... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
الظاهر والباطن: قراءة في قصائد (إشارات الألف) لأديب كمال الدين

صالح الرزوق

تاريخ النشر       17/06/2014 06:00 AM


صدرت منذ أسابيع للشاعر أديب كمال الدين المتصوف والعاشق، الذي يتحدث كثيرا عن مصادر الخداع والغش والندم، مجموعة جديدة عن دار ضفاف في بيروت بعنوان (إشارات الألف). وفيها يتابع رحلته مع الحروف والميثولوجيا والقصص الديني.
ولو قارنا هذه المجموعة مع سابقتها (مواقف الألف) سنلاحظ الانتقال من الظاهر إلى الباطن، ومن المشكلة الاجتماعية للمشكلة المعرفية. لقد حاول أديب كمال الدين في المواقف أن يستمع لصوت الله المؤنب والناصح. ولم يدخر وسعا كي يسير على خطى النفري والأحاديث القدسية.
وهذا لا يمنع أنه لم يكن فعليا يعيد إنتاج النفري ولا تصوراته عن رحلة العذاب والشك. إن أي جرد لنوع المفردات وماهيتها في التجربتين، الشعر والابتهالات، يبين مقدار التباين إلى درجة التنافي أو التعارض. فأديب كمال الدين يستعمل حوادث ميتافيزيائية معروفة لها دلالة الرموز والعبر للوصول إلى شرح معاناته مع الحياة وشؤون الدهر.. ابتداء من تجربة الألم والقهر والفاقة والحرمان (وهو حرمان مصدره السلطات) وانتهاء بعذاب المنفى والغربة.
لقد كان في تجاربه كلها يتحدث من قلبه ووجدانه عن مصاعب الحياة وليس عن النار المستعرة لفكرة التعالي والتفكير بالولاية تمهيدا للنبوة كما هو شأن النفري وأمثاله. وكان يبكي على سقوط الإنسان بين براثن المغويات وعلى مشكلته الفردية أيضا ولا سيما مشكلة الانفصال (إشكالية الغياب بتعبير صباح الأنباري).
و لئن كان الأنباري يعني بالغياب موت الأشخاص فإن أديب كمال الدين تجاوز ذلك. وتحدث أيضا بصوت متألم عن رحيل الأصدقاء وخيانة بعضهم للعهود والمواثيق، وموت المعنى ودخوله في إثم النفعية. ولا يغيب عن ذهني هنا هجاؤه المرير للنقاد الذين لم يفهموا سحر كلماته ولا مغزى قصائده. لقد كانوا غائبين بدلالة حضورهم النفعي (محبتهم القاسية وشرور أنانياتهم كما قال). ثم انتقل للحديث عن رحيل الأسماء والوجوه اللامعة التي تركت وراءها فراغا وجوديا مميتا. ولا تنس إشاراته المتكررة للحرمان العاطفي الذي تحولت فيه حياته من جنة خضراء إلى خراب.
لقد ترك الشاعر في هذه القصائد علامة من عذاب الروح ليدل بها على قنوط الجسد واستسلامه. وهذا يعني أنه سنّ لنفسه طريقا كان يراه بعين نفسه ويؤوله بما يفيض عليه من إشارات وطلاسم تفسيرها يكون بالاجتهاد وانكشاف الحجاب.
وقد اختار في النهاية أن يكون مثل معنى الماء وليس مثل معنى المطر أو البحر. لقد انحاز للدلالة على حساب الدال ومضمونه. وهذه إشارة للتخلي عن فكرة التصادم والانهماك بفكرة التطهير والخلاص أو الصعود. ولم تكن هذه الأفكار تخلو من نكوص مرضي أعتقد أن أصله هو الحنين لمرحلة الرحم أو للمهد أو ربما للفردوس قبل خطيئة التفاحة وعقوبة التنزيل.
فقد أكد في عدة مناسبات رغبته بالعودة لأصله أو لمصادره (ولا سيما الرماد باعتبار أنه يرتبط بالمعاناة والاحتراق بعكس العودة للتراب الذي يرتبط بمرحلة ما قبل التشكل والخلق). يقول :
كتبَ القلبُ كتابَ العمر.
لكنَّ حاء الحرمانِ ذرّتْه رماداً
في فراتِ اليُتم
ودجلة المجهول
ثُمَّ عادتْ فذرّتْه رماداً
في بحرِ النقطة (إشارات الألف – إشارة حاء الحرمان).
و كان انتماء الشاعر للثقافة المائية من أهم اختياراته. حتى أن بداية فن الشعر برأيه يتصادف مع كتابة القصيدة فوق الماء.
يقول:
لقد كنت سعيدا كغيمة
لأنني احتفظت في قلبي بلغة الماء (قصيدة إشارة الطريق).
لا تخلو المجموعة أيضا من عادته في الاهتمام بأسرار الحروف. لقد كان في بداياته يلعب بالحروف ويستعملها لأنها ذات قيمة رمزية مطلقة وغير محددة. وهو لم يحاول أبدا أن يخترع منها نمطا أو نسقا.
و لو أنك فحصت الحروف المتتالية التي يذكرها في قصائده لما خرجت بنتيجة. لا إن قرأتها بالترتيب ولا إن حاولت أن تعيد ترتيبها.
إنها حروف بلا مضمون محدد ومباشر. كما هو الحال في مطلع بعض السور في القرآن الكريم.
ماذا تعني: كهيعص؟ (سورة مريم). وماذا تعني: ألف لام ميم (سورة البقرة وسورة آل عمران) أو طس (سورة النمل)؟.
إن الحكمة الإلهية أو رسالة الوحي تدل على القيمة غير المباشرة للحرف. ولم تقصد أبدا توجيه رسالة يمكن ترجمتها حرفا بحرف.
و هذا هو شأن معظم رواد الحداثة الذين ظهروا في ستينات القرن العشرين. ولنذكر وليد إخلاصي كمثال.
فهو في مجموعته التجريبية (يا شجرة ، يا) يلعب بالحروف ربما ليشير إلى المضمون الغامض للطبيعة والنفس. فالإنسان لا يستطيع أن يقدم تبريرا منطقيا لكل ما يلاحظه أو يمر به في حياته. ناهيك عن معجزات وغوامض العلم الحديث الذي غير من نظرتنا لأنفسنا قبل أن يغير من تفسير الحوادث.
نحن نفهم معنى: كانت الحاء والباء (حب)، ونفهم الميمواوتاء (موت) ص 28. ولكن ما معنى: كانت التاء والواو. أو ما معنى: نقطة السين، ص 18.
لقد اعتبر وليد إخلاصي أن المدينة هي لغة النظام القمعي، ولذلك كان لا بد من تفكيك الأبجدية للدخول في طور التبشير بتحطيم قيود المعنى الثابت.
عير أن الشاعر في هذه المجموعة بدأ يميل بشكل واضح لاختيار الحروف التي لها معنى. مثلا أن يقول: الياء والسين. وهذا مطلع سورة قرآنية وهو (يسين).
و معناه يتضمن قسما من الله تعالى. وأستطيع أن أستنتج من ذلك أن حداثة أديب كمال الدين قد استقرت في الذهن. وتطورت من مرحلة البحث عن شخصية في معمعمة الحداثة للتعبير عن خلاصة هذه الشخصية وهي خلاصة المؤمن الذي يقف بين يدي خالقه وربه.
ولم ينس الشاعر أن يتابع خطه السابق في تحويل الوحدات الشعرية القصيرة إلى قصائد طويلة تارة بالتوازي وأحيانا بالتتابع.
و هذا هو ديدن الحداثة التي جاءت بعد مرحلة تفكيك القصيدة التراجيدية التي لم تفهم مشروع ولا حساسية الشعرية العربية. وأرى أن السبب هو في استبدال بعض المقومات والمصادر.
في هذا الفضاء الغريب طور الشاعر وحداته التي كانت تعمل بالتتابع في (المواقف) وبالتوازي في (الإشارات) لصياغة سيرة نفسية لرحلته من الوطن إلى المنفى في المجموعة الأولى ولصياغة صورة نهائية عن منفاه في المجموعة الأخيرة.
لقد خاض أديب كمال الدين في هذه القصائد معركته ضد التشابه (القافية والروي) وضد التكرار (الذي هو أهم صفات السير الملحمية حيث أن كل حدث يتكرر عشرات المرات وبصيغ متقاربة)، وقد فعل ذلك من خلال التعبير عن الحاضر بصيغة الماضي. بعبارة أخرى: إنه نظر للرواسب والخبرات القديمة من خلال أثرها النفسي المستمر. فطوفان نوح مثلا هو مجرد حلم لا يستطيع أن يستيقظ منه.
وقد اختار أن يكون شاهدا على الطوفان وليس مجرد واحد من الرواة أو المفسرين. وكما أرى هذا احد أهم عناصر الخيال الفني الحديث.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  صالح الرزوق


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni