... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
مؤيد الراوي وأحلام الملك كوديا: حين تُصاغ الذاكرة بلغة الشعر

عبد الكريم كاظم

تاريخ النشر       31/08/2014 06:00 AM



1

لا نقرأ النص الشعري لكي نفسر المعنى وحسب، لكننا نقرأ لكي نصل إلى نشوة الإتصال بالمعنى، من هنا نقول أن الإحتفاء بقصيدة ما هو بمثابة العودة لقراءة القصيدة بطريقة مغايرة بعيدة عن الشكل التقليدي المتعلق بالآراء والمرجعيات النقدية الشائعة ذاك لأن ضرورات أولية تستفز المتلقي عند قراءة أي نص وبهذا لا يجوز الحكم على أي نص من خلال القراءة العابرة له دون التأمل بالمعنى، وقصيدة الشاعر العراقي مؤيد الراوي (أحلام كوديا) المنشورة في صحيفة إيلاف الالكترونية 17/6/2014 هي واحدة من قصائده عن الرموز المتصلة بالتأريخ والتي أحالتنا إلى عدم الارتكان للمعنى الشعري وحسب بل لدلالات الرمز وإشاراته التأريخية واستعادة مسبباته الراهنة.

بهذا العنوان: (أحلام كوديا) تظهر السببية الشعرية للرمز، في حقيقتها اللغوية، على نقيض ما هي عليه عند المؤرخين الأوائل من تعاقب زمني أو تتابع حَدَثي لا رابط فيه بين الأثر والمعنى والدلالة سوى ما تضعه عين المؤرخ التجريبي من تواصل خارجي مع الأحداث، لكن عند الشاعر هذه العلاقة التأريخية، المتصلة بـ(كوديا) ثاني ملوك السلالة السومرية الثانية، لا يتحدد فيها الحدث التأريخي، في إمكان وقوعه ثانية أو في استحالة هذا الوقوع، فاللغة الشعرية هي التي تتحكم بالصيرورة التأريخية المتصلة بالأحداث وليس بتتابعها الخارجي بل بضرورة المعنى الشعري ودلالاته أيضاً، فالأحداث آثار تولّدها حركة اللغة لا حركية التأريخ.

  هكذا نرى أن النص الشعري، لمؤيد الراوي، لا يكمن في نقد التأريخ وحسب، بل في استعادته المتصلة بتفسير التأريخ وأحداثه، فالمعنى ليس بتحديد الحدث، لو كان كذلك لكان النص الشعري، بدلالاته ورموزه، تصحيحاً له بتحديد الحدث، أي بالقول إن المعنى ليس هذا الحدث، بل حدث أو معنى آخر أو أنه ليس كما نُقل، تأريخياً، بل شيء آخر.

  في هذا النص يدعونا الشاعر إلى تأمل أحلامه المقاربة لأحلام الملك كوديا، وهي كما ورد في بداية النص: (أحلام كوديا متناقضة مبهمة) ويدعونا أيضاً إلى أن ننظر في طبيعة هذه الأحلام ومدى اتصالها بالواقع المثقل بالموت والخراب، كما أشار في نهاية النص: (لقد تهدمت المدينة وعصف الموت في الناس) فالأحلام التي يتحدث عنها الشاعر هي قوانين هذا الموت الممنهج الذي نلمس تفاصيله والقياس هنا قياس الشاعر (الشاهد) لا قياس النقل المتصل بالأحلام التي يتحدث عنها المفسرون، والشاعر هنا يتبع معيار الحكمة والبصيرة والوقوف على طبائع الحياة والوقائع والمعرفة وهذا ما نلمسه في هذه الجملة الشعرية: (عرف كوديا سر الأحلام).

  نستخلص من هذا النص أن مقاييس قراءة المعنى عديدة، إذ ليس لمعنى الحلم في هذا النص دلالة نفسية أو فردية وحسب، بل دلالة رمزية موازية للواقع، أنها ما يشير إليها الشاعر بقوله: (في حلمه الأول، أبصرتهُ الآلهة الحكمة، فسرت له الكاهنة وداعة الحقول وكثرة الشموس) هذا التشكيل اللغوي المتمثل بــ (أبصرتهُ ـ فسرت) لا يمكن أن يُفهم بشكل العلاقة الموازية للحلم إلا بارتباطه بما اشار إليه الشاعر بقوله: (فبكى كوديا، وقال: سوف لن انام وسأقاوم أي حلم جديد).

  دلالة النص مرتبطة أيضاً بطبيعة التقاطع بين حلمه الثاني: (في الحلم الثاني وقف كوديا عاجزاً) وما بين حلمه الأول: (في حلمه الأول رأى الآلهة تتناغم) فما بين الفعل (رأى) والفعل (وقف) ثمة دلالة لغوية تحكم صيرورة المعنى التي يمر بها القارئ وهي تحدد طبيعة التقاطع المشار إليه اعلاه، فبتحديد هذا التقاطع، في طبيعة الأفعال، سيترتب علينا الانتقال بالتفسير المتصل بالنص من حلم إلى آخر، إذ يمكن للشاعر أن يؤرخ الحلم لا أن يفسره، وهذا نوع من التماثل بين الماضي والحاضر، وأعني قياس الحلم بالشاهد والراهن وبالماضي البعيد.

  في سياق هذه النص تبدو الأحلام، كموضوع، هي الأكثر التصاقاً بذاكرة الشاعر وبالموروث السومري ولكن بشكل شعري متكّيف مع الواقع، وهذه السمة ناتجة عن التصاقها بحاملها الرمزي ولكونها ليست نتاجاً لغوياً وحسب، بل هي أيضاً إطار تأريخي، بمعنى أنها لا تُستحضر من الذاكرة بشكل عابر، بل من التجربة الذاتية للشاعر، وبهذا المعنى أيضاً تختلف عن الأحلام العابرة، بوصفها النفسي المباشر، سواء لجهة الشاعر أو لجهة المعنى المتصل بدلالات النص، لنطلع على هذا الوجه الثاني الملازم للارتباط بالموروث وبالذاكرة في هذه المقاطع الشعرية: (ملائكة تبارك الناس في المعابد/ صبايا يسقين العشاق ماء الحياة).

  2

أحلام كوديا: نص معاصر بامتياز أو نص يطلب تحرير القراءة النقدية من معايير المعنى المسبق والمعنى المفترض ليقرأ معاني النص المرتبطة بالحياة ويقوّمها في بناها التعبيرية، والمعنى، هنا، نفسه معاصراً أيضاً، خصوصاً في الدلالة التي قُدم بها الملك كوديا وقد شكل ذلك عنصر جمالي ـ رمزي لطابع النص الشعري المكتوب، وشكل قوام هذا الطابع، التأريخي الموروث، عن دلالتين، تتمثل الأولى بالاستعارة الرمزية التي فسر من خلالها الشاعر أحلامه المبهمة المتناقضة كما أشرنا سلفاً، أما الثانية فقد تمثلت بضرورة استعادة النظرة المتخفيّة إلى موضوعة التأريخ التي تُحنطها، القراءات العابرة، بين دفتي الماضي والحاضر، من هنا نرى ضرورة التعاطي مع أحلام كوديا باعتبارها حالة معاصرة في التشكل المعرفي والشعري، وفي هذا السياق أيضاً لا بّد من قراءة المعنى المجرد لهذه الأحلام كونها اطاراً واسعاً يحتوي على مضامين معاصرة وأشكال متباينة بحكم تباين مكوناتها الموروثة في الزمن الواحد، وبحكم تراكم المتغيرات فيها عبر الزمن، لنقرأ هذه الأشكال المتباينة: (والناس تقرأ الناس/فتنبعث فيهم المسرة/فسرت له الكاهنة فقالت: تطلب الآلهة أن تبني الرعية المكتبات وتشيد المعابد فتملاها بجرار النبيذ/تشق الجداول فتنبعث الهناءة وتتآخى الناس).

  لم يتطرق الشاعر مؤيد الراوي للملك كوديا في هذا النص، إلا بصفته مثالاً يشهد لصالح التطابق المعاصر للتأريخ، ورغم كونه حاملاً أساسياً للذاكرة الموروثة، من هنا ضرورة استعادة المعنى الشعري المتصل بالحاضر أو بهذا الحيّز الذي تعلو فيه نسبة التطابق بين القديم والمعاصر، وتدليلاً على راهنية الأحلام يورد الشاعر بعض المقاطع المعبّرة عن هذا التطابق في حلمه الثاني: (في الحلم الثاني، اضطرب كوديا عندما رأى الآلهة تتخاصم وتتقاتل/ والملائكة تذوي أجنحتها فتسقط في القاع) . هناك مقطع آخر لا بّد منه لإسقاط هذا التطابق على المعنى الشعري المتصل بالأفعال (أنام، أقاوم، تهدمت، عصف) يقول فيه: (سوف لن أنام/وسوف أقاوم أي حلم جديد/لقد تهدمت المدينة/وعصف الموت في الناس).

  ثمة إشارة، لكلمة سوف التي جاءت في النص (سوف لن أنام) وكذلك لحرف السين في الفعل (سأقاوم)، لا بّد منها لأنها ترتبط بظروف كتابة النص الشعري ورؤية الشاعر، هذه الإشارة لا تستند إلى التفسير المعروف بكلمة (سوف) وهي كلمة وظيفية تتخصص للاستقبال البعيد فيرد الفعل من الزمان الضيق وهو الحال إلى الزمان الواسع وهو الاستقبال وقد تستعمل للوعد أيضاً، إضافة لحرف السين وهو حرف تنفيس للمستقبل القريب كما هو معروف، لا بّد إذن أن يستعيد النص ـ الشاعر غايته الخاصة المتصلة بالمعنى وفنية اللغة الشعرية، من خلال (س/سوف) وأن تنتج هذه الغاية وعيها النقدي والرمزي واللغوي لذاتها بدل حالة الانفصال عن دلالة الواقع الذي نعيش والمتمثل بهذه الجمل الشعرية: (عصف الموت في الناس) (ممتلئون بالضغينة/يمجدون الكراهية) (حرقوا المكتبات وهدموا المعابد) (فجاءت الحروب وطغى الفيضان) وبسبب هذا الانفصال يصبح النص موضوعاً للشاعر يستبيح به المعنى الرمزي لتأريخية الأحلام الموازية لأحلام الملك السومري كوديا وبحكمته أيضاً.

  في هذه المقاطع من النص يكتب مؤيد: (قالت الكاهنة: الآلهة تصرخ/ لا يجدي مع هؤلاء شيء/ لتستمر الحروب ولتزحف الأوبئة اليهم وليجرف الفيضان حقولهم وبيوتهم) من خلال هذه المقاطع كان لا بّد من صور واقعية مقربة جداً لتفسير أحلام كوديا لنرى الحقيقة أو نكاد ثم نكتشف أن أحلام الملك تتداخل في أحلام الآخرين ومنهم الشاعر، وهذا الأخير يفسر الحلم بطريقته الشعرية كي تبدأ ذاكرة اللغة باستعادة ذاكرة التأريخ أو قرابتنا معه، وكي نقترب مع الشاعر في أحلامه البالغة الدلالة، أنه لا يعبّر فقط عن كيفية كتابة اللغة في المنامات، لكنه يشير إلى حقيقة قديمة قائمة في الذاكرة أو في قرابة التأريخ لا تفصل بين الواقع المتمثل بـ(الحروب والأوبئة والفيضان) ورؤيا الواقع هنا تشبه ذهاباً إلى مكان قديم في التأريخ وإعادة تأسيسه أو تفسيره، شعريا، من جديد.

  ولئن كان ثمة قرابة تأريخية بين الماضي والراهن، فإن النص الشعري الذي طغى على المعنى الرمزي أو الذاكرة التأريخية أدى إلى إسقاط هذه القربى وإحلال الغربة، المتصلة بأحلام الملك كوديا، مكانها وربما أدى إلى نص شعري يتغرب بدوره عن الحياة والتأريخ والرموز، وقد يشكّل هذا التغرب كسراً يضاف إلى كسور التأريخ، وفي هذه الكسور نقرأ الرموز بطريقة مغايرة، وهي رموز تدعو إلى الجدل والإستعادة، جدل الحياة والكتابة والقراءة النقدية وهي تلتقي مع رموزها المتنوعة الكاشفة عن انزياحات المعنى الشعري أو مستويات الدلالة واحتمالاتها المرتبطة بحمولاتها ومرجعياتها اللغوية والرمزية.

______________

  إشارة:

 (الملك كوديا/ 2144 ـ 2124 ق.م) ثاني ملوك السلالة السومرية الثانية وكان يتمتع بالحكمة والإدارة الناجحة لدولة "لكش" ودام حكمه خمس عشرة سنة. 


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عبد الكريم كاظم


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni