... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
إبراهيم البهرزي: واقعنا العراقي بعجائبيته هو مخزن أفكارنا وليس المكتبة

صفاء ذياب

تاريخ النشر       09/05/2015 06:00 AM


التنقل بين عالم وآخر كان سمة الكثير من الكتاب العراقيين، بعضهم هاجر محلياً، فترك مدينته الصغيرة أو البعيدة عن العاصمة، واتجه إلى المدن الكبرى في سبيل انتشار سريع أو الحصول على فرص عمل تكون قريبة من اهتماماته، وآخرون تركوا العراق بحثاً عن الأمان أو العمل أو لخلق نماذجهم البعيدة عن التجربة العراقية. ربما يشكل هؤلاء الكتاب الغالبية العظمى من العراقيين، غير أن هناك بعض الكتاب كانت مدينته؛ حتى إن كانت صغيرة، عالماً كبيراً بالنسبة له، بتفاصيلها وبيوتاتها وناسها الذين ألفهم، ومنهم الشاعر إبراهيم البهرزي، الذي لم تغره العاصمة؛ حين أكمل دراسة الهندسة فيها، ولا مركز مدينته بعقوبة، بل كانت (بهرز) ببساتينها وبرتقالها الشهير، انطلاقة مهمة بالنسبة له، لتشكل فيها بعد محور نصوصه الشعرية وكتاباته العديدة، فأصدر «صفير الجوال آخر الليل» ومن ثمَّ «شرفة نيتشة» في مجال الشعر، غير أن هذا العالم لم يسع الكثير من أفكاره، فبدأ بكتابة مقالات استمرت حتى اليوم، هذه المقالات هي التي جعلته يشرع بمشروعين روائيين لم يكتب لهما النشر، بل مزقهما لينجز عملاً ثالثاً بعنوان «لا أبطال في طروادة» صدر مؤخراً في بغداد.
عن الشعر والبنى الثقافية العراقية، كان لنا هذا الحوار مع إبراهيم البهرزي:

■ أكدت أن المضامين تبتكر أشكالها وتقنياتها، ما الذي على الكاتب فعله لكي لا يكرر تجارب غيره من الكتاب؛ خصوصاً في مجال الشعر، الذي غالباً ما تتشابه نماذج الجيل الواحد في نصوصه وآليات تفكيره؟
□ وعي الشاعر هو المعول عليه أولاً، وعيه العام بكل متغيرات الحياة هو الضامن لدوام ديناميكيته وعدم سقوطه في التكرار، يحتاج الشاعر لوعي موسوعي وملاحقة متفحصة لكل المستجدات، الموهبة لوحدها لا تعصم من النمطية، والركون إلى إنجاز لافت والتمسح به طوال السيرة الشعرية يقود إلى التعفن، هناك نصوص جيدة ولكنها متعفنة لفرط التكرير وإعادة التكرير وليس التكرار فقط، تنطلق الحياة بمتوالية هندسية هائلة في حين تمضي بعض التجارب، وفق متوالية عددية تعتمد التراكم الرتيب، يحدث ذلك تحت تأثير مقولة أظنها فاسدة، مقولة تتحدث عن (البصمة) المميزة لأسلوب شاعر ما، وفي هذا انحراف عن المعنى الحقيقي للأسلوب، الأسلوب ليس شكلاً فقط ولا مضموناً متواتراً أيضاً، الأسلوب هو الحياة كلها، ومعروف القول الشائع بأن «الأسلوب هو الرجل»، وهو طبعاً ليس الرجل المستسلم لمتغيرات الحياة، بل المتفاعل معها والفاعل فيها وما فاعلية الكاتب غير نصه؟

■ مثلت سبعينيات القرن الماضي بداية الانهيار الحقيقي للحريات في العراق، وتبعتها في ما بعد العقود التالية، انجر هذا على الأدب والفكر والفنون الأخرى.. لكن ما التأثيرات المباشرة على شكل الأدب ولغته؟ وكيف تمكن بعض الكتاب من خرق هذه الشرنقة والعمل على إنتاج نصوص بعيدة عن مجازر الفكر التي كانت في زمن النظام السابق؟
□ الانهيار الحقيقي بدأ قبل السبعينيات، فمنذ أواخر الخمسينيات لم تعد هناك حرية حقيقية، حريات المؤدلجين ليست إلا عبودية مقنعة، ولكن لأن التقييمات عندنا لا تتم إلا من خلال المقايسة فإننا نذهب إلى الوهم، وهم الحرية قبل السبعينيات مقايسة بجبروت الطغيان الصدامي منذ نهاية السبعينيات، وهذا يسري أيضاً على كلامي، فحين أقول إنه لم تعد هناك حريات حقيقية منذ أواخر الخمسينيات فهذا لا يعني أن ما قبلها كان فردوساً حراً، هي المقايسة لا غير، وهي التي ستقودنا بالتالي إلى الحكم بأننا نعيش حالياً أسوأ الأزمنة، وهي صحيحة نسبياً كمقايسة لا كحقيقة قارة.
حين حكم الحكام الطغاة كانت توضع للكتاب علامات حمراء يعرفون التوقف عندها، ويحتال بعضهم عليها، وتلك من فضائل الأدب إنه يجيد الاحتيال، ففي وسع الكاتب استخدام آلاف الأقنعة، لكن المؤسف في هذه الطريقة هو تحول الكاتب إلى قناع بفعل الممارسة، قناع لا يشبه الوجه الإنساني، ثم لا يلبث أن يجد نفسه مشرنقاً في اغتراب روحي ووجودي لا تنقذه منه إقامة ولا هجران، أغلب كتاب العراق يعانون من محنة الاغتراب، بعضهم هجر الكتابة ليرحم روحه من هذه المحنة، خصوصاً من هاجر منهم، وبعضهم قاوم بطرق تجعل من الاغتراب نفسه مادة وحيدة للتعبير، وبعضهم حاول ويحاول النفوذ منه قدر ما يستطيع للتصالح مع الوجود، بعد الاحتلال ودعاوى الديمقراطية صارت الإشارات الحمراء لا تنطلق من الحاكم فحسب، فقد تكاثرت قوى الردع والمعاقبة والمحاسبة، صارت لرجل الدين إشاراته الحمراء ولشيخ القبيلة ولزعيم الجماعة المسلحة ولقاطع الطريق، حتى أن أغلب الطرقات صارت مقطعة بإشارات حمراء يحتار الكاتب كيف يحتال للعبور منها وهو مضطر للعودة ثانية إلى مخزن الأقنعة ليعاني مجدداً لوعة الاغتراب ومكابدة الخلاص منها، يبدو أن هذا البلد ملعون وأن الحرية خطيئة أصيلة فيه، ويبدو أن لعنته تطارد حتى الهاربين منه، فالكاتب العراقي في المنفى لا يكتب لقارئ مصري أو جزائري مثلاً، خطابه إن وصل إلى أبناء تلك البقعة من الأرض، سرعان ما يخسرهم إذا اغترب خطابه عن نكباتهم، لذا فهو في قلب الفجيعة حتى إن سكن الفردوس. هل تستطيع بعد نصوص السياب المفعمة برجاء العيش في فردوس اسمه العراق؛ حتى الشمس فيه أجمل من سواها والظلام حتى الظلام هناك اجمل! هل تستطيع أن تجد في نصوص العراقيين بعده مثل ذلك الانبهار بفردوس العراق؟ لن تجد.. ربما تجد الحنين لفردوس كان أو نشوة الخلاص منه، تلك الأحلام بالثورات والأوطان الحرة والشعوب السعيدة خبت حتى في نصوص عتاة الآيديولوجيين الدوغمائيين، لقد أدركوا أن المتلقي سيدير وجهه عنهم لو استمروا بهذه الآمال الكاذبة وهم يعانون ما يعانون في ظل أنظمة متعاقبة لا تحس ولا تفهم أبسط شروط الحقوق الآدمية للإنسان، لن تجد غير المناحات الكبرى خارجة عن مجازر الفكر المتعاقبة.

■ كان الرثاء والفجيعة من مقومات القصيدة التي تكتبها منذ بداياتك، حتى في مجموعتك الأولى «صفير الجوال آخر الليل» كان الرثاء يمثل المحور الأكبر، رثاء المدينة، رثاء الحياة، رثاء الأصدقاء…..، ما التقنيات التي جرحت من خلالها نصوصك رثاءات العرب التقليدية؟ ولماذا هذا الحنين الدائم للماضي ورثائه بأشكال مختلفة؟
□ رثاء الآخرين هو قناع أيضاً لرثاء النفس، الإحساس بالموت في عز الحياة يبدأ حال شعورك بافتقاد أول شرط آدمي. في جيل مثل جيلي؛ مثلاً، ولد أواخر الخمسينيات وشب أوائل السبعينيات كانت الشروط الآدمية للعيش تتساقط أمامه تباعاً، كنا لم نزل بعد في أول الصبا حين خدعتنا الجبهة الوطنية بين الشيوعيين وخصومهم البعثيين بأغانيها ذات المبالغات الفنطازية عن الفرح والأمل والسماء الصافية وأجنحة الحمام… ولا أدري ماذا؟ وكأننا نعيش في ظلال الفلاسفة المشائين والأبيقوريين وليس بين مخالب سلطة كانت منذ عقد فقط تضع الشيوعيين في أحواض السيانيد، كانت خديعة جديرة برثاء النفس، أعقبها تسلط رجل من شذاذ الآفاق مغرم بحماسات المجد والكرامة والعزة وضمير الأمة، ليقودنا إلى أتون حروب أتت على ثلاثة أرباع جيل كامل هو جيلنا، لم يكد يمر عام واحد منذ تسلطه وحتى اقتلاعه من دون أن تمنى بفقدان أخ أو صديق ليعقبه جيل من الحكام الهمج المنتقمين أبوا إلا أن يكملوا سيرة السبي العراقي الطويلة بالمزيد من بحور الدم… أليس كل هذا كان جديرا بالمراثي؟
مراثي العرب التقليدية لم تكن مؤثرة بقدر مراثي أمهاتنا وولولاتهن ليل نهار وهن مطمسات بالسواد منذ فتحنا عيوننا على هدهداتهن. أنا؛ مثلاً، لم أشاهد أمي ترتدي ثوباً ملوناً، كان السواد هو كل ما رأيته منها، وهو حال أغلب أبناء جيلي، ربما كانت ولولاتهن امتداداً لتراتيل الندب الرافدينية، فلا أثر لتقاليد الحداء والنعي الموجود في المراثي العربية التقليدية عندنا، أعني في البيئة التي نشأت فيها، وهي بيئة متنوعة قامت على أنقاض مملكة أشنونا الأقدم في التاريخ الرافديني. إنها مراثٍ تفتقد أحياناً للغة مكتفية بالهمهة والنشيج، وربما تكون هنالك لغة مضمرة قد نسيت في تفاصيل الأحزان..

■ على الشاعر أن يعبر عقبات كثيرة ليصل إلى قارئ حقيقي، ربما من أولها عدد الشعراء الذين من الصعب إحصاؤهم، خصوصاً في زمن التقنيات الحديثة، والاهتمام الكبير بالسرد عموماً والرواية على وجه الخصوص… ما الذي على الشاعر فعله تجاه كل هذا؟ وكيف يمكن أن ينتج نصاً جديداً وتجربة مغايرة؟
□ تصل القصيدة إلى المتلقي إذا كانت منطلقة منه لا من الكتاب، ليكن عدد الشعراء في العراق؛ مثلاً، هو مئة ألف، هل بلغ هذا العدد؟ لا ضير في ذلك ما دام هناك من المتلقين أكثر من عشرة أضعاف الشعراء! الهم الإنساني لا يخلو من شركاء، كما أنه ليس شرطاً أن تشارك الجميع بهذه الهموم، ولتكن حقيقياً أكتب عن مشاعرك أنت لا غير، فإنك ستجد الكثير ممن يتحسسون ما تكتب لأنني اعتقد، وقد أكون مخطئاً، أن لا صدق في ما يكتبه الآخرون عن الآخرين، الصدق الوحيد هو في ما تكتبه عن نفسك، والمتلقي إن لم يشاركك أحوال نفسك فهو على الأقل سيتحسس صدقك، عناه هذا أم لم يعنه، دمعة صادقة تهز الإنسان أكثر من ألف قهقهة كاذبة، والناس بالفطرة ربما لديهم الحدس القوي بتلمس الصدق حتى إن كانوا محدودي الوعي والتعليم. حدث أن رأيت صديقاً، هو شبه أمي، يبكي لنص كنت أظنه مستغلقا بعض الشيء، وحين سألته إن كان قد فهم شيئاً دعاه للبكاء، فقال أروع إجابة ربما لا يجيدها أفقه النقاد، قال: أحسست بشيء يحزنني لكنني لا أفهمه بصراحة. الصدق مع الذات يكفي حتى إن أوصلك لمتلق واحد صادق.

■ أكدت أن الشعر لم يعد يكفي للحديث عن آلامنا التي لا تنتهي، لهذا أصدرت روايتك الأولى «لا أبطال في طروادة» بعد محاولات سابقة لكتابة رواية… هل تبحث عن الواقع وتمثيله في عملك الروائي؟ ولماذا يشتغل أغلب روائيينا على السيرية في أعمالهم، في وقت أن الفن الروائي هو فن الخيال والابتكار؟
□ كما قلت، الواقع هو المخزن لا المكتبة، وواقعنا العراقي عجائبي يفوق في عجائبيته كل المدن التي استمد منها ماركيز عجائبيته الساحرة، لكننا في خضم معاناة هذا الواقع لا نستطيع تشريحه وسبره وأسطرته بما يتطلبه الفن الروائي، نحن ولشدة الإصابات المتعاقبة نعيش في حالة يسميها الطب (خدر الصدمة) أو ما نسميها شعبياً (الصواب الحار) بعدها ستمر مرحلة الألم الشديد، ألم الحادثة، ثم ألم الجراحة! حتى تحين فترة النقاهة التي نستطيع فيها سرد الحوادث بتلقائية، وربما يؤدي تتالي الحوادث والصدمات إلى نسيان بعضها الأقل ألما لصالح الأشد وجعاً، وبين هذه وتلك يسارع البعض إلى لملمة بعض خيوط الأحداث كما فعلت في روايتي «لا أبطال في طروادة» وهي للمناسبة ليست رواية سيرية خالصة، هي لملمة شتات جيل ممزق، وأي محاولة لربط الرواية بالسيرة الشخصية لكاتبها ستبهضها كثيراً، وهي لم تخل من الخيال والابتكار، وأكاد أزعم أن ما فيها من خروقات للواقع هي أقل واقعية بكثير من حقائق الواقع نفسه. أما أن تكون قد كتبت على نمط الرواية السيرية فهذا اجتهاد فني محض، وغالباً ما تكون الرواية الأولى لكاتب ما منساقة لهذا النمط من السرد، وهذا لا يعد من باب المران المحض كما يعتقد البعض، لكنه الشكل الأنسب لاستيعاب حزمة من الأفكار والقناعات التي تشكلت في وعي الكاتب، إضافة إلى أن هذا الشكل عموماً شكل قادر على تحمل بنى متعددة من أساليب السرد، أو هكذا اجتهدت.

■ التشوهات التي طرأت على البنية الثقافية العراقية نابعة من التشوهات السياسية التي كان لها تأثيرها الكبير على المجتمع، غير أن هذه التغيرات لم تأتِ بسبب العقود الأخيرة فحسب… كيف يمكن قراءة التحولات الثقافية العراقية؟ وما الذي نحتاجه لفرض هيمنة الثقافي وإزاحة السياسي الذي أكل حياتنا؟
□ فعلاً، ما نحن فيه حالياً من حال لا يسر هو نتاج سلسلة متعاقبة من الرعونات والغباء السياسي يمتد لأكثر من نصف قرن من الزمان، والثقافة والإبداع لا يحلقان خارج أسراب هذه الغربان التي ابتليت بها حقول أرواحنا. نكون غير منصفين ولا موضوعيين إذا ما ألقينا كل التبعات على حقبة محددة وبرأنا البعض، ولكن لنغدو موضوعيين أكثر، يجب أن نحمل كل حقبة بحملها الحقيقي من الرزايا، وفي ما يخص الثقافة تحديداً تتحمل الأحزاب الحاكمة أو المشاركة بالحكم وحتى بالمعارضة أحيانا وزراً كبيراً في تزييف صورة المثقف التي لم يخرج بسببها من عباءة شاعر القبيلة. الدولة كانت قبيلة والحزب قبيلة أيضاً، والكاتب في أحيان كثيرة كان صوتها المدوي التي تفاخر به الآخرون، وهذا ما خلق الخنادق المتقابلة التي لا تليق بغايات الثقافة. أدباء سلطة وأدباء معارضة، أدباء داخل وأدباء منفى، تصل الخصومات في ما بينهم حد التشهير وتسفيه المنجز الإبداعي للآخر، وهو كما ترى سبيل دنيء في المباهلة. وسطنا الثقافي في كل العهود لم يكن وسطا نزيهاً لا في الأحكام ولا في المنازعات، وهذا ما أدى إلى خلق مراكز قوى ثقافية في كل زمن تهيمن وتستبعد وفق آليات لا تمت للإبداع بصلة، كانت آيديولوجية في ما سبق، وضاقت آفاقها لتتحول إلى طائفية في ما بعد، وعلى هذا المنوال تشكلت الأجيال الأدبية والحسابات النقدية، ووفقاً لهذا تم ترسيم الراسخ والعابر. وفي ظل هذا الهرج ضاعت الكثير من المواهب الخجولة طمراً أو إحباطاً. إن تاريخنا الثقافي المعاصر مزور بالمرة ويحتاج إلى إعادة قراءة من نقاد بعيدين عن أي غيتو آيديولوجي أو طائفي، وهو أمر ربما لن يحصل في القريب المنظور، فهو يحتاج لشجاعة نادرة في زمن انحدر للأسف إلى أسفل درجات الخسة والجبن، لكن الأمل شجاع دائماً.
عن القدس العربي

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  صفاء ذياب


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni