... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
شقاء الكتابة في ماضٍ بغدادي

فاروق يوسف

تاريخ النشر       05/04/2014 06:00 AM


الكتابة مرض، علينا أن نقاومه. أبالتخلي عنها؟ تبدو النصيحة لرجل مثلي أمضى أكثر من خمس وثلاثين سنة في المهنة ليست نافعة. في تحييدها على الأقل. جعلها مسلية، كما لو أنها نوع من العطاء المتأخر. لكن كيف؟ كان بلزاك محايداً، ومع ذلك مات في سن الثانية والخمسين. كان الروائي الذي كتب أجمل مرثية للإنسانية من طريق الكوميديا، يأكل بقدر ما يكتب. قتلته تخمة الطعام وكثرة الكتابة معاً. سوّد أوراقاً بعدد الساعات التي عاشها. أما مارسيل بروست فكتب مليون كلمة من أجل أن يقاوم مرض الربو. لقد تنفس مليون مرة هواءً نقياً، وهو الهواء الذي لا يزال يهبّ نقياً من بين سطوره. ما إن يفتح المرء "البحث عن الزمن الضائع" حتى ينبعث من ذلك الكتاب هواء لا يزال نضراً، كما لو أن أحداً لم يشمّه من قبل. ما هذا العطر المفاجئ الذي يمشي بأقدام نساء، صنع بروست من رهافة أرواحهنّ درساً عظيماً في الجمال؟ سيحلو لي دائماً أن أمضي في نزهات ربيعية مع نسائه، بغض النظر عن أعمارهن. لكن المسنات منهن بالذات كن الأكثر سحراً. اما الفتيات الصغيرات فأترك العذاب الذي يتسببن فيه إلى مناسبات، تكون فيها أحلامي جاهزة لاقتناص شهواتهن. كان الأرجنتيني بورخيس حالماً بالقدر الذي صنع من العمى نعمة. لقد صنع الرجل من أحلامه الصامتة مملكة يرتادها أناس يشبهونه. من الطفل إلى الشيخ، هناك الكثير من النسخ التي يمكنها أن تقول إنها كانت الشخص نفسه: بورخيس كما عاش حياته التي لم تشهد ترهلاً ولا تكراراً في وقائعها. لقد اخترق طه حسين دروب المتاهة نفسها. في كتابه، "الفتنة الكبرى"، هدم ماضياً ملتبساً ومشوشاً لينشئ من حطام ذلك الماضي حاضراً، هو معبد للكتابة. كان شغف طه حسين في الكتابة هو مصدر تجلياته في تخريب رؤى السلف الصالح. يشكّ فيستفهم. يقلق فيهتدي. يلتهم فيجد. لا أعتقد أن أحداً من الذين ذكرتهم قد تساءل: ما الكتابة وما جدواها؟
"هل قرأتها كلها؟"، سألتني الفتاة وهي تنظر إلى مكتبتي التي كانت تحتل ثلاثة جدران من الغرفة. فاجأني سؤالها فأردت أن أعتذر بما يفيد بأنني قرأت كل ذلك الورق. لكني فضلتُ أن أكذب: ليست كلها بالضبط. يبدو أن جوابي كان مريحاً من غير عدوانية. كانت هناك تنهيدة ارتياح. كما لو أن الفتاة أرادت أن تقول لي: حسبتك قرأتها كلها. لم أخبرها بأني كنت أقرأ أثناء النوم، وإلاّ اعتبرتني مجنونا. "هناك شبح" جملة يبدأ بها "البيان الشيوعي" الذي كنت في صباي مولعاً بقراءته، متوهماً أن كاتبَيه قد ضلاّ الطريق إلى الشعر. بسبب تلك الجملة كان ماركس وانجلز بالنسبة لي شاعرين. لقد غررت بي اللغة لا حمولتها من المعاني. أهذا ما يفعله الأنبياء دائماً؟ نقيم في اللغة، تحتها بطابقين، فوقها بغيمتين، في المسافة التي تفصل بين إصبعين من أصابعها. لم تلمس تلك الفتاة الكتب. كانت خائفة، لذلك ارتمت بين احضاني مستسلمة، وهذا ما كنت أحلم به نكايةً بالكتب. يومها شعرت بشيء من التوازن. كان النظر إلى تلك الكتب يُشعرني بالهزيمة، وها أنذا انتصر عليها بعبق رائحة فتاة لن تقرأها أبداً. ليس الواقع ما يعينني عليها، بل الخيال الذي صار يمشي بقدمي بين المجرات. أنا الأمير الصغير الذي لن يمسك به إكزوبيري ليعيده حزيناً إلى كوكبه البعيد. تحت الكتب، بين همهمات لغتها، على طاولة جمالها فرشت أغذيتي الأرضية وصرت أنتقي لقمتي. أيتها الكتب، كم أحبّكِ وأنت ترتجلين صمتاً، ليس من عادتك. لم يكن أمامي سوى أن أخونكِ. ستضحكين وأنتِ تضمّين تلك الخيانة إلى حكاياتك المرتجلة. "أيها الخائن الصغير، إنك تكرر ما قرأته". لا ينفع أن أقول لك إن هذه الآنسة ليست مدام بوفاري. كانت الفتاة كما عرفتها نوعاً من المرأة التي اخترعها فلوبير. لم يكن هناك فرق بين بغداد وروان. تلتهم المدن ذكرياتها كما لو أنها صُنعت من مادة واحدة. كنت أحلم بروان فلوبير، فيما كانت الفتاة البغدادية تنظر إليَّ باعتباري فاتحاً قدم لتوّه من جبال الالب.
كانت بغداد مدينة للكتابة. من باب المعظم حتى الباب الشرقي ثلاثة كيلومترات من الحبر. أهدى إليَّ ابن الجوزي محبرته ونام على مقعد مريح في مقهى الزهاوي الذي كان عبارة عن زاوية حادة توجه سهمها في اتجاه البريد المركزي. كانت طيور سقف الأثر العثماني قد اعتبرتني رسول تنهداتها إلى العالم. كان كل شيء يوحي بأن الحرب العالمية الأولى لم تنته بعد. فالعثمانيون الذين فرضوا تقنياتهم على الرسم في العراق، لا يزال في إمكانهم أن يصوّبوا أخطاء الكتابة، حتى وإن كانت الرسائل مغلقة بالصمغ الايراني. ما لم يعترف به المحاصرون في تسعينات القرن الماضي رفعة وإباء ونفاقا وكذبا، كانت رسائلي الذاهبة إلى يوسف الناصر في لندن تمحو عنه الشعور بالخطيئة لتعيد استعماله، بطريقة لم تكن تخفي حذلقات شعورها بالغدر والخيانة. كانت البلاد تحتضر، فيما كانت رسائلي تنشر على حبال غسيل الجيران، ثياب المهزومين والمنكسرين والمعقدين والمرتابين من أبناء جيلي. بطريقة أو بأخرى كنت واشياً. سعيت إلى أن أكون واشياً، رغبة مني في تحييد الألم. كانت الرسائل، رسائلي، بمثابة تلويحة وداع لبلاد كانت في طريقها إلى الغياب.
كان على الكتابة من وجهة نظري أن تفجر الزجاجة لا أن تخرج من عنقها. لذلك كانت كتابة الرسائل في ذلك الزمن العصيب نوعاً من الحل لقول ما لم يكن مفهوم الأدب المحلي، المقيد ببلاغة خوفه، ليتسع له. شيء ما في تلك الرسائل كان بمثابة معادل موضوعي لما كنا نخسره كل لحظة في ظل فشل المشروع العسكري. ليس سهلاً القول إن الجندي المهزوم هو أخطر على عائلته من الجندي المنتصر. لكنها الحقيقة. فكرة أن نعترف أن الكتابة هزمتنا، يمكن توقعها في حالة شعب يُحسن النظر إلى لغته. لكننا لم نكن كذلك.
كنت مريضا بالكتابة، لكنها كانت تضيق مثل مرض. كانت محبرة ابن الجوزي تمتلئ تلقائياً كلما فرغت. أرضع حبراً من ثدي تلك الأم ليكون الفطام من قبل أمّ أخرى صعباً. ولأن الوطن كان قد تخلى عن نزهته اليومية بعدما أصابته كآبة الثكن، صار عليَّ أن استعيد وقع كل قدم ألقيتها على تلك الثلاثة كيلومترات التي مشيتها وأنا أفكر في تلك المرأة التي مشت ليلاً إلى أهلها، من غير أن تشعر بوحشة الطريق. كانت تغنّي فتأنس الذئاب إلى صوتها وتنام. هذا ما يفسر أن ذئباً واحداً لم يتسلل إلى سطور رسائلي، بالرغم من أن خرافاً كثيرة كانت تثغو بإحلامها بين سطور تلك الرسائل. هل كنتُ محظوظاً بالمصادفة؟
فالس من أجل الكتابة. فالس من أجلها وهي تجلس على ركبتي لتمحو عن دموعي أثر اليأس. ستقول الكتابة "إنك لا تزال حيا"، وهو خبر سعيد في حياة لا تنتج سوى الأخبار السيئة. كنت أكتب من أجل أن يقوى الخط البياني على تحمل قدرته على الحركة، صعوداً وهبوطاً. كانت الشاشة تستعرض امامي أحوال القلب فيما كانت الكتابة تلهمني شيئاً من صبرها. أصبر لأن شيئاً لم يقع بعد، وأصبر لأن كل شيء قد وقع قبل أن تقع الكتابة. سيصادر أحد ما حريتي ليعوق قدرتي في النظر والسمع أو ليجعلني أنظر من خلال عينيه وأسمع بأذنيه. في الحالين لن تكون الكتابة عاجزة عن تكذيب ما أسعى إلى قوله نفاقاً. فالكتابة وهي تمضي متعففة إلى مستقبلها، تدرك أن عثرات ماضيها لا تزال تؤسس لماضٍ خدمي، لن يكون المستقبل جزءاً من ضالته.
أكتب لأشقى. جملة تشبه إلى حد كبير جملة تقول: أكتب لأحيا. في ذلك الزمن (أين يقع؟) كانت الكتابة تضع بغداد بين هلالين. فبغداد التي تعرفها الكتابة كانت قد انتقلت من مقهى البرازيلية إلى مقهى البرلمان. بمعنى أنها انتقلت من القهوة إلى الشاي. قل لي ماذا تشرب أقل مَن أنت. كانت النخبة وحدها تشرب القهوة اما شرب الشاي فكان من أهم تركات الماضي الاستعماري. كانت شعبوية الشاي قد صنعت مذاقاً مختلفاً للكتابة.
"ويسكي الفقراء كما قال الرفيق فهد"، قال لي أحد أصدقائي الشيوعيين وهو يصف الشاي بغزل نضالي. وكان الشاعر السوري خليل الخوري قد نشر يومها بيانه عن الواقعية البعثية المرادفة للواقعية الاشتراكية التي هي واحدة من أسوأ الأفكار التي انتجتها البشرية.
لقد حطم شاي مقهى البرلمان أجيالاً من الموهوبين، حين اقترح لهم مكاناً محلياً، كان يقع في قلب السوق. لم تكن المسافة التي تفصل بين الكاتب والانسان العادي واضحة. الاثنان يشربان الشاي ويسوقان بضاعة استعمارية. كان هلالا بغداد يضيقان ليلتهما جزءاً من حروفها. فكان على من يكتب أن يجرب نوعاً من المحو لم يختبره من قبل. أمحو لأكتب مثلما يفعل الجاسوس. كانت الكتابة الحقيقية فعل خيانة. لذلك كان هناك شعور بالخيانة يحيط بي وأنا أكتب. ألا يفسر ذلك الشعور معنى الشقاء الذي صار يلازمني كلما أقبلت على الكتابة؟

5 نيسان 2014

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاروق يوسف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni