقفين اوهاما تعويضية لتبرير بطولة النفي، وبطولة الكتابة التي تغوص عميقا في سايكولوجيا المنفى.

غاب عن الكتاب الكثير من الاستقراءات التي ينبغي ان تلامس ازمة المثقف في الداخل، اذ عاش هذا المثقف عقدة الضحية وأزمة وجوده المرعب، مقابل رعب السلطة ذاتها التي بدات تتفكك منظومتها السياسية والايديولوجية والتنظيمية، وبات وجهها الامني البشع هو الحاضر في الهيمنة والحكم والسيطرة وفي مواجهة أي استنفار داخلي على مستوى اللغة والصورة، او على مستوى انتفاضات ساخنة. هذا الغياب انعكس على موضوعية الكتاب في رصده للتحولات الحادثة في العراق مابعد 1990، والتي تحتاج الى مراجعة للعديد من الكتابات التي يمكن ان تجعل الباحث امام رؤى اخرى في الكشف عن محنة المثقف المرعوب، وليس امام توصيف خريفه الذي احسبه توصيفا استعاريا، قد يكون الاقرب الى صور مثقفي المنفى الباحثين عن السكنى القلقة ازاء حرياتهم، واوطانهم المجازية، تلك الاوطان الطارئة التي اصابتهم باعراض الخريف المبكر، اذ هم المسكونون ازاءها بنوستالجيا عميقة، وسرديات لم تغادرهم اوهامها كثيرا، كما ان الكتاب تعالى على تأشير موضوعي للكثير من الاحداث المهمة التي حدثت مابعد 2003 في العراق على مستوى العلائق الثقافية، وظهور جماعات ثقافية مختلفة المشارب والاتجاهات بين الليبرالي والاسلامي، والتي انعكست على المشهد الثقافي، خاصة بعد تشكيل اللجنة التحضيرية لاتحاد الادباء ، واجراء الانتخابات الموسعة التي تجري لاول مرة بعيدا عن هيمنة السلطة.

يبدأ الاخرس كتابة من استشراف صادم للحظة الانهيار الوطني، اللحة الباثة على التفجع، حيث(مزاج) الموت الغرائبي الذي هيمن على الشارع العراقي مابين عامي 2006-2008، وبكل ماحمله هذا الموت العاصف من تفجرات ألقت بالروح العراقية الى فضاءات (عنفية، بوليسية) كما يسميها الأخرس، اذ يقول بانها تقف تحت مجهر( القناص الذي وجدتني استعير قناعه دون ارادة مني).

شفرة خريف المثقف هي شفرة لسيمياء المكان العراقي، ولازمة كائناته التي تعرضت خلال عقدين من الزمن الى عملية محمو وطرد غرائبيين. فالكاتب ينطلق بدءا من اللحظة الفارقة لغزو الكويت، حيث تفجر بعد هذا الغزو المكان، واطيح بالكثير من شواهده، فهذه اللحظة المفصلية تحولت الى عتبة للخراب، خراب داخلي اضطربت فيه الوقائع واليوميات، وانكشفت الحياة العراقية على تراجيديا ساحقة، تهشمت تحت وقائعها ومروياتها الذات العراقية المضطربة والفاقدة للامان اساسا جراء تداعيات مرحلة مابعد الحرب العراقية الايرانية، مثلما تهشمت تحت رعبها اوهام المكان، واحلام المثقفين، فماعادت السلطة قادرة على مواجهة الهزيمة النفسية والتاريخية للعسكرتاريا العراقية المخذولة بعد الانسحاب المذل، والخسرانات الكبيرة للمزاج والثروة والاطمئنان والوجود، كما لم تعد قادرة على الحفاظ على شكل المؤسسات التقليدية للدولة، بما فيها المؤسسات التقليدية التي صنعت لها طوال عقود عادات سيئة في البذخ والتمويل وشراء الذمم في الداخل والخارج، وهوما خلق ازمة خوف لهذه الجحافل التي تعودت على هذه العلاقة الرخوة، مما دفع الكثيرين منهم للهروب بحثا عن رخو اخر، حتى وان كان معاديا، وهذا ماحدث فعلا، فقد تحولت عمان ودمشق الى نقطتي جذب لاستقطاب هذه القوى الهاربة وادخالها في النسق المضاد للسلطة، حيث كانت جريدة الزمان، وحركة الوفاق الوطني ملاذين لتنظيم هذه الجماعات ودعوتها للكتابة المضادة للسلطة، حيث تحول تابعي الامس الى معارضة اليوم، والى الوقوف عند عتبات المنظمات الدولية بحثا عن اللجوء الانساني او السياسي.

اختيار الاخرس للحديث عن سيرة المثقفين العراقية حددها بين زمنين للانهيار، الانهيار الاول يكمن في مرحلة مابعد الغزو العراقي للكويت عام 1990حيث الانهيار البنيوي الكبير للوقائع والمكان والوجود والنموذج، والانهيار الثاني يكمن بمقتل المثقف العراقي كامل شياع الذي يمثل الصورة الاصلاحية لنموذج المثقف العراقي الحالم بترميم الخراب الثقافي وتجاوز عقد الخريف، ذلك الخراب الذي تركه الاستبداد طوال اكثر من ثلاثين عاما، والخراب النفسي والوجودي الذي تركه الاحتلال الامريكي للعراق.

وحين يتحدث الاخرس عن هجرة المثقفين العراقيين الى المنفى، فانه يتحدث عن تعقيدات هذا المنفى وعن وثائقه ويومياته، لأنه شاهد على هذه الهجرة، ومدون للكثير من يومياتها عبر عمله في مجلة المسلة التي كانت تصدر في عمان. الهجرة الثقافية لم تكن هجرة منضبطة، كانت الاقرب الى العشوائيات، حيث يختلط الخوف بالحزن بالبحث عن الحرية، او بالتخلص من فكرة الضحية او الماضي الذي ظل يلاحق العديد من المثقفين المتهمين بالانخراط في مؤسسات السلطة والترويج لادب الحرب او ادب الرمز الحاكم، وهو ماحدا في مرحلة لاحقة بشخصيات غامضة او مدسوسة لاصدار بيانات فيها العديد من الاسماء المتهمة بهذا الانخراط، وتهددهم بالموت لانهم تملقوا حكم صدام حسين الذي حكم حزبه العراق مايقارب الاربعين عاما.

هذه البيانات وغيرها تعكس الهشاشة النفسية للمثقفين العراقيين، وعدم قدرتهم على مواجهة مرحلة مابعد سقوط النظام السياسي عام 2003، اذ استشرت سلوكيات ونقائض تقوم على وهم (صناعة العدو) بما فيهم العدو الذي حاول ان يهرب ويندمج مع مجتمعات المنفى، مثلما يعكس ازمتهم في صناعة مشهد ثقافي يقوم على التصالح والتسامح، وبناء المؤسسات القادرة على استعادة المثقف الغائب والمطرود، بل ان اكثر المثقفين العراقيين ظلوا امام متماهين مع احزابهم القديمة في المنفى ويعيشون عوالمهم الرومانسية البعيدة عن أي شكل من اشكال النضال الاجتماعي والسياسي والثقافي في الداخل العراقي المضطرب، أو وجد بعضهم في الاحزاب الجديدة ومؤسساتها الثقافية الدعوية ووسائل اعلامها مجالا مفتوحا للانخراط في لعبة تكرر نفسها في استعادة صورة المثقف التابع.

عتبات مدن المهجر الثقافي بيروت، عمان، دمشق، كوردستان تحولت الى جغرافيا لصناعة اوهام كبيرة، والى تدبيج اكاذيب كبرى، اذ حفلت ملفات منظمات الامم المتحدة لشؤون اللاجئين بالكثير من هذه الاوهام والاكاذيب، فالكثير منهم تحولوا الى ضحايا، والى مزوري وثائق تبرر دور الضحية، كما لعبت العديد من القوى السياسية اليسارية بشكل خاص دورا مهما في الترويج لهذه الاوهام للاصطناع مبرر مقبول واخلاقي للمنفى الثقافي.

المنفى الثقافي تحت هذا المعطى، وعلى وفق ما استقرأه الاخرس لم يكن منفى متوازن، كان الاشبه بساحة معركة خاسرة، الكل يبحث عن الهروب، والكل يبحث عن الغنائم، والكل يبحث عن الخلاص والاطمئنانات المغشوشة، هذا البحث لم يخضع للاسف الى قراءة وفحص ومراجعة لا من المثقفين العراقيين انفسهم، ولا من قبل منظمات الامم المتحدة، ولا حتى قبل الدول العتبات او الدول التي تحولت الى مهاجر، وجلّ ما تمخض عن هذه الهجرات هي كتابات محدودة ذات بعد ادبي وليس بحثي، او كتابات مسكونة بالحنين والوجع والاوهام المبالغ بها.

وأدهى ما في هذا الامر ان البعض حاول ان يصطنع هوية ثقافية ملفقة للمنفى، اسماها ثقافة الخارج، مقابل افتراضي لثقافة الداخل، والتي امتدت لتشمل ادب الداخل والخارج او فن الداخل وفن الخارج، والبعض الاخر قرن هذا الاصطناع بالعديد من الوثائق والكتابات التي تمثلتها الافكار الجديدة، رغم أي قراءة جادة لظاهرة المنفى العراقي ستكشف انه كان منفى غير رفعال، وان عجز عن صناعة هوية ثقافية تتناسب والعدد الكبير من قبائل المهاجرين، اذ ظلت اغلب الكتابات مسكونة بالحنين والنكوص والاستعادة وشيوع مظاهر القلق والخوف وعدم القدرة على الاندماج مع الآخر ومع حضارته وثقافات مدنه، والفحص النقدي للكثير من النماذج الادبية (سردا او شعر او مسرحا او غناء) سيكشف عن نزوع اغلب هذه الاعمال الى الاستعادة الصوتية، والى البحث عن الماضي، ربما بقراءة اكثر جرأة، وكشفا للمسكوت عنه، لكنها تظل مسكونة بهاجس يوميات الامكنة/ المدن/ المقاهي/ الشوارع/ الصراعات، ومسكون ايضا بسايكولوجيا الشخصية المضطربة بعصابيتها وبحثها الدائب عن يقين هارب، وحتى كتابات لاسماء مهمة مثل فاضل العزاوي او سعدي يوسف ظلت مسكونة بهذا الانغمار العميق، وكشوفاته الاستعادية، وتلصصه على الامكنة الجديدة من خلال مرقاب العين القديمة، رغم الادعاء بان الحنين تحول الى ظاهرة سلبية، وان كائن المنفى هو كائن كوني ومتسامي وعلاقته بالامكنة ذات بعد استعمالي وليس نفسيا.

في الفصل الربع من الكتاب يضع الكاتب قارءه امام لحظة تاريخية، لحظة سقوط الحكم السياسي المركزي، اذ يفجر هذا السقوط قراءات مفتوحة للعديد من الباحثينن حيث يسلط الكاتب الضوء على جدل مفتوح وطويل مابين الكاتب العراقي كنعان مكية وادوارد سعيد، تتمثل به كل ازمات زوايا النظر للمثقفين العرب، فادورد سعيد يتخلى عن نظرته المتعالية لمثقف مرحلة مابعد الكولنيالية الذي يعرف الكثير عن مظاهر الظلم السياسي والفصل الانساني على اساس العرق والطائفة والهامشية، ويتحول الى مثقف قومي يدافع عن النظام والاثنية الخالصة، وكذلك تبرز طروحات كنعان مكية بوصفها طروحات المثقف الساخط على تاريخ هيمنة المركز الطائفي والقومي، والذي يقترح لظهور (عراق لاعربي)كما يرد في الكتاب، اذ ان العراق العربي كنا يعتقد مكية كان عراق ازمات وحروب ومهيمنات وتغييب للهويات والتعددية.

ويستعير الكاتب لمقاربة مثل هذه الافكار طروحات لها علاقة بتاريخ ازمات الهوية والحقوق المدنية للمكونات المجتمعية، اذ يجد في كتابات انطوان سعادة وساطع الحصري وسليم مطر مجالا لاستقراء اختلالات تاريخ العيش المشترك مابين هذه المكونات، من منطلق شيوع نظرة التعالي، وفرض الحكم المركزي الذي يمركز معه قوة القومية والطائفة والدين، وبالتالي فان اية نظرة لمفاهيم الحوار والاستحقاقات الوطنية الاخرى ستكون نظرة قاصرة وغير مؤثرة على العلائق العامة التي تحكم الواقع السياسي والثقافي والديني والتربوي.

يملك الكتاب اثارته في التعاطي مع هذه العقد من خلال ماتفجر تحت ايقاع الوقائع من المشكلات المسكوت عنها في تاريخ العراق السياسي، وتاريخ الدولة العراقية التي قامت اساسا على مجموعة من الازمات والقيم، والتي لم تسطع ان تضع لها قاعدة انسانية تشرعن التعددية والتنوع في الحياة العراقية، خاصة ازمة الهويات وقبول الاخر على اساس قاعدة المواطنة والمشاركة، فاختلال العدل الاجتماعي الذي مارسته الانظمة السابقة كان البؤرة التي تفجرت عندها الاضواء، وانكشفت من خلالها ازمات الدولة والشخصية والمكان، والتي فتحت الباب مشرعا لصناعة ازمات ثانوية، ازمات امتدت الى العقل الشعبي، لتصنع منع عقلا عنفيا، عقلا طاردا، يعتاش على مركزياته المثيولوجية والشاعراتية، ويتماهى مع شعارات المراكز المغرقة بتطرفها القومي والطائفي والديني، ولعل احداث مابعد عام 2003 وشيوع مظاهرها العنفية تعكس في جوهرها صعود اللاشعور المأزوم الى سطوح التعبير والسلوك، بما فيه التعبير الثقافي وسلوك الجماعات الثقافية، وتهويل الحديث عن المختلف والمغاير، واثارة نزعات التكفير والطرد والاقصاء والتخوين، والاستعانة بالقوى الخارجة عن الفعالية الثقافية للايهام بجدوى الفكرة المضللة والفاقدة لقوتها في التأثير وفي مواجهة الصورة المفترضة لـ(خريف المثقف..) العراقي وحوادث اليوميات الثقافية العراقية الضاجة بالكثير من الوثائق الملفقة، ورهاب الاحزان والمراثي والسرديات المضللة والاوهام الكبرى.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  علي حسن الفواز


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni