... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
أخي "العراق" لا يغادر الحياة

محمد عارف

تاريخ النشر       06/11/2014 06:00 AM


«للطيورِ أعشاشٌ، للنمل بيوتٌ، للفُهودِ أوجارٌ، ولنا.. اللهُ». كتب ذلك شقيقي الروائي محمود البياتي، الذي انتقل إلى جوار ربه فجر الجمعة. وحالما انتشر خبر وفاته تداولت كتاباته صفحات «الفيس بوك»، وبينها قطعة «بعد الحرب» كان قد نشرها في 9 أبريل عام 2013. «سأكنسُ العراقَ بالسَعَفِ، وألقي إلى المزابلِ بقايا عظامٍ ودموعٍ وكبرياءْ. هكذا فعلَ كثيرونَ غيري، بعد كلّ حربٍ . هكذا فعل أجدادي مراراً بعدَ خراب آشورَ وبابلَ ونينوى، وبعدَ خرابِ بغدادَ. سألقي إلى المزابلِ ما هو فائض، ما هو غيرَ ضروري لاستئنافِ الحياةِ. سألقي إلى المزابلِ حذاءً مرقَّعاً، وحقائقَ كثيرةٌ ومواعظَ ومبادئ. سألقي إلى المزابلِ (المنفستو الشيوعي)، ولوائحَ حقوق الإنسان، وملاحمَ جلجامش، وقصصَ ألف ليلة وليلة. سألقي إلى المزابلِ كلَّ شيء، نعمْ، كلَّ شيء، واحتفظُ فقط بذاكرةٍ لن تنسى أبداً ما حدث».

وهذا ما يفعله عراقيون أدركوا أن الحياة امتياز الحياة. وكان أخي يشرب يومياً حتى الثُمالة من هذا الامتياز المجاني، الذي لا يُقدِّره حق قدره كالعراقيين، الذين تتقاتل في صدورهم البهجة والغضب؛ في ذروة البهجة بالحياة ينفجر الغضب على موت البلد وأهله، وفي ذروة الغضب تنفجر بهجة المقاومة بعمل إبداعي فني أو سياسي. و«يمكن أن يُحطّم الإنسان لكن لا يُقهرْ». هذه العبارة المشهورة للأديب أرنست همنغواي، قالها شقيقي لطبيبته الإنجليزية عندما أعلنت استسلامها أمام المرض الذي يفتك به: «آسفه محمود». حدث ذلك في «تكية الأميرة ألِسْ» جنوب لندن، وهو «الفردوس» الذي يُنقل إليه المرضى الميئوس من شفائهم. وهناك تصوّر شقيقي أنه انتقل إلى العالم الآخر؛ الأشجار السامقة الخضراء، وشرفة غرفته المطلة على النهر، وممرضات إنجليزيات يسقينه ويطعمنه كُلّ ما يشتهي. واشتهى شقيقي في «الفردوس الأرضي» أن يحدث طبيبته عن أوضاع العراق منذ الاحتلال الأميركي البريطاني عام 2003.

وتتحشرج أنفاسه ثقيلة، فيما تتوسل ابنته «فَرَح» أن يخفف عن نفسه، وتَعده بأن لا تستسلم لأذى غيابه. و«يا سبحان الله» قالت ابنة أخته «لميس» التي كانت تتلو لخالها سورة «ياسين» عندما توقفت أنفاسه مع «صدق الله العظيم». هؤلاء العراقيات مدهشات في الاحتفاء بالحياة في قلب الموت؛ تشرق وجوههن نضرة بالدموع، ويختفين أمام عينيك، ثم يظهرن وأنوفهن حمراء وخدودهن مشرقة. وشقيقي الذي يداري سكرات الموت تحت أبصارهن، قضّى العمر في مداراة سكرات الحياة معهن، محاطاً ساعة الوداع بزوجته السابقة الرسامة «ياسمين دَيزئي»، وابنة ابن عمه الناشطة اليسارية «نضال وصفي طاهر».

وأخي «العراق» لا يغادر الحياة، ووفاته من مفارقات الزمان الكفيل بتجريح اندمالات بلده. الباحث الأكاديمي عبد الحسين شعبان تناول ذلك في كتابه عن «عامر عبد الله» الذي شغل منصب وزير دولة خلال عهد صدام حسين، وسيرته حسب العنوان الثانوي للكتاب «فصل ساخن من فصول الحركة الشيوعية». يعرض الكتاب إجراءات متعسفة اتخذها تنظيم الخارج الشيوعي في ثمانينيات القرن الماضي في براغ ضد عبد الله، وشملت الروائي محمود البياتي، الذي هُدّد بالطرد من تشيكوسلوفاكيا مع زوجته وطفليه «حتى من دون أن يكون حزبياً، أو منخرطاً في عمل سياسي». وذكر عبد الحسين أن البياتي أخبره في رسالة خاصة أنه سينشر وقائع ذلك في كتاب عنوانه «تحت سماء ملّبدة بغيوم كافكا». وأوراق البياتي كثيرة، عثرت بينها عندما زرت بيته بعد رحيله على كتيب من تأليفه عنوانه «مُحَمّد النبي والإنسان»، تضمن مقابلة مطولة مع المستشرق التشيكي «إيفان هربك». وتصدّرته عبارة الرسول: «إذا أحبَّ رجل أخاه فليُخبره».

أنا حزين وفاقد الرشد، وأعتذر لشقيقات البياتي الخمس أنني خالفت رجاءهن باحترام المناسبة وعدم التحدث بالسياسة، وأكبر الشقيقات واحبهن لي الحاجة «أم سعد» التي تمارس، وقد تجاوزت التسعين، الرياضة السويدية يومياً بعد صلاة الصباح، وتحفظ القرآن الكريم، وأشعار مظفر النواب، وأشعاري باللهجة العراقية في المناسبات العائلية، وبينها قصيدة لها عندما أصبحت جدة أو «بيبي» كما يسميها البغداديون، وقرأتها لشقيقي عند ولادة حفيده «عمر» قبل عام، وفيها: «صِرْنا جدُّو، صِرْنا بيبي يا حبيبي. شَمَّه من بيبي تطفي لي لهيبي. شَمَّه من بيبي، وْوَردْ من ورد الشفايف، إليِرِّد الروح، ويورّد الوَرد، واليِخَلي الرِدى عنّا يبتعد. بيبي رُدِّي لي حبيبي».

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  محمد عارف


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni