... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  منتخبات

   
فدراليات في شروط مخيبة وهرب من المشكلات الوطنية الكبرى(1-2 )

سهيل سامي نادر

تاريخ النشر       29/01/2015 06:00 AM


تقديم
هذا المقال والذي يليه نشرا في شهر كانون الثاني من عام 2009 وظهرا باسم آخر نظرا لأسباب خاصة . إن النخب التي طرحت مشروع فدرالية البصرة في ذلك العام ، أعادت طرحه مجددا في أصعب فترة يمر فيها العراق ، من دون أن تقدمه بمقترب يبرره ويصف ميزاته وأهدافه وإمكاناته . إن روح الشكوى من المركز في الطرح الاول واصلت العمل في الطرح الثاني ، من دون أية إشارة الى تعقيدات الحالة الراهنة . لا شيء جديدا في الحقيقة كما لو أن الزمن ظل متوقفا . الجديد أن أصحاب المشروع الحالي يحاولون اقناع الجماعات الثقافية به . 
ليس هدفي من نشر المقالتين تحويل قضية عقدية كالفدرالية الى حالة سجالية. لكن ثمة هواجس مثقفين تلزمني ههنا ، فالبلد يمر بصعوبات خطرة تجعل حالة النسيان راسخة ، بما يراكم مشكلات لم تحل ، لتنفجر في ما بعد بقوة . في مكان ما طالب إدوار سعيد من  المثقفين أن يكونوا نوعا من الذاكرة العامة .. أن يتذكروا ما نسي ، أوما تم تجاهله .. أن يذكروا الجمهور بالمسائل الاخلاقية التي قد تكون محتجبة خلف صخب الجدال وضجته . أؤمن بهذا ، وأرى أن أسوأ ما يفعله مثقف هو أن يشجع على النسيان في قضايا تحتاج الى يقظة عالية ، ويهيل التراب على قضايا تحتاج الى أن يصبح فيها حفّارا وكاشفا . إن مثقفا يستغرق بالتقييمات السياسية المباشرة وألاعيب الكواليس قد يضع نفسه ، من دون وعي ، في خدمة قوى سياسية سيئة الأهداف .
إن جميع الافكار الاساسية التي تضمنته مقالتي التي نشرت في "الصباح الجديد" ومن ثم في "واينيوز" تحت عنوان (فدراليات في شروط أكثر خيبة) متضمنة في هذه المقالة ، لكنها هنا أكثر حيوية ، لأنها ترد على أفكار محددة جاءت على لسان السيد وائل عبد اللطيف ، كما أنني زودتها ببعض الهوامش . إن العودة الى مقالة قديمة مبرر بالوضعية العراقية التي تضافرت فيها آفة النسيان مع آفة تفكيك الوطن وتقزيم الدولة في ظروف تتحكم بها قوى ماقبل الدولة الطائفية والعشائرية ، مع وجود احتلال إرهابي لم تحسم المعركة ضده بعد. وثمة تبرير شخصي لا أريد أن أخفيه ، فأنا أتحدث عن مدينة ولدت فيها قبل سبعين عاما ، وشكل فيها والدي منذ الثلاثينيات من القرن الماضي أوائل الخلايا الماركسية والتنظيمات النقابية العمالية.    
إن نقدي لمشاريع الفدرالية لا يعني أنني أقف ضد الفدرالية ، فمن مهمات النقد وصف ما يجري وربطه واختباره بمحكات واقعية ، وهذا ما أفعله ههنا ، متمنيا أن يحظى موضوع الفدرالية باهتمام ثقافي وسياسي وقانوني من قبل المتخصصين . 


فدرالية البصرة بعروض القاضي وائل عبد اللطيف !
لم أستوعب أفق ما يفكر به السيد وائل عبد اللطيف حقا بشأن مشروعه الفدرالي الاّ بعد أن استمعت اليه في ندوة فضائية "الحرية". فلأنه كان في حالة جدالية، وربما سجالية، أطلق العنان لمخيلة لا تصلح لقاض بل لسياسي من هذه الايام يهرب الى أمام بالاستناد الى أمثلة تاريخية. لقد اكتشف لمشروعه الفدرالي سندا تطبيقيا ونظريا عند الامام علي بن ابي طالب وعمر بن الخطاب .
لا مفاجآت في هذا الزمن الذي يوصف بأنه لااديولوجي تستخدم فيه تنظيمات إدارية من الطراز القديم لم تدم طويلا لتبرير الفدرالية الحديثة.
إمعانا بتفقيه مشروعه الفدرالي أخبرنا القاضي عن البصرة الولاية العثمانية التي شكلت مع بغداد والموصل العراق الحالي . أظن لو منح القاضي فرصة للحديث عن الأدلة التاريخية لحدثنا عن دولة المشعشعين ، أو لحدثنا مطولا عن قيام أحد التجار بشراء ولاية البصرة من والي عثماني كفر بالعراق وأهل العراق، أو أشار بالتفصيل الى طلب نظيره عبد اللطيف المنديل من الانكليز الارتباط بالادارة الانكليزية في الهند بدلا من الارتباط ببغداد الهاشمية. لعلّه يمكن سرد كل هذه الوقائع بكتاب يتضمن شيئا عن فقه البصرة الذي يختلف عن فقه المدينة في الحجاز كما يختلف عن فقه المدارس البغدادية. لا أشك في أنه يعرف كل هذا الاّ أنني أحب أن أمضي معه في استرداد ما لا يُسترد.
إن تقديم الأمثلة التاريخية عن استقلالية البصرة الاداري في العهد العثماني الذي دام اربعة قرون لا يثبّت مكانتها الا في حدود المقاييس السائدة ومصالح السلطة آنذاك، لكننا نعلم علم اليقين بغياب دور البصرة الحضاري وسقوطها التاريخي في غياهب التخلف والاستبداد العثماني ، شأنها في ذلك شأن بغداد. في ما عدا ذلك أرى أن الامثلة الأخرى إما مجرد افتراضات وإما أحداث لها تعابيرها ومبرراتها الخاصة غطّاها التاريخ الحقيقي.
يفاجئنا سياسيو هذا الزمان بتواريخهم، وألقابهم، وطوائفهم، ولحاهم الخفيفة، ومشاريعهم، وأحاديثهم الممتعة عن الشفافية والديمقراطية. بالنسبة لليبرالي مثل القاضي وائل (هذا ما يشيعه عن نفسه في البصرة التي ضجّت من القيادات الدينية) سيكتفي بتاريخ مدينته، ثم آهليته الشخصية بوصفه قاضيا. هذا يكفيه شخصيا بل ويكفينا. لكن ثمة تفصيلا صغيرا يجب أن نتعرف عليه، فالقاضي الذي عدّ سياسيا لا نعرف تاريخه السياسي حقا. حبذا لو نعرفه لكي نكون على ثقة ودراية بصاحب المشروع. لا يستهدف هذا الطلب التشكيك بل التوضيح بالاقتران مع حالة مدوّخة، فجميع النواب يعدون أنفسهم سياسيين، وتعاملهم الصحافة على أنهم كذلك، بصرف النظر عن تاريخهم الشخصي ومهنهم الأصلية، وبصرف النظر عن قصر المدة التي عرفوا فيها. ومعروف أنه ظهر بعد 9 نيسان 2003 آلاف السياسيين والمحللين وخبراء الاعلام والمستشارين من دون أن نعرف عن ماضيهم شيئا. وهاهم اولاء أنفسهم، قبل أن نتعرف عليهم جيدا يغامرون بنا وبالبلد بمشاريع كبرى. قبل أن نحصي الجثث والأحياء، قبل أن نحوز على أرقام صلبة عن الحياة والاقتصاد والتعليم والثقافة والتقنية ، قبل أن نحصي الارباح والخسائر، يقررون براحة بال ، وبضمير لا تزعجه الشكوك ولا حقائق واقعنا الرث، المصير السياسي للبلد، وقبل أن نعرف شيئا عن الحاضر يرهنون مستقبلنا.      
على ماذا يعولون؟على دستور كتب على عجل والماضي الدكتاتوري ما زال نديا - كتب على أصوات الانفجارات والتفخيخات مع التخويف والتهديد والظلام الدامس. وهل يجوز التعويل على أفكار عامة عن العراق الغني الذي أفقر، عن عدالة قديمة، عن أمثلة خارج سياقها التاريخي والموضوعي؟
كان النزاع يجري، والدم يسيل، والامريكان المخادعون ، الذين لم يعرفوا شيئا ، أو عرفوا وأرادوا مقتلنا، طبقوا علينا مقاييس نموذج يدعى ما بعد النزاع Post- conflict، كأننا رومانيا والتشيك وسلوفاكيا وهنغاريا التي خرجت من المعسكر الاشتراكي لتنزلق نحو تجربة السوق الرأسمالي والديمقراطية. كانوا مخلصين لأعمال التصنيف وتشكيل النماذج النظرية وغير مخلصين للواقع ، وقد جرّبوا على العراق بموازاة هذا النموذج سياسة العلاقات العامة كلية السخف والتجريد. أما جماعتنا السذج فقد قادوا هذا النموذج بتبني مشاريع مستقبلية، ما دمنا بتنا دولة أنهت تماما النزاع، أي أنهم قفزوا فوق المقياس الامريكي نفسه، وقبل ذلك بزّوا الامريكان بالتجريد. 
 لقد استدخل القاضي هذه الافكار الطليعية ببساطة. ولكي يثبت أنه ليبرالي وسياسي ، أشار، مع شيء من لهجة التنبيه والتهديد، الى امكانية حصول انقلاب عسكري إذا ما جرى عدم الالتزام بالدستور. من أين له أن يعرف؟ أهي علاقة ظرفية بين عدم احترام الدستور وحدوث انقلاب عسكري؟ هل توجد علاقة حتمية بين هذه وتلك؟ (1)هذا معقول من الناحية النظرية ، لكنه ليس معقولا من الناحية الفعلية ، حتى لو كان هناك من يريد أن يجرب حظه فعلا. هل يشجع الامريكان مثل هذا الانقلاب؟ هل السيد رئيس الوزراء سيقوده أم وزير الدفاع أم ضابط من رتبة كبيرة؟ هل الجيش العراقي كاف لضبط العراق الذي لم يضبطه الامريكان؟ ما دام الامر يتعلق بامكانية، فهذه الاسئلة واردة من دون رغبة منا بالغمز من قناة القاضي أو إثارة المصاعب عليه واحاطته بالشكوك. إذا كان القاضي يعرف بوجود مثل هذه المخاطر فليقدم لنا المعلومات والتحليلات الكافية لكي نتثبت من الأمر، وقد نصطف معه. لكن القاضي يخوفنا أو يخوف نفسه لكي يبرر مشروعه الاتحادي ويقوي دفاعه عن الدستور الفدرالي الذي كلنا نعرف أنه لم يحصل على الاتفاق الوطني الاّ  بوعد تغيير عدد من فقراته!   
هناك ثلاث ظواهر غريبة ظهرت بعد الاحتلال في هذا السياق:
- الأولى أن المشاريع التي تقع في أفق الزعامات المحلية هي التي تطرح بقوة ويدافع عنها بحماس بالرغم من أن أطرها السياسية والتنظيمية والمالية غير متوفرة ، أما المشروع الوطني في بناء الدولة العراقية على أسس غير طائفية ولا أثنية، أي على أسس مدنية ووطنية، فلا أحد يتحدث عنه بحماس كاف في حين أنه الأساس لكل المشاريع العقدية الاخرى بصرف النظر عن ميزاتها وتكلفتها ، ومنها الفدرالية بالطبع. 
- الثانية أن البعض يصرّ على ( المبادئ ) ويراها أو يتخيلها واقعاً. فمن الناحية الواقعية ليس في العراق دولة حقيقية بعد، بل هو لا يمتلك وزارات ومؤسسات تقوم بربع واجباتها حتى نعتبر ذلك انجازا لها، ثم نسمع بين الحين والحين أساطير عن كارثة (دستورية!) سيقترفها جيش العراق بقيامه بانقلاب يطيح بالديمقراطية والدولة الفدرالية(2).
- الثالثة تضع الدولة القوية في كفة ميزان مقابل وضع الفدرالية في الكفة الثانية، مع عدم الإشارة الى المؤسسات الوسيطة كالبرلمان والقوانين والدستور والعرف، أي المبالغة في التجريد، ووضع الأشياء على التخوم وإحاطتها بالفراغ من أجل الحصول على شائعات ترقى الى مستوى البداهة والتخويف منها. في حين أن الدولة الحالية من حيث البنى والوظائف والموقع السياسي لا تشبه بأي حال من الأحوال الدولة الشمولية السابقة المستثمرة من قبل حزب واحد، من هنا يعد الحديث عن الدولة وفي ذهننا تلك الدولة احتيالا وديماغوجية. والحال أن هذه الظواهر – المزاعم كلها قد تصدر عن جهة واحدة  في آن واحد حسب تقلبات الامور، وحسب ما يراد تمريره من تخويفات وأكاذيب. ومن الواضح أن الناس في وضع متعب جدا الى حد أنهم لا يدققون ولا يبالون ولا يفهمون. لقد استغل بعض السياسيين أسوأ الظروف لتمرير ألعابهم .
تعلن الديماغوجية الجديدة خوفها على الدستور من جيش غير مهيأ لا لحماية الأمن الداخلي ولا حدودنا الخارجية، كما تتخوف على الفدرالية من الدولة المركزية مع أنه لا توجد دولة حقيقية حتى هذه الساعة . فضلا عن ذلك فإن من يدير المحافظات حاليا هي النخب السياسية المحلية المنتخبة وليس جماعات معيّنة من بغداد كما كان يحدث سابقا. ومعروفة الكيفية التي جرى فيها انتخابها، والتدخلات السافرة التي ترقى الى التزوير التي حدثت في ذلك. إن هذه الحقيقة قد تكفي للاستنتاج أن هذه النخب المحلية المسيّسة حتى العظم، والناشطة الآن على نحو استثنائي بسبب قرب الانتخابات ، هي التي تريد توسيع حصصها بأسماء وحجج مختلفة. لكن لم العجلة ايها السادة؟ إذا ما أمعنتم النظر، عن حسن نية ومن دون خداع،  لوجدتم أن مشروع بناء الدولة الحديثة والقوية والديمقراطية مهم جدا لأي مشروع سياسي وتنظيمي وإداري جديد. هذا هو درس الفدراليات الديمقراطية، حيث النظام الاتحادي الجديد لا يظهر غريبا عن العقد الاجتماعي الاول بل ينبعث من داخله عند الضرورة مثلما هو يعزز أفق العقود الأخرى ، شاقا الطريق الى بناء ديمقراطية واسعة أقل جدلاً نيابياً فيما يتعلق بتوفير الحاجات الاساسية للشعب وأقل ثرثرة فيما يتعلق بالبديهيات.
إذا كان السيد وائل لا يعرف هذا، فلن تكون حججه التاريخية سوى غزل غير بريء مع القوى المحلية التي أساءت الى البصرة، ولن تعدو ليبراليته سوى مرحلة ينتقل بعدها الى حكومة (بصرية) تتقاسمها النخب المحلية الحالية أو بعضها بكل ما تتميز به من عدم كفاءة وانحياز سافر الى أحزابها السياسية ناهيكم عن نزعتها الطائفية.
لا توجد اليوم دولة واضحة المعالم تسمح لنا أن نسميها بثقة دولة اتحادية او ديمقراطية أو مركزية او لا مركزية. بالمقابل ما زالت  الذاكرة الجمعية السياسية تحتفظ بذخيرة من تجارب الانظمة السياسية التي ركبت الدولة وحطّمتها قبل أن يبددها الاحتلال نهائيا - تجربة يحولها البعض الى مقياس سلبي لكي يبرر عرض المظالم مع حلول متعاظمة تثير الانشقاق الوطني وتكلف الدولة الجنينية المتاعب. نعم لا توجد دولة واقعية بينما يوجد دستور، وهذه الحقيقة الملتبسة لا تبدو غريبة لأصحاب المشاريع الإتحادية على الرغم من أنها تذهب بهم الى ما يشتكون منه ويتخوفون: انحطاط الحالة القانونية كلها، ضعف الجهاز التنفيذي ، تفكك العلاقة بين الاعلى والادنى في جميع الاجهزة. لا حاجة للقول إن هذا يعني توفر امكانيات غير عادية لحدوث خروقات دستورية خطرة تؤثر على حياة الناس في أمنهم ولقمة عيشهم وحرياتهم المدنية. ومعروف أن النخب السياسية المهيمنة في البصرة التي خادعت المركز طويلا ضربت الرقم السياسي بخرق الدستور لكن بعزلة وصمت وفرته الادارة المحلية الخائفة والمشتركة بالسوء. ومن المؤسف أن الحكومة التي أدارت عملية عسكرية هناك صمتت هي الاخرى ووفرت من جديد الغطاء لعودة صامتة للسيئين. 
منذ أن أقرّ الدستور جرى خرقه مئات المرات، ليس لأنه سيء أو غير كاف بل بسبب طبيعة علاقات القوى والثقافة السائدة وعدم وجود تقاليد ديمقراطية، فضلا عن وجود حالة استثنائية بسبب العنف والإرهاب بالإقتران مع عدم وجود دولة تراقب وتحاسب. في البصرة التي كان القاضي محافظا لها كانت القوى المتنفذة تسرق وتنهب وتعذب وتغتال وتقتل النساء : الا يشكل هذا خرقا للدستور؟ لكن – يا للسخرية - هذا هو الخرق الدستوري الحقيقي الذي لا تترتب عليه (انقلابات عسكرية) ولا (فضائح دستورية) ولا يستدعي التحقيق والفضح العلني والإحالة الى المحاكم، لأنه عادي جداً، يومي جدا، قديم جدا، ويجري بين أحباب ومتواطئين، ومتوفر بكثرة في السوق المحلية ، وكنا ولا نزال نبتلعه يائسين مستسلمين. 
ماذا يعني وجود دستور بلا جسد تنفيذي (دولة)؟ أدعو الجميع الى تأمل هذه الحالة الغريبة، وسيرون أنهم بلا دولة مجرد قوى تعمل بغرائزها مضطربة تخاف من بعضها البعض. أدعو هنا بوجه خاص اولئك الذين حاولوا إضفاء الشرعية على النظام السياسي الميكانيكي الذي أقيم في البداية، وواصل العمل في شكل نسخة متطورة منه متخذا نفس مبادئه (المحاصصة). أرى أن بناء الشرعية عمل معقد لا تصنعه الانتخابات ولا الدستور بل وجود نسق من الترابطات والسياقات وأنظمة الربط والتنسيق ما بين هذين العنصرين وكيان دولة حرة معترف بها قادرة على فرض إلزاماتها وقوانينها ودستورها في الداخل وتحظى بالاعتراف الدولي والاقليمي. اليس من الأفضل والمعقول انتظار تقوية هذه الروابط الديمقراطية، ورسوخ الديمقراطية كممارسة وثقافة وسلوك، واستتباب الامن، وضبط حدودنا، والتفاهم مع جيرننا على قضايا الامن على نحو ثابت يضمن حقوق بلدنا وأمنه ويمنع التدخلات المشينة بشؤونه الداخلية،  قبل الذهاب الى التفكيك والتحليل والأنظمة المبتكرة؟ 
عند هذه النقطة نصل الى العقدة الاساسية التي تمسك بالقضايا العقدية كلها بما فيها الفدرالية. لننبه: قبل أن نستوفي حقوق الشرط الوطني والسسسيولوجي يصبح التقدم بمشاريع ادارية معقدة وغير مفهومة أمر سابق لأوانه جدا ويثير الانشقاق .
ما زالت الدولة الوطنية الحديثة في حالة بناء، بيد أن هذا البناء يتكفل به نظام سياسي يعيش مآزق البداية السياسية الخاطئة والعجولة التي ظهرت في ظروف غير عادية وغير عادلة : الاحتلال الأجنبي والعنف والإرهاب والانقسام. إنه مأزق مضاعف لأن هذا النظام صنع بنفسه أدوات تعطل إرادته التنفيذية وتشتت جهوده، ولاسيما أن القوى السياسية المشكلة له تمثل تركيبات طائفية بما يجعلها دائمة الدوران حول مطالبها، متعصبة ، تأخذ بيد ما تعطيه بيد أخرى، وتحاول الاستفادة من الخطأ والصواب متحججة بالدستور ومبدأ التوافق لإعاقة كل ما تعتقد انه يضرها في عملية البناء هذه. لقد ضيّع هذا النظام السياسي على نفسه وقتا ثمينا بسبب التنافس على تقاسم الموارد والوظائف وتحويل الدولة الى بقرة حلوب.
ما الذي يجري؟ لدينا قوى ترغب في تقاسم الدولة وتحويلها من جهاز قادر على بث صورته العقلانية في قلب النظام السياسي، الى جهاز ذليل مقلم الأظافر ترجّه المحاججات النيابية والمصالح الضيقة وتفتته المجتمعات المحلية باسم خصوصيتها أو باسم توزيع المهام الادارية. وعلى الجملة توجد تصيرات فعلية تريد أن تنتهي عند نظام سياسي قائم على تبادل المنافع بين القوى السياسية الممثلة للطوائف والاثنيات، تصيرات تبدو اكثر وضوحا واندفاعا من مشروع بناء دولة ديمقراطية حديثة. هو ذا نظام سياسي يلصق صورته المترجرجة على الدولة ، يتسلقها، يركبها، يستنزفها، يحطم بناءها ووظائفها العقلانية الشاملة، محولا وظائف الخدمة العامة الى أدوات حزبية. ( هل تريدون ان نسرد ما يجري للمواطنين للحصول على وظيفة تافهة؟) هذا هو في الحقيقة أفق السادة الذين يمارسون الحكم حاليا للاسف – نظام سياسي قائم على المحاصصة ابتداء من الوظائف السياسية وانتهاء بوظائف الخدمة العامة، كان السيد وائل عبد اللطيف واحدا ممن أسهم فيه ودافع عنه، ثم تشكى منه ومن انعدام فاعليته، وقد يظن أنه يهرب منه بالفدرالية. ( عندما يشيدون فدراليتهم قد يتظاهرون بانهم انقذوا البصرة من الطائفية والحكومة المركزية السيئة – الا نعرفهم ؟!)
ثمة حقيقة مثيرة تبدو هي صلب المشكلة العراقية كلها يعرضها القاضي كأنه يقدم لائحة اتهام باسم مدينته: البصرة فقيرة جدا بينما هي تقف على ثروة هائلة. هل يجوز هذا؟ أجيبه: لا.. لا يجوز . (من قال يجوز نخرجه من الصف!). لكن لماذا أشعر أننا إزاء دعوة سافرة لتشكيل فدراليات على قدر المدن التي تقف على ثروة هائلة بينما تعيش ببؤس، وفي العراق مدن عديدة كهذه لو أمعنا النظر وقمنا بجردة حساب تفصيلية لا تغشنا فيها ثروة النفط؟ المشكلة في الحقيقة أعقد، فالبصرة ليست فقيرة وبائسة حسب بل ومتخلفة اجتماعيا وثقافيا وصحيا وخدميا وتقنيا واداريا، ولكي ننقذها سيكون علينا أن نجيد لغة الاقتصاد والتنمية أولا( قبل لغة الدعاوى السياسية المعسولة، واللغة النقدية المغرضة التي تحتفظ بالنتيجة مسبقا مثلما يحدث الان من قبل الديماغوجيين على اختلاف مراجعهم) أي أن نخطط ونضع الموارد المالية والبشرية في خدمة تنمية مستدامة بكلف تنظيمية قليلة وواقعية. ومفهوم إن هذا يستدعي قرارا سياسيا، وبفضل الدستور والانتخابات والوعود الديمقراطية فإننا قطعنا اكثر من نصف الطريق لتوفير هذه الارادة فضلا عن القدرة على مراقبتها وتطويرها (3).
على هذا المستوى من التحديد نفكر بالمركز – بغداد – العاصمة. فهل يظن أن هذا المركز أخذ حصة الاسد وأبقى المحافظات الاخرى في تخلف لا يرجى الخلاص منه الا بحل فدرالي؟ لكن دعونا نفحص النتيجة الماثلة على الارض : فبغداد الحالية هي أسوأ مدينة في الخدمات والامن والتأمين الصحي والاجتماعي. إنها في الحقيقة مدينة كارثية ، تهيم في البرية ، ريفية أسوأ من الريف نفسه، امتدت طولا وعرضا ولا تستطيع أن توفر الخدمات الاساسية لسكانها لا في الطول ولا في العرض، بنى ارتكازية مهشمة، فقر، جوع، اهتراء في النسيج المعماري والمدني، وجلّ معاملها متوقفة. هذا هو المركز الذي يخافون منه، ضعيف حضاريا ومدنيا وانتاجيا، يتحكم فيه الريفيون في غذائه وخدماته ويستورد كل طعامه ويستهلك أسوأ انواع السلع. إن  وجود الحكومة في المركز لا يجعله مزدهرا، ومزابل شوارعه المتراكمة تعكس تفسخه الداخلي. علينا أن ندرس الواقع العراقي من دون عزله عن صورته المروعة بعد هزيمة الدولة على يد الامريكان والرعاع والتي أدت الى أن يكون المركز هزليا ومستباحا وخطرا واعتدائيا ولا يطاق. هذا المركز الذي كان فخرنا، وفخر الحركة الوطنية، وموقعا لانجازات الثقافة، ضربوه ضربا مبرحا من الاعلى ونهبوا حياته ومفاخره من الاسفل، ليتحول الى اكبر سوق للسيارات واستهلاك الطعام والقبولات السياسية والثرثرة وبناء الاوهام وتقاسم الوزارات والمؤسسات.
والآن ماذا عن ديالى، والرمادي، والعمارة؟ العراق كله غارق في التخلف والفساد. لكن هذا العراق ( يا لسعادتنا عندما نجد حلا من فم فدرالي ينقّط عسلا) ليس الا صورة أخرى، أكثر اتساعا، لمثال ازدواج الغنى والفقر في مكان واحد. العراق الذي راح الجميع يحبه، ويتغزل به، ألا يقال إنه قوي بعمقه الحضاري والثقافي، أي أنه قوي من مسافة بعيدة، من عمق لا يقاس بالامتار، عمق خفي، صوفي .. الخ الا ترون كيف أننا التقينا بمثال البصرة الغنية من الاسفل والفقيرة من الاعلى. لا أمزح. ها هي ثروة حضارية في العمق ونحن الفقراء الذي جرى إذلالنا بالحروب والدكتاتوريات والاحتلال والقسوة والعنف والفقر والفساد والاكاذيب نطوّف فوقها خجلين.
كانون الثاني عام 2009

-------------------------------------------------------------
(1) في ازمة عدم توليه رئاسة الوزراء للمرة الثالثة قال المالكي إن عدم احترام الدستور – اي عدم حصوله على المنصب- سيفتح ابواب جهنم. كان هو من يدوس الدستور يوميا ويستخدم الدولة كمطية له ولحزبه . القاضي عبد اللطيف أخافنا من عدم الالتزام بالدستور لكنه صمت عن قيام النخب السياسية الدينية نهب البصرة . هل هو ليبرالي حقا؟!
(2)  الجيش الذي خشي القاضي عبد اللطيف من قيامه بانقلاب عسكري، سلّم مدينة الموصل للدواعش من دون ان يطلق اطلاقة واحدة!
(3)  تعد البصرة من أوسخ مدن العراق . فهل يظن فدراليو البصرة الجدد أن أوساخ العاصمة ترمى في مدينتهم؟ من الواضح أن حكومتها المحلية هي من العجز والافتقار الى الكفاءة المهنية والضمير الاخلاقي بحيث حولوا مدينة ساحرة الى مكب للأزبال.  لينظفوا مدينتهم على الاقل .. ليقضوا على لصوصها وسارقي نفطها .. ليعتذروا عن قتل اكثر من 70 امرأة ، وطرد المسيحيين والصابئة. ليقدموا بيانا توضيحيا عن الماضي الاسود الذي عاشته المدينة وما زالت تئن منه لكي نطمئن على أخلاقياتهم قبل طموحاتهم !

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  سهيل سامي نادر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni