... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
امل الجبوري في مجموعتها الشعرية : أنا والجنة تحت قدميك

محمد علي شمس الدين

تاريخ النشر       02/03/2014 06:00 AM


في كتاب للشاعر التشيلي بابلو نيرودا، نُشر بعد موته، وترجمته إلى العربية العراقية سحر أحمد، يقول ساخراً: «حين يأتي الموت، هل يأتي من تحت أم من فوق ؟». والكتاب هذا يجمع بين بداهة الطفولة وحكمة الشيخوخة. ولكن، كيفما أردت الموت، يبقَ الموت هو الموت. شبّهه المتنبي بضرب من القتل، وهو دائماً ينطوي على عنصر سوريالي سواء جاء لطيفاً أو عنيفاً، فردياً أو على سرير وثير أو في خندق من الوحل.

لا أحسب أنّ أمل الجبوري، الشاعرة العراقية المقيمة في ألمانيا، هجست بنيرودا حين استعملت عبارة «الموت السوريالي» في نص من نصوص مجموعتها «أنا والجنة تحت قدميك» (دار الساقي)، حيث قالت واصفة أشلاء قتلى عراقيين سقطوا بعد فوز فريقهم الرياضي بمباراة كأس آسيا (عام 2007): «عادوا أشلاء متناثرة تناقلت الأخبار سوريالية موتهم» (ص 69). حتى لكأن الموت العراقي الذي تصفه أمل الجبوري «بنت الجنوب العراقي»، له خصوصية ونكهة بين الملهاة والمأساة، فالنصر أيضاً في مباراة رياضية هناك، يتحول إلى موت.

عنوان الكتاب «أنا والجنة تحت قدميك»، لا يكشف تمام الكشف عن مضمونه، ولأنّ العنوان غالباً ما يكون باب الكتاب، ومفتاح مخيلة القارئ حوله، قبل قراءته، فإنّ أول ما يذهب إليه قارئ هذا العنوان، هو الحديث النبوي المأثور «الجنة تحت أقدام الأمهات». فالتحوير الذي جرى على الحديث، حاول أن ينقله إلى اقتباس شعري، إذا صحّت العبارة. المفاجأة هي أن النصوص التي تشكل الكتاب، سردية، خطابية، ولا يغادر عمقها الوجداني حدود الانفعال الصادق... وأكاد أقول هي كتابات مباشرة، جاءت كردود فعل سريعة، وإن في حينها، على أحداث حربية من تاريخ العراق الحديث، كثر فيها الموت الفردي والجماعي، حتى تحولت المدن والأرياف إلى مقابر جماعية. وكاد الفضاء العراقي أن يكون جثة هائلة منتفخة، والأنهار لا يسيل فيها الماء بل الدم. نصوص تكثر فيها الشهادات والوصف والتسجيل، وهي بغالبيتها انطباعية تكتفي بحدثيتها، بصحافيتها إذا صحت العبارة، ولا تتجاوزها إلى شعرنة الأحداث أو روايتها، أي أنها لا تتجاوز عتبة الوصف والتسجيل إلى دهاليز الإبداع الخطيرة، وهي كتابة أخرى على كل حال.

 

الوقائع والتحويل

الكتاب هو بين السياسة والمراثي، والخيط الجامع فيه هو «الأم». أمّ كل قتيل في العراق، أياً كان انتماؤه، وحيثما كان موقع قتله. ومن الصفحة الأولى، تقول الكاتبة: «الأم، لا يهم إذا كانت أم القتيل أو أم القاتل، أم السارق أو أم المسروق، أم الأسير أو أم السجان، أم الثائر أو أم الإرهابي»... الفكرة إنسانية بلا ريب، ومن فرط ما هي إنسانية، تغدو افتراضية خرافية. وأمل الجبوري تتابعها في فصول كتابها وفي مراثي القتلى الذين تذكرهم بأسمائهم وحوادثهم في الكتاب. ولعلها تفترض أن أي أم لأي قتيل في العراق، هي أم لجميع القتلى بلا استثناء... وهي تبعاً لذلك، لا تعقد الأمومة بحبل السرة وحده، فتفترض أن لها أمهات كثيرات لم يلدنها: «كانوا لصق باب قلبي» تقول (ص 76)، منهن: «أم علي» من كرادة مريم في بغداد، «تراوتا» جارتها في المنفى الألماني في ولاية بافاريا، والتي عرفت أزقة بغداد بمنظار حسرتها، وأم قاسم، وعزيمة، وأم بيداء، وأم أسامة، وأم جواد الأسدي، وأم صلاح... وأمهات كثيرات وصفتهن أمل الجبوري، واعتبرتهن أمها.

«أنا والجنة تحــت قدميك» هـــو كتــــاب تأمــلات حول الموت وحكايات فـــي الموت. حكايات غريبة نشأت بفعل الحروب، كتبادل رفات المجهولين، ونشوء فئة من اللصوص، هم لصوص المقابر. وابتكروا لهم في العراق اسم «الحواسم» (ص 38)، كما ابتكروا طريقة غريبة لحفظ القبور من هؤلاء اللصوص، بأن جعلوا قفلاً لباب قبر كل شهيد (ص 37).

في كتاب أمل الجبوري، شهادات تكاد تكون موثقة بأسماء وحوادث موتى ومخطوفين ومقتولين في سلسلة من الحروب التي دارت، وما زالت تدور، على أرض العراق، من تسعينات القرن العشرين، وما قبلها حتى اليوم.

الباب الذي تسميه الكاتبة «باب شهداء الحرية»، هو باب واسع ومؤثر في كتاب «أنا والجنة تحت قدميك»، وفيه تحكي عن الروائي حسن مطلك أو إمام الحرية، كما تسميه (ص 95). وهو من عشيرة الجبور في جنوب العراق، العشيرة التي تنتمي إليها الكاتبة، أعدم شنقاً في عام 1995. وتشير إلى أن سبب إعدامه يعود إلى اشتراكه في المحاولة الانقلابية ضد صدام حسين: «يا حسن، لم تخجلنا ابتسامتك وأنت تلتف على حبل المشنقة مثل طفل يتدلى بحبل الأرجوحة» (ص 184)، وتذكر من شهداء الحرية ضرغام هاشم والمفكر عزيز السيد جاسم «الذي اختفى» وآخرين، ممن حلموا بالحرية «في جمهورية العسكر» (ص 145).

 

حروب العراق

ولعلّ الكاتبة تقارن سيرة أمها بسيرة الحروب، مشيرة في السياق إلى «مقبرة السلام» في بغداد ومفارقة التسمية... وتمارس الكاتبة في بعض الأحيان ما يُشبه جلد الذات حين تتوجّه إلى بعض الشهداء مثل الشهيد ضرغام مثلاً: «كنا في زمانك إما صامتين، أو مهرجين، أو توفيقيين، ثم بعدما هربنا، أطلقوا علينا مرتدين» (ص 157).

ليس لنا أن نفترض شيئاً أمام كتاب أمل الجبوري. لا نستطيع سوى الانحناء أمام الأمهات الثاكلات في حروب العراق الطويلة، وفي كل الحروب، أو أن نعتبر الحرب في ما هي مقتلة عامة للبشر ودمار أعمى للعمران، موضوعة مباشرة، وبطبيعتها ضد «الأم»، لأن الأم هي التي تولد الحياة في مواجهة الموت. لذا، طُرحت الجنة تحت قدميها. نعم وهكذا: تحت قدميها، لا بين يديها. ولم يميّز الحديث الماثور أمّاً عن أمّ، بل ذكر الأمهات بالمجمل، من حوّاء الأولى إلى حواء الأخيرة... سبقت الإشارة إلى أنّ العنوان شاعري «أنا والجنة تحت قدميك»، لا سيما أن المعروف عن أمل الجبوري، دواوين من الشعر، أولها «خمر الجراح» (1986)، وآخرها «هاجر قبل الاحتلال هاجر بعد الاحتلال» (2008)... وأمام مناجيات سردية وجدانية، تظهر فيها الوقائع والأسماء والحوادث، وهي مكشوفة، أشد تأثيراً وبلاغة من الدوران حولها، أو التعليق عليها... وأسأل: لماذا لا تحول أمل الجبوري، كل ما سردته من أخبار ووقائع وأشخاص وحوادث، إلى قصيدة ملحمية وإنشادية واحدة، أو إلى رواية ملحمية واحدة...؟ باعتبار أنّ المادة الخام، المادة التاريخية والحدثية، لهذه أو تلك، موجودة وحاضرة، لأنّ ضغط الموت، قادر على أن يحول نصوص هذا الكتاب إلى قصائد، وقادر على أن يحوّل الحروب في كل أشكالها ومآسيها إلى ملاحم إنشادية. فالتراجيديا، كما هو معلوم، وكما قال الإغريق، دائماً مقرونة بالإنشاد.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد علي شمس الدين


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni