... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
الطوائف القاتلة: سير وشوارع وأحياء قتيلة

حسام السراي

تاريخ النشر       15/03/2016 06:00 AM



"لماذا كلُّ هذه الحجب،.. وهذه اللحى التعيسة، وهذه الدعوات إلى القتل؟ لماذا كلّ هذا القدر من مظاهر السلفيّة والعنف؟" -
أمين معلوف

 لم يكن السيّد النائب (1) قد وصل بعد إلى سدة الحكم، ولم تكن بغداد قد توّجت بوصف مدينة النعوش الملفوفة بعلم البلاد، تزوّج عبدالسادة السراي من هيفاء الطالب، كان في زواجهما 1978 اقتران بين طائفتين ومحافظتين وبيئتين، ابن مالك أرض في الجنوب (الناصرية) صارع الإقطاع من أجلها وأيّد مؤسّس الجمهورية الأولى عبدالكريم قاسم حتّى تمّ سجنه مع اغتيال "الزعيم" 1963 (2)، وابنة ضابط موصليّ تدرّج في سلك العسكريّة، مانحاً عائلته حقّ الانتساب إلى حيز الأرستقراطيّة العراقيّة.

يحدث أن تسجّلك بيانات الولادة، الوليد الثاني لهذه العائلة، يومها كان قد مرّ على الحرب العراقيّة الإيرانيّة عامان من عمر هذه المحرقة، التي ما أن انتهت بعد الولادة بـ6 سنوات، حتّى حدثت الانتقالة النهائيّة إلى بيت ملك صرف في حيّ الغزالية بجانب الكرخ، بعد تنقلات بين مساكن في الوزيرية والأعظمية بجانب الرصافة. في "الغزالية، رسمت ملامح سيرنا كلّها، سيرتنا مع بغداد الحرب والحصار ومع فكرة الجوّ الأسريّ الذي حصّننا من سؤال مرّ، سيظهر لاحقاً إنّه جواز السفر الضامن للبقاء حيّاً وللاحتماء من النقيض المُفترض، حيث المضمون المكروه والبليد: هل أنت شيعيّ أم سنيّ؟ وهو ما أبعدنا عنه ذلك البيت أيّما بعد.

مكتبة وحديقة

هناك بدأ التشكّل الأوّل، مكتبة ضخمة وأرشيف أوراق ومسوّدات قصص وروايات لم تنشر بعد، عالم الأب الذي وجدت نفسي فيه، وثمّة حديقة وبضع "سنادين" نباتات، هي العالم الأوحد للأمّ التي تمازح أولادها بلكنة وعبارات من لهجة مدينتها القديمة "أغشعكم" (أراكم) و"حيفي" (حافي القدم) و"لسينو" (لسانه)، شارحة لهم معاني ما تقوله.

في مدرسة الأنوار الابتدائيّة، حيث أوّل شوارع الغزالية، تتلمذت على يد مجموعة معلّمات، وهناك تحرّك بداخلي شيء مجهول تجاه أوّل صبية ما بين "الخامس" و"السادس" الابتدائي، اختفت وهاجرت لاحقاً مثل بقية الشخوص الذين تفرّقوا ولم تبق منهم غير ذكريات لوّنها الدم في عصف العام 2006 الذي سيغّير ليس مصائر الشخوص في هذا الحيّ فقط، بل شكله ونسقه المدينيّ.

هيبة تلك المرشدة في المرحلة الابتدائيّة، بقيت راسخة، إنّها إيمان عبدالرحمن، المعلّمة التي تركت أثرها في تكويني. هي أكثر من أحببته خارج نطاق العائلة، ليس لأنّها حفرت في الأعماق ثقة بالنفس، وليس لأنّها أسرفت في التعويل عليّ منذ ما كتبته ضمن التقييم النهائي لي في البطاقة المدرسيّة، بل لأنها فعلاً ذلك الملاك الذي ارتاح له الطفل الحريص على عدم الخطأ في دروسه كي يحافظ على رضاها في المقدّمة ومن ثمّ بقية المعلّمات بدرجة أدنى منها. لم أكن أتصوّر إنّي سأفتقد رؤيتها- قسراً- ومعها دفء أحضان قابلتني به يوم تسلّمت نتيجة "البكالوريا" أوّلاً على العراق بنسبة 100 %.

 وسيم مؤيّد، وشهد، وشيماء زهير، وهند علي عبّاس، وليث عبدالستار، وزيد وعدالله، وسيف فليح، أمثلة عن زملاء من مكونات عراقيّة مختلفة، جمعتنا طفولة واحدة وحلم مشترك ببلوغ النجاح، هذه المجموعة ستنجح لاحقاً في دخول كليتي الطب والهندسة، حيث أغلبهم صار بعيداً عن الغزالية، وقسم صار أبعد عن العراق كلّه.

كان من بين أطفال الحيّ، اثنان من الصبيّة، واحد كان زوج أمّه يجبره على الصلاة ولو بالضرب المبرح، تورّم جسده حتّى حفظ سورة "الفاتحة" وأتقن بقية الشعائر وهو صغير لا حول له ولا قوّة، الثاني يهرب من المدرسة ويختفي ساعات وأيّام، تبيّن لاحقاً إنّه كان يسرق الدراجات الهوائيّة وتطوّرت معه المهنة حتّى راح يسهم في سرقات كبرى.

 ذاكرة مع القاذفة والكلاشنكوف

 كالمعتاد، تفرّقت مجموعة مدرسة "الأنوار" من البنات والأولاد، وشقّ كلّ منهم طريقه، وعبروا بقية المراحل، مع سنوات الحصار والقصف الأميركيّ لبغداد العام 1998 ضمن ما سمي في أدبيات الإعلام بـ "ثعلب الصحراء"، ومن ثمّ صار الفتيان منهم أمام واقع الاستجابة لقرار تدريب جميع طلاب المدارس المتوسطة والإعدادية في "جيش القدس".

حينها بدأنا نبحث عن مستوى تعليميّ أفضل، لم يعد هذا الحيّ يوفّره كليّاً، فاستقرّت الوجهة إلى إعدادية الخضراء، ضمن الحيّ المجاور، فيما ذهب آخرون إلى اعداديات في الكاظمية والمنصور.

انتظم الطلبة على شكل كراديس، في الساحات أو الشوارع المحاذية لكلّ مدرسة ضمن تدريبات أوليّة، وانقسم طلاب إعدادية الخضراء على كردوس للتعلّم على الرمي بالمسدس، وكردوس للتعلّم على بندقية السيمينوف وتفكيكها، أما نحن طلاب الخامس والسادس العلميّ والأدبيّ فكان أمامنا الالتحاق أمّا بكردوس "القاذفة" وأما "الكلاشنكوف".

مثلاً يهتف كردوس "الكلاشنكوف": "يكولون يكولون عدنا سلاح أمريكي.. ما يدرون ما يدرون عدنا بطل تكريتي" (3)*، وكذا أنشودة ثانية يختارها الضابط المشرف على تدريب كردوس آخر.

في حين كان على الكراديس أن تلتحم من الأفرع الجانبيّة في حيّ الخضراء، لتلتقي عند الشارع الرئيس المجاور للمدرسة، وهي تردّد مع حركة سريعة ومنضبطة للقدمين، بصوت عال، وأيديها على الأنطقة التي ترتديها: "طالعلك يا عدوي طالع من كلّ بيت وحارة وشارع.. طالعلك هيي يا عدوي هيي"، لتتوقف جموع الطلبة عند باب الإعدادية في مشهد تبدو ملامح الذلّ والمهانة بائنة على وجوه مدرسينا قبلنا نحن طلبتهم، كلّنا مجبرون، لكنّهم ثابتون في أماكنهم بلباس زيتونيّ يراقبون الضباط الذين يدربوننا، ونحن نضيّع الوقت بالتحرّك والتدرّب بملابس الجيش العراقيّ التي وزّعتها إدارات المدارس في العراق كلّه.

أوّل أنشودة موت

 أنشودة "طالعلك.." بمنزلة أوّل أنشودة موت أسمعها في حياتي وأردّدها مجبراً مع جمع من أترابي، كنت أمقتها وإن ارتبطت في الأصل بقضية عربيّة كيانيّة هي القضية الفلسطينيّة. وقتذاك انتشرت ببغداد تسجيلات لأغان عدة، منها لسعدون جابر: "يا شعبنا اليعربي": "يا شعبنا اليعربي الله أكبر، بمكة وقبر النبي الله أكبر، بأرض الحجاز ونجد الله أكبر، التمت جيوش الحقد الله أكبر.."، وأغنية لهيثم يوسف عن صدّام تقول كلماتها: "علينا بالتساوي فاض حبّه.. هم شفتي يا دنيا مثل أبونا"!.

أغنيتا سعدون جابر وهيثم يوسف لم تستفزّاني بقدر الاستفزاز الذي حققته "طالعلك" بمضمونها ولحنها الذي ساقونا إليه سوقاً، وكان مدرس اللغة العربيّة إبراهيم إدريس من تلمّس ذلك بقوّة، وهو يربت على الكتف: "تحمّلوا المهم أن تكملوا الدراسة".

وفي يوم ممطر من أيّام الإعدادية أواخر تسعينيات القرن الماضي، شعرنا ونحن نتوجّه إلى ساحة الرمي في معسكر النهروان، إنّ شباب كردوس "القاذفة الـ "RPG" أكثر هيبة منا، توسّط بعضنا كي يسمح له الرمي بالقاذفة، وفعلاً كان لنا ما نريد، على هدف من دبابات وسيّارات معطوبة خصّصت لذلك، لم أفسّر مع نفسي، إلا بعد عقد من الحادثة، هذا الاندفاع نحو السلاح وكيف افترقنا عن ذواتنا وتربيتنا المسالمة، في رغبتنا بالتصويب على الهدف، ربّما الكتابة ومنها هذه الأسطر، إحدى العلاجات التي توسّمنا فيها الخلاص من الخراب العميم الذي لحق بأرواحنا وسلوكياتنا.

أول سيّد نائب أراه

حتّى حانت ساعة الاستعراض في يوم "النخوة" 1998، تجمّعنا منذ الفجر استعداداً للذهاب إلى ساحة الاحتفالات، وصلت مع إعداديتي، كأنّي وجدت أمامي الشعب العراقيّ كلّه، بشبابه ورجاله ونسائه، هناك- قبل أن نبدأ المسير- لمحنا من بعيد صدّام (السيّد النائب سابقاً)، يلوّح للمستعرضين بيده وهم يحملون البنادق على أكتافهم، ليكون الأوّل في قائمة (السيّد النائب) الذين رأيتهم في حياتي.

 وسط ذلك الجوّ حيث كلّ كلمة محسوبة والخوف سيّد المشهد، كان في الغزالية، جوّ هامشيّ منفلت من الإطار العام، شباب تتوثّق صداقاتهم، لا أحد يبحث عن انتماء الآخر ودينه، بينهم هويّات شتّى وأغلبهم من أبناء الطبقة الوسطى أو أدنى بقليل، لهم هواياتهم، بين لعب كرة القدم وعشقها، نتذكّر هنا من أبناء الحيّ، اللاعبين الدوليين: أحمد عبدالجبار وغيث عبدالغني وهشام محمّد وأحمد مناجد، وبعضٌ هوايته التي احترف فيها هي غراميات متجدّدة، عدّت "أسواق الزاوية" ميداناً لتداولها، هناك يلتقي الشباب المودرن، كنّا نعرف منهم آخر التحديثات في سير الجميلات، نتلذّذ بالاستماع إليهم، ومنها قصّة هؤلاء الثلاثة: كرديّ وسنيّ وشيعيّ يحبّون الفتاة ذاتها ويتنافسون عليها، وهي التي اختارت في النهاية غيرهم أصلاً.

 مع الدراسة الإعدادية وبدايات الدخول إلى الجامعة، تعمّقت مرحلة المواجهة للظرف الاقتصاديّ الصعب، بالانخراط الشخصيّ في سوق الكتب، وحفظ تفصيلات المسار اليوميّ من الغزالية وحتّى شارع الرشيد، حيث الطريق التاريخيّ المنكسر وبؤس الوجوه التي فيه.

 تمرين مجانيّ وأقنعة متبدلة

وللعلاقة المستديمة مع صفّارات الإنذار، عدنا إليها، أواخر العام 2002، مع قرب الاجتياح الأميركيّ للبلاد، كانت الأجهزة الرسميّة تمرّن أسماعنا على التهيّؤ للقصف المنتظر. بدأ الإعداد للحدث في الجامعات والمدارس بالتوجيهات والخطاب التعبويّ نفسه "بهمّة القائد صدّام سنهزم مخططات الأميركان وتهديداتهم"، من ألسن أدمنت النفاق وأخرى أصحابها خائفون من سطوة النظام المترنّح، إلا أنّ ما تلا ذلك خبّأ ما لم يكن متوقعاً، فلم يسقط فقط السيّد النائب (أعني صدّام)، جسداً وتماثيل، بل سقطت معه بعض الأقنعة لقتلة وكتبة تقارير هربوا إلى غير رجعة ولبس بعضهم أقنعة جديدة بحلول زمن الطوائف، وانكشف أمامنا سراق من بين الناس الاعتياديّين، تصوّروا إنّ الفرهود ونهب الممتلكات العامّة معاول للانتقام من الدولة الظالمة، فشرعنوا لأنفسهم ما أرادوا.

دخلت القوات الأميركيّة واختفى من اختفى من ضباط مخابرات وأمن، لكنّ الحيّ بقي على حاله حتّى العام 2005، عندها بدأت حوادث التصفية الجسديّة، في هذا العام ودّعت مفاتن الحرم الجامعيّ والذكريات المحبّبة فيه بالتخرّج في كلية الهندسة بجامعة بغداد.

ابتهاج غير مسبوق في دواخل المهندس الذي قرّر المضي في مضمار الكتابة، فطموح العائلة قد تحقّق، وشهادة التخرّج وصورته صارت من سعادات الأب الجنوبيّ والأمّ الموصليّة، ولم يكن يزعزع هذه البهجة الداخليّة، غير أخبار الحيّ وقصص المقاتل المتناسلة فيه.

كان عليّ- مع أخي الأكبر- الاستجابة لطلب الوالدين بترك المنطقة نهائيّاً، وزيارة العائلة بشكل متقطّع مع تزايد حالات الاغتيال التي لم تكن واضحة الأسباب حينها، ثمّ تطوّرت إلى أعمال انتقاميّة، بعثيون قدماء يجري تصفيتهم وعدا أولئك من عمل في المؤسّسات الجديدة وجرت ملاحقته وقتله، ومن هذه القصص، شاب كان يعمل في إحدى المؤسّسات الصحافيّة الدوليّة، خرج والده بسيّارته، إذ انهال الرصاص عليه فأردوه قتيلاً، وفي مجلس العزاء، اتصل القتلة بالشاب لتعزيته وتقديم الاعتذار للعائلة، لأنّه هو الهدف وليس أباه!.

شهران على الحادث، والشاب "الهدف" جلبه حبّه لفتاة من طائفة أخرى، وبدل أن يراها سرّاً في أحد الشوارع الخلفيّة للحيّ، رأته الغزالية علانية مضرجاً بدمه.

معركة "الطاخ طيخ"

 ومع اشتداد الاشتباكات بين القوات الأميركيّة والمسلحين الذين كانوا يطلقون على أنفسهم اسم "المجاهدين"، حدثت في "الغزالية" أيّام شهر رمضان 2005، مواجهة رهيبة امتدّت لأكثر من ساعتين ونصف الساعة، لم تنته إلا باختباء من بقي حيّاً أو من لم يعتقل من المسلحين، بين البيوت، أحد هؤلاء دخل- تحت تهديد السلاح- على عائلة كانت تتهيّأ لتناول إفطارها، نزع لثامه وجلس بين شباب وشابات البيت المعني، متناولاً صحن الحساء، وهو يقول: "طعم أكلكم طيب وأنا الآن واحد منكم لو أتى أحد وفتّش البيت"، ولمّا جوبه بالصمت دعاهم ليأكلوا وليتصرّفوا بنحو طبيعي.

 انتهى إفطار العائلة الرمضاني، بعد أن خبّأ المسلح بندقيته في خزان الماء بسطح المنزل، وبتلقائية عالية عاد إلى صالة البيت باحثاً عن قدح من الشاي.

 نقضى التفتيش في الحيّ، وعند الصباح طلب ملثم الأمس من ربّ الأسرة إيصاله إلى أقرب نقطة من الخط السريع نحو "أبو غريب"، خرج تاركاً سلاحه والسروال الذي خلعه، مرتدياً ما منحته إيّاه العائلة، كي يبدو مدنيّاً لا شأن له بمعركة "الطاخ طيخ".

 بورتريه مشؤوم

أخذت شوارع بغداد، وبالأخصّ مناطق العمليات والخطف والاشتباك، تفرغ من المارّة عند 4 عصراً، وأمسى التوقيت بين الساعة 8 إلى 10 مساء، الأنسب لزيارة العائلة والبقاء عندها حتّى ساعات الفجر لمرّة واحدة أو مرّتين شهريّاً، كي لا تنضم إلى قوافل الضحايا الذين يقتلون يوميّاً، ومن هنا رُسم البورتريه المشؤوم لـ "الغزالية" التي ستنقسم لاحقاً بين السنة والشيعة.

أمّا الجماعات المسلحة وميليشيات الطرفين من الطائفتين، التي رفعت بعد نيسان 2003، شعار مقاومة المحتل الأميركيّ واشتبكت مع قواته ببغداد فعلاً، والتقت في أكثر من موقف وحدث، ربّما أحداث الفلوجة 2005 المثال الأقرب، غير إنّها سرعان ما غدت بمواجهة بعضها بعضا. كان المسلحون السنة في الغالب يمثّلون المتضرّرين من سقوط النظام السابق، ممّن خسروا وظائفهم وسلطتهم، وهم في الغالب منتسبون في أجهزة أمنيّة أدارت الدولة ظهرها إليهم ولم تحتكم إلى القانون في حسم أمر المجرم أو البريء من بينهم. في حين كان المسلحون الشيعة، يتوزّعون بين بعض المنفيّين التابعين لتنظميات إسلاميّة سياسيّة معروفة عادت بعد نيسان 2003، وشكّلت ميليشيا "جيش المهدي" (حديثة التأسيس عندها) القوّة الكبرى بينها، وهم من الشباب المندفعين الذين أمسوا في قلب مواجهة تورّطوا بالاشتراك في عنفها الطائفيّ، في إطار جرائم الفعل وردّ الفعل التي انساق إليها الجميع.

الجميع يقتل، الجميع يهجر، ولم يعد مهمّاً البحث عن حقيقة من بدأ بذلك، فقد تداخلت الأخطاء والدماء البريئة من الطوائف كلّها، بل ومن الأديان أيضاً، حيث مسيحيو العراق أكبر الخاسرين في أغلب الأحياء البغداديّة، فغيّبوا من المعادلة الجديدة باحترابها العلنيّ.

سريعاً امتدّت الحرب الطائفيّة في شوارع بغداد، قبل أن تغدو أمر واقع في 2006 سيطرات وهميّة وتنقّل صعب وأحياناً مستحيل بين المناطق، وقتل على الهويّة من مظاهره الرؤوس والجثث المثقوبة بالرصاص، وتمترس فظيع خلف الطوائف، معها انتهت صورة "الغزالية" القديمة، بدأ الرصاص ينهمر على الشباب والبيوت وكتبت عبارات الوعيد على جدران الحيّ في معركة كبرى انطلقت شرارتها بين "النواصب" و"الروافض" (4)* في هذا البلد.

ثاني وثالث سيّد نائب ألتقيهما

وفي خريف 2005، مع الانضمام إلى أسرة تحرير جريدة "الصباح"، تتويجاً لجهود وكتابات بدأت مع الشاعر والصحافيّ علي عبدالأمير عجام، الذي سرعان ما غادر العراق بمقتل أخيه الناقد قاسم عبدالأمير عجام بكاتم صوت، كان عليّ إثبات حضور فيما أكلّف به صحافيّاً، ومن ذلك تحقيق عن استعدادات الأحزاب والكتل السياسيّة لانتخابات كانون الأوّل 2005، فالسياسيان نوري المالكي وطارق الهاشمي، من بين ما طلب مني مقابلتهما وسط ذلك الاضطراب. وجهة أولى صوب المنطقة الخضراء للقاء عضو "الائتلاف العراقيّ الموحّد"، نوري المالكي (كان اسمه جواد)، وقبل أن يشرح شعار ائتلافه "أمان واعمار ووحدة وسيادة وازدهار"، بينما أتحدّث معه عن فكرة التحقيق، قال: "أسئلتكم أنتم الصحافيون مثل سلق البيض، لذا باشر بطرح ما تريد"، جوابه كان مقدّمة عن أهمية وعمق ما سيدلي به من معلومات، واصلت بعد ردّ دبلوماسيّ ملتزماً بلياقات العمل الصحافيّ فيما النتيجة خطاب عموميّ يسرده أي مرشّح. لاحقاً صار المالكي رئيساً للوزراء ومن ثمّ عاد ليكون في 2014 نائباً لرئيس الجمهورية، ليكون الثاني في قائمة "السيّد النائب" الذين التقيتهم أو رأيتهم في حياتي.

مهمّة أخرى، كلّفت ساعتين إلى ثلاث من القلق، هي في الخروج من المنطقة الخضراء صوب المقر الرئيس للحزب الإسلاميّ العراقيّ، في منطقة اليرموك حيث المقاتل هناك سارية على قدم وساق كما في مناطق أخرى، لكنّ الواجب يقتضي لقاء أمين عام الحزب طارق الهاشمي، ومكتبه طلب الاسم الثلاثي ودوّنه، ذهبت وفي البال سيناريوهات شتّى عن صحافي من الطائفة (س) يلتقي بسياسيّ من الطائفة (ص)، يوم لا ينفع مع ممثّلي "الإسلام السياسيّ" بشقيه السنيّ والشيعيّ، أن يعرفوا عنك إنّك علمانيّ تحلق لحيتك وشاربك ولا شأن لك بحروبهم ومقاعدهم وصفقاتهم وجرائمهم، هذا كلّه لا فائدة ترتجى منه، المعيار الوحيد النافذ: من هو؟ ما اسمه الثلاثي؟ ومن أي أعمام؟ ومن أية مدينة يتحدّر؟.

مصافحة وترحاب من الهاشمي عند مدخل مكتبه، وحوله حمايات تطوّقه ببضع بنادق كلاشينكوف، وهو يجيب عن أهداف "جبهة التوافق" بـ"تعديل الدستور وتحرير العراق وضمان وحدته وبنائه"، رحت أمعن النظر في ملامح ذلك الرجل الغاضب الذي لا يبتسم بسهولة، وحولنا بنادق لرجال لم يتركوا مسؤولهم وحده.

 يالها من حظوة، فقائمة "السيّد النائب"، ممّن التقيتهم أو رأيتهم، تكبر، والهاشمي هو الثالث فيها، بنيله منصب نائب رئيس الجمهورية 22 نيسان 2006، فصار الجميع يناديه في التشريف والتقديم: فخامة "السيّد النائب" حتّى بدايات 2013، مثل أي "سيّد نائب" في العراقين القديم والجديد.

 أنشودتا موت

ومع زلزال تفجير مرقد الإمامين العسكريّين في سامراء (5)، شباط 2006، كان علينا أن نودّع التعايش المعهود في هذه المنطقة من كرخ بغداد، إذ دخلنا في أتون مقتلة من نوع آخر يحكمها منطق العزل الطائفيّ وكراهيات الفعل وردّ الفعل في بغداد، إذ ما إن يختطف شباب من حيّ ما فيرد عليهم قتلة الطائفة الأخرى باختطاف عدد مماثل وأحياناً يعجبهم استعمال جدول الضرب للإطاحة بعدد مضاعف، وشاعت شعارات لدى الطرفين، "قتلانا في الجنّة وقتلاهم في النار" أو لدى الطرف الآخر "دم الشهيد سلاح حبّهم ذخر وأفراح"(6).

وفي يوم من أيّام العام المشؤوم 2006، بلغ عدد الشباب الذين تمّ تصفيتهم 20 شاباً، آنذاك رفضت العائلة المغادرة، أبي لا يريد مفارقة مكتبته وأمّي تصبّح على حديقتها عند شروق الشمس. ولزاماً علينا -نحن أبناءهما- التزام مسكننا الجديد للبقاء أحياء، حيث الكرّادة التي كانت تستقبل المهدّدين والهاربين من أمثالنا، لكن لم يدخل هذا الحيّ الباحثون عن الأمان وحدهم، بل دخله القتلة والانتحاريون من الذين تفحمّت على أيديهم أجساد أبناء الكرّادة، في بقعة عانقت في أوان واحد: دماء الأبرياء، وماء دجلة بصلة وصل منسية- آنذاك- اسمها شارع "أبي نواس".

حوصرت "الغزالية" بين أنشودتين للموت، واحدةٌ تقول: "طكن جيلات البرنو والهاون ثار.. هبت موصل وديالى وأهل الأنبار" انطلقت من سيّارات نوع "BMW"، وأنشودة ثانية شاعت عند حدود الحيّ مع أحياء "الشعلة" وصولاً إلى امتداد المساحة مع "الكاظمية": "همه إجو للموت إحنه ما جبناهم.. همه إلي بدو علينا واعتدوا" كان صوتها يتعالى من سيّارات "Toyota Crown" (7)*، لتوثّق الذاكرة الشخصيّة، سماع ثلاث أناشيد موت، أولها "طالعلك" طبعاً.

 وقبل أنْ تصلَ ورقةُ التهديد إلى العائلة- ممهورة بتوقيع ما يسمى بـ "مجلس شورى المجاهدين- تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين"- وقبل أنْ تسقط على كتف أمّي عند الساعة 6 من فجر أحد أيّام العام 2006، قرّرنا- نحن جمع من أبناء الحيّ من خريجي كليتي الطب والهندسة- التوجّه إلى أحد أصدقائنا من الأطبّاء؛ لترتيب لقاء مع مسؤول متنفّذ في الدولة له صلة به، بهدف تحفيز أجهزة الدولة على التحرّك لحماية الناس في هذا المكان وغيره- ولا دولة عندنا- لكنّنا ذهبنا، وبعد تفتيش دقيق دخلنا إلى مكتب المسؤول (تدخل إلى بيت محصّن فتفتح بابٌ أخرى وتنتقل إلى بيت ثانٍ حيث مقر السلطان الذي قصدناه)، شربنا الشاي وأصغى المسؤول قليل الكلام إلى قصص القتل اليوميّ وكيف يرمى في مزابل حيّنا يوميّاً ما بين 10 إلى 20 شاباً في حملة تصفيات كبرى مهّدت لعنف أشرس في 2006 و2007، ومع إنّ نبرة الكلام كانت بعيدة عن أي انتماءات أو ألقاب تجنّبناها بتقديم أنفسنا على إنّنا من خريجي الجامعات لا أكثر، أردناه كلاماً إجرائيّاً مع مسؤول عراقيّ، أجابنا ووجهه الأصفر يشعّ بثقة مُستغربة: "لا تقلقوا هذا لا بدّ أنْ يحصل؛ لأنّ حكومة الدكتور إبراهيم الجعفري ممهّدة لظهور الإمام، هذا أمر ربّاني وليس لكم إلا أنْ تكثروا من الدعاء هذه الأيّام".
فهمَ الصديقُ الذي كنّا بصحبته انزعاجنا من الردّ وألا مجالَ للبقاء أكثر في مكتب المسؤول بعد الذي سمعناه منه، فسارع إلى تقديم الشكر على الاستقبال ودعوته لنا إلى التواصل لاحقاً.

هذا المنطق الغيبيّ، ساد لدى عدد من المسؤولين في العاصمة؛ لتلافي أي اتّهام عن تقصيرهم في واجباتهم، بأن "هذا هو الواقع وليس لكم إلا أن تقبلوا به وتنتظروا الحل من السماء بقدوم الإمام المخلّص".

وقد أعذر من أنذر

مع توالي خروج العائلات التي وصلتها تهديدات بالقتل، تتقدّمها الآية القرآنيّة "وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى"، ومذيلة بعبارة "أمامكم ثلاثة أيّام للخروج وقد أعذر من أنذر"، كُتب للحيّ سيرة جديدة، مأساوية ومخزية بلا شك، حيث العزل الطائفيّ بانقسامه إلى جزأين: سنيّ الأقرب إلى الطريق السريع المؤدّي إلى أبو غريب فالفلوجة، وشيعيّ الأقرب إلى حيّ الشعلة فالكاظمية، ومع موجة التهجير ضاع التعايش وانتهت رفقة الفتيات والفتيان من مسيحيّين وصابئة وسنة وشيعة، ليعلن القتلة بدء زمن اللون الواحد والهويّة الأحاديّة في هذا الفضاء البغداديّ المنتهك.

صورة العائلة، لا تمحى، وهي تجمع أهمّ الأغراض في خروجها النهائيّ والأخير من الحيّ، أهمّ الصور والحاجيات والأوراق، أبي ترك كتبه ومسوّداته، وأمّي تركت أشياءها ونبتاتها، فيما تركنا وغيرنا أحلى الذكريات هناك.

الليلة الأخيرة من فصل التهجير، قبل انقضاء مهلة "القاعدة"، تطلّبت انطباق الظلام على الشوارع، لتجاوز أي خطر محتمل وغير متوقع ساعة الخروج، هنا فرضت الوقائع على من بقي من أهلنا سلوك درب واحد لا غير نحو الرصافة، بالعبور من منطقة النفوذ السنيّة إلى نقيضتها الشيعيّة، مثلما فرضت الحالة الجديدة على أقراننا الصمت إزاء ما حصل لجيرانهم وأصدقائهم من مسلحين مثّلوا طائفتهم.

حتّى أنّ من حلّ بدلاً عن المهجرين، وهو مهجّر من مناطق فيها نفوذ لفصائل شيعيّة، لم يتح له الاندماج والتفاعل مع سكان الغزالية الأصليّين ممّن تعايشوا لسنوات مع جيرانهم من أبناء الطائفة الأخرى التي صارت مرفوضة في هذا الجزء بعد تفجير المرقدين.

المفارقة التي لا مثيل لما فيها من ألم، هي إنّ ذلك الصبيّ الذي بالكاد حفظ "سورة الفاتحة" في طفولته، هو الذي هجّر العائلة وهو الذي رمى بورقة التهجير على كتف أمّي، وإنّ سارق الدراجات الهوائيّة صار نافذاً في ميليشيا شيعيّة كانت ناشطة أيّام العنف الطائفيّ، وأرسل خبراً لمن بقي ولم يهدّد بعد بأنّه "في خدمة أبناء مذهبه في أي لحظة يحتاجونه فيها".

مع العبور الأخير إلى الرصافة، طويت هذه الصفحة، ومعها حدث الانصراف التام إلى العمل، لكن أي عمل والجثث مجهولة الهويّة تتزايد والملغمات تستمرّ بضرب العاصمة.

اختطاف تقابله ملغمة، اختطافات تقابلها ملغمات، هكذا مضت اليوميات في بغداد، والأيدي على الزناد، ولم تمنع الحرب الطائفيّة من أن يصفّي أمراؤها من يجدونها خارجاً عن إرادتهم، وإن كان ابناً للطائفة التي ينتمون.

تفاقمت عمليات التفجير وأنباء القتل بالجملة، تمشي وسط ما ارتضيته من ملاذ، فيفاجئك عصف لا تعرف مصدره، تكتشف إنّها عمارة سكنية في الكرّادة، لغمت وفجرت بمن فيها، ستغدو فيما بعد من بين الشواهد على حرب الطوائف 2006، هي شاخصة للآن بعار الجماعات والطوائف، الذي هو عار مسّ الجميع وعبّر عنهم أصدق تعبير.

تأسّست في الكرّادة، وفي أحياء أخرى أيضاً، أيّام 2006، ممارسة توثيقيّة وتكريميّة للفقيد المغدور، بوضع صورته على مسند أو عمود كهرباء وكتابة اسمه تاريخ وفاته، ومن ذلك الحين تكاثرت الصور والأعمدة، وبقيت صورة "الأخوة الثلاثة شهداء الكرّادة"، شاهدة على المرحلة المنحطة التي شهدتها البلاد، فالأخوة الثلاثة يفقدهم ذووهم واحداً تلو الآخر، في تفجيرات متلاحقة وفي المكان نفسه! ولم يبق منهم الآن غير صورهم تضحك للمارّة في شارع "الكرّادة داخل".

بتكاثر السرادقات والمآتم في الحيّ الذي لجأت إليه، تنشأ رغبة بمغادرة هذا الموت، أيّام من البحث عن عناوين مهرّبين في دمشق وتأمين الاتصال بهم؛ للوصول إلى أوروبا، وما أن وطأت الشام، كان مفرحاً جدّاً أن تمشي حرّاً في ليل افتقدته وطال غيابك عنه، لم يكن يحاصرك فيه غير كثرة مملة لصور الرئيس السوريّ بشار الأسد، في المقاهي وعلى سطوح الأبنية والمصارف والنقابات وفي سيّارات النقل العام، فما من حلّ للاستمرار في محطّتك الجديدة، سوى توظيف خبرتك العراقيّة القديمة التي هي الصمت.

أنشودة موت: واحنه البعسياه

تمضي في تلفظ أحرف المكان، فجأة تعود إلى زمن "طالعلك يا عدوي" ومشاهد التدريب على "الكلاشنكوف" وهذه العبارات من عقد التسعينيات العراقي: "أولادي هذي البندقية عيار 7,62 ملم"، والسبب أنشودة موت أخرى تصادفها في شارع قريب من ساحة يوسف العظمة وسط العاصمة السوريّة، حيث الذلّ نفسه على وجوه طلبة وموظفين كانوا في مناسبة وطنيّة كما يبدو، وهم يردّدون: "يابو حافظ واحنه البعسياه" (أي البعثية وكتبت كما يلفظها السوريون وأبو حافظ هو بشار)، ولا أتذكّر تكملتها، لكنّي أتذكر هذا الشق جيّداً.

ومن مسكن إلى آخر، تريد أن تبتعد بانتقالك هذا عن سؤال: "هل أنت شيعيّ أم سنيّ؟"، وبزيارة من دون موعد لمسكنك في حيّ دويلعة الدمشقيّ (المسيحيّ)، أتى فيها اثنان من رجال الأمن طلباً للمعلومات، أضع هنا بعض ما دار:

    كيفو الشاب؟

    أهلاً وسهلاً، بخير.

    من أي محافظة بالعراق؟

    بغداد

    أي منطقة؟

    الكرّادة

    أنت مع صدّام لو مع الأميركان؟

    هل من ترك أو اختيار آخر

    شو بتمزح حضرتك؟

    لا أبداً بس السؤال صعب، وأنا مع بلدي فقط.

    كيف يعني؟

    يعني أنا لا مع صدّام إلي ضيّع البلد ولا مع الأميركان الي احتلوه.

    طيب أنت وين بتصلي ببغداد بجامع ولا بحسينية؟

    أنا لا أصلّي لا في جامع ولا في حسينية.

    لو كنت بتريد تصلّي، وين تروح؟

    ما روح لأي مكان.

    شو شكلنا مطولين معاك؟

    أجيببكم بكلّ صراحة ليش في مشكلة.

    طيب احنه ما بنسأل عن طائفتك تعرف نحنا دولتنا علمانيّة، بيّك بيرجع لأي محافظة

    وشو بيشتغل قبل الاحتلال وبعده؟

    أجيبهم (فتتوقف الأسئلة).

ينتهي طلب المعلومات، ومن دون التنويه لمن لاقيتهم في الشام، منهم أبو حالوب، مختار العراقيين، وآخرون أيضاً، أستعجل اللقاء بالمهرّب العراقيّ الذي مهّد لرحلة فاشلة صوب أوكرانيا بتأشيرة دخول دراسيّة، كان هدفها النهائيّ الوصول إلى ألمانيا. ومن حلب، محطّة التوقّف قبل السفر، تائهاً في شوارعها العريضة وبانشغال الناس هناك بأعمالهم وتجارتهم، بدأت الرحلة إلى أوكرانيا.

تبيّن إنّ الاتفاق شيء، والحقيقة شيء ثانٍ، مع تلويح بما لا يحمد عقباه. مرّت أسابيع على الضغوط والتهديدات وتغييب جواز السفر، فيتدخّل شيخ عراقيّ فلوجيّ، لإعادة الجواز، طالباً مني مغادرة هذا البلد نهائيّاً، وهو ما تمّ.

عودة إلى دمشق أولاً، فبغداد بعد عامين، لم تكفِ لمحو هذا الاستفهام: هل أنت شيعيّ أم سنيّ؟ إلا إنّنا بقينا أحياء في بغداد والانهيار لم يتوقف بعد.

صوت حنون

تنقضي على حرب 2006، عشرة أعوام، وفي آذار 2016، تعيدني صور الطفولة إلى حيّ النشأة، وإلى مدرستي التي لم أرها يوم هربت عائلتي، وإلى المرشدة التي زرعت فيّ ما زرعت من طباع بوصاياها، أخذتني الخطوات إلى "الغزالية"، قلت لتكن الزيارة وفاء لهذه السيّدة الفاضلة: إيمان عبدالرحمن، فوجدتها فعلاً، وعدت أمامها إلى مشهد الطفل الذي كانت تمتدحه فيطير من الفرح، في لقائها سعادة غامرة، فهي عندي أقدس من 100 "لحية تعيسة"، سلّمت عليها وصوتها الحنون على حاله لم تغيّره السنوات، كيف عرفتني بسرعة؟ وكيف للأمهات من مقدرة على تمييز أبنائهن ولو بعد زمن؟

رحت إلى مدرستي الابتدائية "الأنوار"، في عمق المنطقة التي غدت غريبة عني، بشوارع مقطّعة كي تصعّب الدخول على غريب مثلي بمقاسات الفرز الجديد بعد 2003، تسوّرها الحواجز الكونكريتيّة، وإن كان بعضها في طور الإزالة كما لاحظت بآليات تنجز ذلك.

 

أما البيت الذي تربّينا فيه، والشارع الذي احتضن ركضنا وصبانا، لم أجد لهما أي أثر، البيت قسّم إلى ثلاثة مشتملات، والشارع ليس هو بل انقلب رأساً على عقب.

لم أعرف وجوه الموجودين اليوم، ولم يعد هناك إلا نفر قليل من سكان "الغزالية" الأصليّين، غادرها المهجرون، ومن ثمّ غادرها من رفض العيش في منطقة بعقيدة واحدة وانتماء أوحد، وبقي من بقي ارتباطاً بالظرف العام الذي لا يتيح للجميع الانتقال اليسير.

كنت أريد أن أقف في المحل نفسه الذي كانت أمّي تنتظرني فيه، لتسأل عن نتيجة الامتحان قبل 20 سنة وأكثر، ورغبت في أن أدخل الشارع متذكّراً بنات الجيران واستفسارهم عن فلان وفلان وإلى أي جامعة أو كلية ذهب.

تمنّيت أن أستعيد ولو لدقيقة مشاهد الصبيّة المتجمّعين، وهم يتأهّبون للعب كرة القدم في ساحة قريبة، ووددت أن أمسك ولو بما بقي من أثر للذكريات القديمة، كلّ ذلك صعب، حتّى بعد أن جفّت الدماء، وهدأ القتل المنظّم مع عودته أحياناً بنحو أقلّ. أمّا أهداف الائتلافات الانتخابيّة التي ادّعت تمثيل الشيعة والسنة، مذ إعلانها على لسان اثنين من قادتها 2005، فتحققت بالكامل مع هذا الانهيار الذي وصلنا إليه، وهذا النسف لوجودك وأحياء مدينتك.

غادرت الحيّ، وفيّ معنى واحد ممّا عاينته: هنا هويّات سحقت، هنا سير قتلت، هنا شوارع مُحيت أساساتها بالكامل، هنا أناس تشتّتوا وضاعوا، هنا طوائف قتلتنا ألف مرّة، وما انتهى قتلها لنا.

نقطة نظام: يكتب لي صديق قريب في رسالة خاصّة بعد اطلاعه على المادّة قبل النشر، ما مؤداه (لِمَ تسمية الأشياء بأسمائها في عراق لا حقّ ولا باطل فيه)، فأجيبه على الملأ: "بعد كلّ أناشيد الموت التي حفظتها مجبراً أو مكرهاً، وبعد اللقاءات المخيّبة بقائمة من أصحاب فخامة "السيّد النائب"، لم يعد مجديّاً سوى قول الحقيقة لا غيرها، وما هذه الكتابة، إلا لأنّ محاولات إماتتنا تتعدّد وتتعاقب، بتلغيم السيّارات وبالتهديد بفيضان ماء لا يبقي ولا يذر.
عن "العالم الجديد"

رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  حسام السراي


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni