... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
طهمازي.. دواوين قليلة ووجود كثير

عبد الزهرة زكي

تاريخ النشر       02/07/2015 06:00 AM



في الساعات الأخيرة، قبل ذهابي والصديق الشاعر عبدالرحمن طهمازي إلى فرنسا في تموز عام 2012، كنت قد قررت أن لا أسافر. كان هناك ظرف عائلي قاهرٍ لم يكن يسمح بسفري، فما كان لي سوى أن أتصل هاتفياً بعبدالرحمن لأبلغه قراري وأسفي لخسراني فرصة السفر معاً لحضور فعاليات مهرجان سيت الشعري الدولي في جنوبي فرنسا.
حاول طهمازي كثيراً ثنيي عن قراري وكنت أحاول الاعتذار وما كان لي أن أتراجع عن ذلك إلا فقط بعدما ختم محاولاته بقراره هو أيضا عدم السفر من دوني. تراجعت من أجل أن يواصل عبدالرحمن طهمازي السفر إلى فرنسا، وكان عليّ استثمار الساعات القليلة المتبقية لترتيب كل شيء إكراما لصديق ولشاعر ومثقف كنت دائما أعدّه واحداً من المعلّمين الكبار الذين تعلّمت منهم الكثير.
ليست كثيرة هي المرات التي التقيت خلالها مباشرة بعبدالرحمن طهمازي. كان لقاؤنا الأول في مساء نواسي ببغداد منتصف السبعينيات، كان معنا في ذلك المساء الشاعران شاكر لعيبي وهاشم شفيق.. في تلك السنوات كانت القصائد التي تُنشَر في الصحافة تحظى عادةً باهتمام مثل هذه الجلسات واللقاءات. لم يكن الممر إلى النشر سهلاً. كان الشعراءُ المتاح لهم النشر هم أكثر من سواهم مراقبةً لأنفسهم ولما يكتبون في التعامل مع فرص النشر المحدودة، ولذلك كانت القصائد المنشورة تحظى بتلك القيمة التي تأخذ معها وقتاً طويلاً، تأشيراً ونقداً وتقويماً، من لقاءات الأدباء والكتّاب وسهراتهم. كان الشعر محور حديثنا في الأمسية النواسية السبعينية، وكان عبدالرحمن طهمازي مبهراً فيها كعادته حين يتحدث عن الشعر من منظور ثقافي هو أوسع من حدود القصيدة كواقعة في الفن وكتعبير من خلال الفن.
في الثقافة العراقية بقي طهمازي يتمتع بصورة خاصة لا أحسب أنها ستتكرر كثيراً.. إنه شاعر في هذه الثقافة ولكنه مفكر في الشعر والثقافة. قد تبدو صفة (مفكر) كما تتداولها أدبيات الثقافة العربية صفة مضببة وهي قابلة للجدل، لكنها مع نموذج طهمازي تكتسب خصوصية معبّرة وهي دالة على نفسها بما جُبل عليه وجود طهمازي وبما يفصح عنه نتاجه المنشور منه وغير المنشور.
يبدو عبدالرحمن طهمازي فيلسوفاً وباحثاً في الأفكار والمعاني حين يكون في الشعر، لكن عبدالرحمن حين يكون في الفلسفة وفي نظام الأفكار الممتد من الانشغال باللغة نفسها حتى تخوم التاريخ، تاريخية الأفكار وسيرتها وموضعتها وجدلها وتقاطعها مع بعضها فإنه لا يبتعد كثيرا عن طبيعته ورؤيته كشاعر. وهذه الطبيعة لا تعود سلبية في هكذا حضور وهكذا اشتغال ما دامت ليست مزاجاً مائعاً في تأسيه وفي تعاطفه أو معارضته قدر ما تكون نزوعا إنسانياً حياً وحيوياً، إنه نزوع تتطلبه الفلسفة والتفكير ويتحراه الفلاسفة.
في مرتين مبكرتين كتب عبدالرحمن طهمازي عن قصيدتين لي بمناسبتين مختلفتين. وفي كل مرة كنت أكتشف قيمة أخرى لقدرة الكتابة النقدية على أن تضيء فعلاً وعلى أن تجعل أفقها أكثر سعةً من مجرد التقويم.
وفي مرتين سافرنا معا، قبل السفر إلى مهرجان سيت بمدينة بول فاليري بفرنسا كنا قد سافرنا إلى سويسرا للمشاركة في أعمال مهرجان المتنبي الدولي للشعر.. وفي المرتين كنت أكتشف عبدالرحمن طهمازي بما لم تتحه اللقاءات غير المخطط لها في بغداد بيننا وبما لم توفرة بشكل كاف القراءة.
الدواوين القليلة لعبدالرحمن تعبر بفصاحة بيّنة عن هذا. وهي دواوين تشبه صاحبها كثيراً. عبدالرحمن إيقونة لا تخطئها العين في ثقافتنا وبين مثقفينا، بينما شعره يتميز هو الآخر ولكن بوحشة تنأى به عن النتاج الشعري بطبيعته العراقية.
هكذا تقدَّمَ ديوان (ذكرى الحاضر) إلى جمهور القراء في السبعينيات.
لقد كانت دواوين الشعر العراقي التي صدرت في سبعينيات القرن الماضي قليلة إذا ما قورنت بما كان قد صدر منها في عقود تالية وليس بالقياس إلى العقود التي سبقت تلك السنوات.
لكن السبعينيات كانت استثنائيةً في انضاج الحداثة الشعرية العربية، وكانت دواوين السبعينيات العراقية علامات مهمة للتعبير عن مستوى واتجاهات ذلك النضج، وكان من بين تلك الدواوين ديوانٌ بدا لافتاً بدءاً من عنوانه (ذكرى الحاضر)، وليس انتهاءً بفرادة اشتغاله الشعري الذي لم يكن مألوفاً كثيراً في الشعر العراقي، وبين الحالين: حال التسمية وحال الفرادة يُختَصر جانبٌ كبير من تجربة عبدالرحمن طهمازي في الحياة الثقافية وفي الشعر العراقيين خلال أكثر من نصف قرن.
كان (ذكرى الحاضر) هو ديوان الشعر الأول الذي يصدر للشاعر طهمازي في بغداد، فيما كان حضور عبدالرحمن طهمازي في الثقافة العراقية متقدماً كثيراً على مناسبة الإصدار الأول.
هذا الحضور المتقدم هو ما كان يجعل وجود عبدالرحمن طهمازي في مهرجان، مثل (سيت) الفرنسي وقبله (المتنبي) السويسري، حدثاً ومناسبة جديرين بالوقوف عندهما.
في (سيت)، كنا وحدنا، عبدالرحمن وأنا، نقيم بفندق بدا أفضل حالاً من فنادق ومنازل أخرى أقام بها ضيوفُ فاليري الآخرون، وكان من محاسن هذا السكن بعدُه النسبي عن مكان فعاليات المهرجان، حيث وفّر البعد متعةَ التمشي يومياً مع طهمازي في مدينة غريبة على كلينا، مما جعلنا نستغني عن السيارة التي خُصِّصت لنقلنا بين الفندق ومكان الفعاليات.
عبدالرحمن رجل في العمق من الحياة حتى حين يكون على سطوحها، وهكذا هو وجوده في اللغة والفكر أيضاً.. ولا أدري الآن ما إذا كان يجعل من الحياة وسيلة لاختبار اللغة والفكر ونشدان إصلاحهما أم هو يعمد إلى امتحان الحياة ومساءلتها عبر اللغة والفكر. الشعر، وربما الفن بشكل عام، كفيل بهذا الجدل الحيوي الذي يديره طهمازي بتوزان مدهش.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  عبد الزهرة زكي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni