... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
داء المواضي الحزينة

عبد الكريم العبيدي

تاريخ النشر       26/05/2014 06:00 AM


 في صورتِها الأولى الخدّاعة، تبدو شهادةَ الروائي، وكأنها ما تتطلبه  نصوصُهِ حواشٍ أحيانا. ولكن، في صورةٍ أخرى، تنشغلُ الشهادةُ بقراءةِ نصوصِ الروائي ومخلوقاتهِ بصورةٍ شفاهيةٍ، وبرؤيةِ الروائي ذاتهْ، وهنا تتكفلُ الشهادةُ بتشريحِ نسجِ الكينوناتِ المتصورةِ للشخوصِ وتفاعلاتِهم.

الصورةُ الثالثةُ تمنحُ دورا أخطرَ للشهادةِ الروائيةِ، وهو إقرار الروائيُ بماهيةِ أناهِ الناسجةِ، ومساحةِ خريطتِها وتفاعلاتِها وأدواتِها، وتشريحِ بعضِ معالمِ ومسمياتِ مشغلِه، وهذه صورةٌ جديدةٌ، غنيةٌ بالوجوهِ السريةِ لعوالِمهِ وأَبطالِ رواياتِه.
هكذا أقرأُ خطابَ الشهادةِ الروائيةِ في صِورِها الثلاثْ، مذُ أضحتْ تقليدا جميلا.
الآنْ، وأنا أُعاينُ البيضةَ الروائيةْ، التي خرجتُ منها، أتساءلُ بدهشةٍ: هل باتَ لكلِ روائيٍ جدةً حكّاءةْ؟، وهل لهُ في صِغَرِهِ "سالوفيون" ساحرون؟.
أنا لمْ أحضَ بجدةٍ، فجدتي لأبي تُوِفَّيتْ قبلَ ولادتي، وجدتي لأمي، كنتُ أكنُ لها كُرها في صِغَري، ولكنَّ السماءَ وهبتني ساردا حَكواتيا ليليا بارعا، وهو شقيقي الأكبرُ، وأحسبُ أن حكاياتَه الخرافيةِ المرعبةِ والمشوقةِ، مطَّتْ لي مبكرا خريطةَ مخيلتي الفتيةِ، وبثَّتْ تشويشا مخيفا في حواسِ طفلٍ ميّالٍ للعُزلةِ مُنذُ طفولتهِ.
في أزقةِ الحيِ الذي حلَّقتْ فيه أعوامُ طفولَتي، عثرتُ على جدةٍ حنونةٍ، تربَّعتْ على عَرشِ مؤثراتي الحياتيةِ الأُولى، كانت غالبا ما تعيشُ لوحدِها، بسببِ غيابِ ابنِها الوحيدْ، الذي قضى جُلَ شبابهِ في خنادقِ القتالِ، في جبالِ كردستان، وفي الأردن وسوريا ومصر، ولذا وجدتْ تلكَ الجدةُ بذلكَ الطفلِ أنيسا، بينما غنمتُ أنا حكاياتَ وأساطيرَ مُدهشةٍ عن عراقِ العشرينيات وما تلاه، واستلهمتُ جزءً وفيرا من الموروثِ الشعبيِ العراقي القديمْ، ما جعلني أَقضي ساعاتا حِكائيةً لذيذةً في بيتِها الهادئِ والموحشِ على مدى أعوامْ.
في ذاتِ الوقتِ، اكتشفتُ جدةً مغريةً أُخري، كانت تجلسُ، عصرَ كلِ يومٍ في نهايةِ الزقاقِ، قُبالةَ قِدرِ الباقلاءْ، كنتُ أحرصُ على تناولِ كاسة باقلاءٍ من قِدرِها الكبيرْ، وأَتنعمُ بشمِ عِطرِها المصنوعِ من "المسكِ والزعفرانِ والقرنفل"، عطرٌ مميزٌ كان ينبعثُ من ثيابِها السوداءِ دائما، يرافقُه سِحرُ قِصَصِها العجيبةْ عن أيامِ غيابِها الفصلي، الذي كشفَ سِرَ بيعَها للباقلاءْ، وهو جَمعُ مبلغٍ ماليٍ صغيرٍ وارسالهِ الى ابنِها الشيوعيْ، المعتقلُ في "نَقرةِ السلمان".
مُذْ ذلكَ الوقتْ اكتظتْ مُخيلتي بغرابةِ ودهشةِ عشراتِ المفرداتِ الصاعِقةِ: صحراءُ السَماوةِ، والسجونْ، والمعتقلاتْ، والتعذيبْ، والنضالْ، وعِشقِ الوطنْ، والشيوعية، والحرسِ القومي والانقلابات!.
في محلتي القديمةِ أيضا، كنتُ أتركُ أصحابي الأطفالَ يمارسون ألعابَهَم الشعبيةَ، لأشاركُ رجالا عجائزَ في جلساتِ العصرِ اليوميةِ التي كانوا يُقيمونَها قُربَ بابِ بيتِنا، أصغي بانتباهٍ الى حواراتِهم وغرائبِ حكاياتِهم ومغامراتِهم، وأسرارِ ضحايا اغتيابِهم ونميمتِهم لرجالٍ ونساءٍ، أعرفُ بعضَهم، وأجهلُ الكثيرَ مِنهُم، وأحسبُ أن ذلكَ مَلأَ دفاترَ ذاكرتي مبكرا بمعاطفٍ حياتيةٍ أكبرُ من خيالي.
بعد مؤثرَي البيتِ والمحلةِ، كان لابُدَ للمدرسةِ بمسرِحِها ومكتبتِها ودرسِ الانشاءِ في مراحلِها المختلفةِ أن تغدو مؤثرا أيضا، كنتُ أَهوى الاشتراكَ في المسرحياتِ المدرسيةِ، بينما كان اسمي، من أكثرِ أسماءِ التلاميذِ والطلبةِ المدونةِ في سجلِ المكتباتِ المدرسيةِ لاعارةِ الكتبِ، ولطالما فاجئَني مُعلمو ومُدرسو مادةَ اللغةِ العربيةِ وطلبوا مني قراءةَ موضوعي الانشائيْ قُبالةِ التلاميذِ أو الطلبةِ، ثم سِرعانَ ما تخرجتُّ من هذه المراهقةِ المعرفيةِ اِثرَ هبوبِ موجةِ السباحةِ الأوسعْ في سهوبِ الابداعْ، استضافتني بساتينُ الفلاسفةُ والنقادْ والموسيقيين والروائيين والشعراء والقصاصين والمسرحيين، ضيافةٌ بدأتْ ولنْ تنتهي، رفقةٌ ساحرةٌ حقا، ما أنْ تُلامسَ شغافَ القلبْ حتى يظلُ يُلاصِقُها طائعا لآخرِ نبضةْ، ربما لأن تلكَ السياحةَ الفريدةَ كانت وستبقى جنةٌ مكتشَفةْ، محملةٌ بلذةِ الجمالِ والسحرْ، وبديلةٌ عن كلِ فواجعِ حياتِنا التي أجدُها مختزلةٌ بهذه الجملةِ الشعريةِ للأديبْ محمود عبدالوهاب:
"اندثارُ الفجيعةُ
أن تفتحَ عينيكَ وتجدُ عمرَكَ
لا يصلحُ لشيءْ...".
ثمةُ أجيالٌ من العراقيين مصابةٌ بداءِ مواضيها الحزينة، مواض مرعبةٌ، من صنعِ أعتى الطغاةِ، وما تلاهُ من سُراّق الحلمِ العراقي، الذين لوَّثوا آخرَ ما بقي من أنفاسِ حياتِهم الوئيدةِ، فاختنقوا، اختنقوا ثانيةً، وعاد بعضُهُم إلى عِزلتِه القديمةِ، وبما أن الذاكرةَ، للأسفِ تختزنُ بدقةٍ أكبرْ تفاصيلَ الأحداثِ السيئةِ التي يتعرضُ لها الإنسانْ في حياتِه أكثرَ من السارة، فانَّ هذهِ الأجيالَ المنكوبةْ ستبقى ضحيةَ ذاكرتهاُ الجمعيةْ، وستبقى أسيرةً لدى أشدِ أعدائِها قسوةْ، ما أصعبَ أن يفكرَ المرءُ بعقلِ عدوِه!؟.
لماذا الروايةُ إذنْ؟
لم أكتبْ روايةَ إلا من روايتي الكبرى، وروايتي الكبرى هي أنا وماضيي كما أراهُ الآن، وماضيي هو الواقعْ، أغرفُ منه، وأبدأُ بصياغة ملامحِ مخلوقاتي ورموزِها ودلالاتها، بشكليةِ رؤيتي المعرفيةْ، بعضُها ينشطرُ مني مباشرةً، وبعضُها الآخرْ من المتصوَرِ والمتعقَلِ والمحسوس، وحين أبثُ فيها أسئلتي ونواياي، تتشكلُ وجبتي السردية بمعروضةٍ من الجُملِ الاغرائية، التي تتسللُ بصورٍ وتأويلاتٍ شتى إلى القارئ، وتتفاعلُ مع خرائِطه المعرفيةِ والجمالية، وهذه العمليةْ هي تحويلةٌ دائميةٌ خلاّقةٌ من الواقع إلى الواقع، من أناي إلى أناي، ومن الأنا الجمعية إلى الأنا الجمعية، من الركود إلى الإثارة، ومن الحفظ والإهمال ومخاطر النسيان إلى الإنتاج والتجدد والتفتح، ومن التكميم والمستتِر والخفي إلى العلانية والفضائحية والإشهار، ومن المألوف والمعروف والشائع إلى الإدهاش والمشاكسة والتغيير.
سأقرُ لكم الآنَ بمرئياتي ومحسوساتي التي أنتجت شخصيتين روائيتين، هما "مالك" في رواية "ضياع في حفر الباطن"، و"أوسم" في رواية "الذباب والزمرد".
في بدءِ تكوينِ شخصية "مالك" أطلقتُ عليه:"العمارتلي"، طبقا للهجته العمارتلية، كانت تلكْ كلَ كينونَته، وأولَ أسمائه، وكانت أولَ جملةٍ سرديةٍ وصفيةٍ عنه هي:" كان ذلك الراكبْ أكثرَنا قلقا وأسئلة"، هو في الواقع لم يكن كذلك، لم يكن أكثرَ مني قلقا وأسئلة، وربما لم يكن أكثرَ من غيري من الركاب في السيارة، ولكنه كان يجاهرُ بأسئلته وقلقه، في وقتٍ ظلت أسئلتي وقلقي في طور خفي، فصار مالكْ وكأنه ممثلُ قلقنا الجمعيْ وأسئلتنا الجمعية.
لاحظوا تحولَه الثاني في هذا المقطعِ السردي:"في فجرِ اليومِ التالي وصلتُ إلى ساحةِ العرضاتِ مبكرا، ولاحظتُ عددا من الجنود يحزمون أفرشتَهم وتعرفتُ على " العمارتلي " حالا. كان يدخنُ بإسراف، وبدا وجههُ شاحبا. وحين دُعِينا إلى التجمع رمى عقبَ السكارةِ وداسَ عليه بنعله، فاكتشفتُ أنه الوحيدُ من بين كل الجنود، لا يرتدي حذاء رغم قسوة البرد".
هنا لم يعد "مالك" مُمثِلا لقلقِنا وأسئلتِنا، هنا تحول لوحده الى ضحيةِ حربْ، ليس لأننا جميعا من حوله كنا سعداء، ولكنه بهذا المرئي والمحسوس حصدَ كلَ مآسي الضحايا من حوله، وبات يمثلهُم جميعا بمفرده.
كان "مالك" بالنسبة لي، كراو وبطل في الرواية في آن، يمثلُ المفقودَ من الإحساس بالمدينة، ليس في بنيتها الثقافية، بل في أُلفتها، ولذلك أفتضحتْ مشاعري هكذا في الجملة التالية:" لم أكن بحاجةٍ إلى محاورته قدر رغبتي في تواجده"، هذه الحاجةُ الأنانيةْ نمت إلى طور أكثرَ إنسانية، ففي جملةٍ لاحقةٍ نقرأ:" لقد أحببته فعلاً، وأحسب أنه تعلق بي"، رغم أن ذلك الحب كان فطريا، في أشدِ أطوارهِ البدائية والعذرية، حبٌ بلا ملامح واضحة.
في جدول توزيعِ دلالاتِ ورموزِ الرواية، نال "الأشتر"، وهو آخرُ اسمٌ له، حِصَّته وحصتي من الهزيمة والاذلالِ والرعبِ من المجهول، ألبستَه هزيمتي وضياعي، لأنْأى بنفسي من الشعور بالرعب، فحتى لحظةِ كتابةِ الرواية، بعد ما يقربُ من عقدين على وقوعِ أحداثها الحقيقيةِ كان الرعبُ يتلبسني، واكتشفتُ أنني أُحيلُ ذلك الشعورَ إلى رفيقي من دونِ أن أدركَ ذلك:
"وقع الأشترُ في الفخ. التهمتهُ هزيمتُه، كان يستجدي بمرارة، يلهثُ وراءَ ثمنٍ مفقودٍ لضياعه في العواصف والأمطار والبرد طيلةَ نهارً سقيم".
قد تبدو هذه الاحالةْ، في صورتها الأولى، وكأنها فعلٌ أناني، حيلةٌ من حِيَل التهرب، ولكن القارئ سيعثرُ لاحقا على عَرَضٍ مَرَضي مقنع أُصبتُ به، ودفع بي الى هذه الاحالة، لاحظوا معي ذلك في هذا المقطع:" أنا محطمٌ أيضا، مثل كل ما يدور من حولي. ولذلك لا أستطيعُ أن أمنحَ غير القليل من مشاعري لكل هذا الخراب. أشعرُ أنني جزءٌ منه. وكِلانا بحاجةٍ إلى شفقةٍ من آخر، أيُّ آخرْ، شرطَ أن لا أكون أنا"!.
في روايتي "الذباب والزمرد"، آثرتُ أن أُدوّنَ مقطعا سرديا وصفيا شاملا لمعالمِ ومدلولات شخصية "أوسم"، في أول مدخل تمهيدي لها، وكنتُ واثقا من أنَ القارئَ سيتساءلُ بحيرة، حال الفَراغ من قراءة ذلك المقطع: حسنا، وماذا بقي لنعرفه عن هذه الشخصية من مفاجآت، لكنه سرعان ما سيصطدمُ بغلةٍ اِثرَ أخرى من سيلِ الوقائعِ المدهشة التي ستحصل لتلك الشخصية، وسيقتنع تماما، أن ما قام به الكاتبُ من نسجٍ جماليٍ، كان مَردُّه تثمينَ الأحداثَ المقبلة، ومنحها تلقي أكثرَ عقلانية، لنتابع قراءةَ ذلك المقطع:" كان أوسم شديدُ الحساسية، يحلمُ بالتسكع في ثلوج أوروبا، وكان مصابا بمرض ألـ "أنتي نوستالجيا"، الذي من أشهرِ أعراضهِ عدمُ حب الوطن أو مسقط الرأس، وكنت أراه، طيلة ضياعنا في الحروب والمعارك كمن قَدِمَ من أقصى الحياةِ إلى أقصى الموت، طردتهُ الماسحاتُ المطاطيةُ لزجاج السيارات إلى تلك المنطقةِ الضيقةِ والمغبرةِ التي لا تطالها، فلم يعد بنظره أي شيء يستحقُ التقديس، بينما غدت التضحيةْ والوطنْ والمبادئْ فقاعاتٌ مزريةْ في مستنقع اللا وطن.
كان جندي حرب فاشلاً بنظر ضباط ومراتب الفوج، ففي كل إجازة دورية كنت أبالغ في توديعه، لأنني، رغم وعوده المفضوحة كنت على يقين أنه لن يعود، وهو لم يعد فعلاً، اكتشف بعد شهور أنه موقوف في سجون الفيلق أو اللواء أو الفوج، أزوره في أيّة فرصة خاطفة، فيقابلني بابتسامة وديعة، وتبقى عيناه القلقتان تشي ببريقهما المأخوذ عن صحبة فريدة جمعتنا معاً في شهقات الخوف والفزع، في لحاظٍ ملؤها التردد من ملامسة الموت.
كان أوسم فتىً مسحوراً بالأساطير والعبث والبحث عن المجهول.
ــــــــــــــــــــــــــ
شهادة لكاتب المقال ألقيت في جلسة احتفاء نادي السرد به يوم 5/4/2014 على قاعة الجواهري في مقر الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عبد الكريم العبيدي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni