... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  في السياسة

   
يحيى الشيخ ينثر رماده في فضاء الفن

فاطمة المحسن

تاريخ النشر       24/10/2015 06:00 AM


    الفنان التشكيلي العراقي يحيى الشيخ، أنتج منذ الستينات أعمالاً بدت على قدر من الاختلاف مع السائد، وشكّل مع فائق حسين الفنان المتميز الذي رحل مبكراً، ما يشبه الثنائي فيما قدماه من مقترحات جمالية لفن الكرافيك. أصدر هذه المرة مدونات حياته الشخصية في كتاب عنوانه "سيرة الرماد" وعبره يمنح متابعيه فرصة موازية في اختبار حياة تقف على الضفة الأخرى لفنه البصري. يقترب الشيخ من قوة التعبير والدقة في العودة إلى محطات حياته وسيرة الفن التشكيلي في العراق، حين غادر قبل أربعة عقود، وكأن هذا البعاد قد جعله أكثر رهافة في التقاط تلك المسيرة المضنية التي طاف فيها بلاد الله، مذّ خرج من قريته "اللطلاطة" الصابئة المندائية التي تقع على ضفاف نهير في أقصى الجنوب، حتى استقراره الأخير في النروج. رحلة يصحبنا بأدبية تعبيره، وذكائه في التقاط زوايا التناول وطرقها، عدته حصيلة واضحة من قراءاته التي تختزن خبرة التواشج بين أنواع الفنون. وكي يحدث ما يشبه المفارقة يقول لقارئه:

"فشلت في أن أصبح كاتباً" وهذه الجملة تؤكد هاجساً من هواجسه وهو يخوض مغامرة جمع فيها شتات العوالم الراحلة في ذهن فنان تجاوز السبعين ليجعل منها مرويات خبير بالحياة والأفكار والصور. لعل الكتاب بأكمله عبارة عن سياحة في عالم الكلام المدون، فالتشكيل فن الصمت واختزال المعنى كي يجابه النظر ويحاور معنى البصيرة، في حين تدوين المرئيات والعواطف والأفكار وانتقالها من الصورة إلى اللغة، يصبح عبوراً طقسياً نحو طرائق جديدة في التخاطب والإفصاح.

يضع سكيتشات لحياة مبعثرة بين الرسم والكرافيك والسير عبر الطرقات، فهو مشاءٌ كما يقول، يخاطب نفسه وأفكاره خلال سيره. توقه للتأمل في الفن التشكيلي وفي فنه على وجه الخصوص، حاوله في هذه السيرة وفي مجموعة كتب نشرها مؤخراً، وهذا المسعى بدأ لديه منذ وقت مبكر وعلى وجه الخصوص فيما كتبه في السبعينات والثمانينات. وضع الروائي لؤي حمزة عباس مقدمة وافية للكتاب تدور معظمها حول معنى كتابة السيرة وتنشيط مخيلة الذاكرة، وهو يعتبر هذا العمل: "في مقدمة مؤلفات السيرة الذاتية في الأدب العراقي الحديث".

يبرز النصف المخفي من حياة الصابئة المندائيين في كتاب الشيخ، وتختفي أو تكاد معاناتهم في عالم إقصائي مثل العراق، ربما لأن صاحب النص عاش فترة التآخي الحضاري أو صعود خطاب اليسار الذي لا يعبأ بفكرة الأقليات والأكثريات، أو أن حياته الشخصية والعائلية لم تصادف مثل تلك المعاناة، فهو عندما يستذكر صباه يسترسل ببداهة: "لا عوز ولا جوع ولا خوف يهددني، فمن أين تأتي الأسئلة لصبي مثلي" وهذه نظرة تعزز الاعتقاد عند قائلها بتجاوزه ذاته إلى ما هو أبعد منها، ولكن الزمن المساواتي لا يمكن تعميمه على تاريخ عاشته القرى النائية التي تسودها الأمية.

الصابئة المندائيون من سكان البلد القدامى وأصحاب عقيدة غنوصية، بقايا تلك الإرهاصات المندثرة للديانات التوحيدية. تميزوا بين ناس العراق الجنوبيين، بجمال الخلقة وحُسن الطباع وضرب من طقوس التعميد الموغلة بالقدم، هذه الطقوس جعلت علاقتهم مع الماء لا فكاك منها. بحثوا على أطراف أهوار العراق وأنهاره الكثيرة عن مستوطنات ترتبط بالقرى والمدن القريبة بتبادل المصالح، فهم صاغة وصنّاع مهرة، أتاحت لهم الحياة المدينية للعراق في مختلف العصور أن يبرز منهم قادة وعلماء وفنانون، وشأنهم شأن المسيحيين واليهود والإيزيدين والشبك، كلما ينحسر التمدين أو تتراجع الأفكار الطليعية يدفعون الثمن.

يقف الشيخ في هذا النص عند محطات مهمة من سيرة العراق، ولكنه يسلط حزمة ضوء قصصية على حياة شبه سرية عاشها أبناء ملته، وصدر عنها مؤلفات قليلة وفي مقدمتها كتاب عزيز سباهي الأبرز في هذا الباب "أصول الصابئة ومعتقداتهم الدينية". ولكن عرض الشيخ الذي يقدم فيها نفسه وعائلته يؤطر تلك البيئة بحميمية الذكرى ونسغ الحياة: "مشروعي الذي استهلكته في استيعاب العالم وفهم الآخرين"، ومع أن الإضاءة القصصية تبقى تبحث عن الهويات الناقصة، فالهوية كما يقول الشيخ تبقى متبّدلة: "الشك يكمن في بنية الهويات مهما بلغت نقاوتها" ولعل هذا الكتاب عودة لاسترداد تلك الحياة التي خلّفها وراءه عندما غادر العراق: هوية الوطن والطائفة والانتساب الحزبي. الأولى برحيله عن بلده والثانية بزواجه في الكنيسة، والثالثة بخروجه من الحزب الشيوعي، ولكنه يبقى في شك من أمر كل تلك الانتقالات: "كان الخروج منها طويلاً وشاقاً ومعذبّاً، ولم ينته بعد، في الحقيقية لا أرغب فيه".

يحيى اسم مبارك عند الصابئة وهو لأحد أنبيائهم الأساسيين، ولأن الطفل ولد كما يقول في أقدس أيام ديانتهم: أيام الخلق، فقد كانت مهمته المساهمة مع الكهنة في التعميد على ضفاف الأنهار وكسر جرار الزروع لمباركة العريس واستقبال يوم الفرح، كما كان عليه أن يشهد نحر الطيور على ضفاف الأنهار. مهمات عسيرة مارسها الولد المبارك وأطل الكاتب عبرها على باب بقي موارباً في حياة الصابئة المندائيين، ولكنه يقدم أجمل الفصول حين يكتب عن قريته الأولى التي تشف فيها الكلمات وتتوهج الذاكرة الرومانسية لتكشف عن عالم بدئي يعج بالماء والزروع والطيور والحيوانات التي تصاحب الناس في البيوت والمزارع. يرسم خريطة المكان ويضع معالم تضاريسه: "الشارع الأطول شارعنا، يبدأ من جرف النهر الحاد ويمتد بعيداً، يشطر المقبرة نصفين ويختفي في أفق مترب. بيوت الكهنة: آل زهرون وأهلهم (الارستقراطية الدينية) والمعبد الخاص بهم (المندي) تطل على النهر. العوائل الأقل حظوة (النجارون والحدادون) على تخوم المقبرة من الخلف. عبرها كنا نرى القادمين من بعيد. المسافة المكشوفة تبدد المفاجآت". وهكذا يمضي في استذكار انتقالات عائلته من القرية الصغيرة إلى "العمارة" ثم بغداد، ونشاطه الحزبي في أكاديمية الفنون الجميلة، فيقدم صورة العاصمة والمدينة الجنوبية في زمنين مختلفين، ولكنهما يلتقيان حول فكرة التحضّر التي طالت حتى القرى النائية في الخمسينات والستينات. يسهو وهو يتذكر سيرة المنفى عن عائلته الصغيرة وزوجته التي صاحبته تلك الرحلة، في حين تبرز صورة المكان الفني لتطغى على الجزء الثاني من الذكريات.

يتوقف يحيى الشيخ عند مراحل السجن والنضال وعالم يتسع للأب المهاجر إلى البحرين، والأم التي ترى الأشياء رغم عماها، وستوديو الفنان المتنقّل عبر القارات، والأماكن المأهولة بالريش والصوف والكانفاس، والحانات والطرق البحرية. يتعب المؤلف في فصل الكتاب الأخير، فسيستبدل القص بالشعر، مقايضة من يصغي إلى ترديدات الولد المبارك الذي كانه، وتمتمات كهّان القرى البعيدة، وخرير مياه السواقي، وطين مطواع صنع منه يحيى الشيخ أول مبتكرات فنه.


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  فاطمة المحسن


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni