كتبتُ ( وين تروح ياظالم ) بساعتين ، وسجلت بعشرين يوماً !! *
!! لمحتُ في التلفزيون زوجة أخي تحمل جمجمة ، فصرخت : أنه اخي *

 سمفونية المقابر أكدت لي لأول مرة جدوى الشعر *

!! الصدفة وحدها جاءت بالقارىء باسم الكربلائي *

كنت أشاهد بلهفة كبيرة محاكمة الطاغية صدام حسين . كنت أشعر حينها أنه حان الوقت لأرفع رأسي للسماء شاكرا انتقام الله سبحانه وتعالى من قتلة أخي ، وأمي ، وأقاربي وأصدقائي ، وبلدي وبينما كان حالي هكذا قرر القاضي وقف الجلسة للاستراحة . خلال الاستراحة سمعت كلاما شعرت أنني أنتمي له بقوة يقول ( وين تروح يا ظالم ) ، جعلني ألتصق بشاشة التلفاز . استمر الكلام .. كان يخاطبني .. سقطت دموعي .. والله سقطت بغزارة .. في تلك الليلة لم أنم فقد اختلط الفرح بالحزن لذا اتصلت بأخي ، ورفيق محنتي ، وشريك روحي في كل عذاباتها، وهمومها الوطنية ، وأخي الذي لم تلده أمي ، اتصلت بالشاعر فالح حسون الدراجي لأحكي له وجعي الكبير .. هكذا تعودت دائما أن أنقل له آلامي وأوجاعي منذ أن التقيته أول مرة في الأردن قبل تسع سنوات تقريبا ولم تتح لنا الظروف أن نلتقي قبل ذلك ، على الرغم من تشابه هواياتنا ، وجذورنا ، وأوضاعنا، وأحلامنا ، وأفكارنا ، وحتى أصدقائنا، وعلى الرغم من أن ثمة ألف سبب وسبب يجمعني بأبي حسون ،الا أن القدرلم يتكرم علينا يوماً، فيمنحنا لحظة واحدة من لحظات زمنه الطويل، لنلتقي معاً في بيت أو ملعب ، أو شارع ، أومجلس فاتحة ،أومنتدى شعر، أوحتى سجن واحد في وطنننا الحبيب، ذلك الوطن الذي كان مزدحماً بمجالس الفاتحة، والسجون، ومنتديات الشعرأيضاً ! لهذا كله فقد كنت أطلب منه كل ما أريد دون كلفة ، أوحرج ، أو أية أعتبارات أخرى، وكان هو كريماً معي في كل ما أريده ، اذ لم أطلب منه يوماً شيئاً،  فاعتذرعنه قط ، سوى أمر واحد، كنت قد طلبته منه قبل تسع سنوات ، وأعتذرعن تلبيته بدبلوماسية ، وظل الرجل يعتذرعنه ، كلما واصلت الطلب منه ، حتى أضطررتُ أول أمس ، الى أن أواجهه بشدة ودون مجاملة ، أذ لايعقل أن يظل شاعر وكاتب، وأذاعي، وسياسي ذو رصيد جماهيري كبير، مثل فالح الدراجي ممتنعاً تسع سنوات عن اجراء حوار صحفي مع صديق ، وزميل ، وأخ له مثلي ، والأنكى من كل ذلك ، ان امتناع أبي حسون لم يكن له أي مبرر،أوسبب وجيه، وهكذا وضعته أمام الأمرالواقع ذلك الأمرالذي لامفرَّ منه ،لاسيما بعد أن عرفت أنه صاحب القصيدة التي أبكتني في الجلسة الأولى لمحاكمة صدام ( وين تروح يا ظالم ) ، فوافق على اجراء اللقاء ، وجلسنا نتحاور معاً على مائدة واحدة ، تقع بين سبع قارات ( فهو في أمريكا ، وأنا في أستراليا ) جلسنا لنتحدث بنبض قلوبنا، في كل شيء ، بدءاً من شؤون الساعة ، ومروراً بمحاكمة ( الهتليَّة ) كما يسميهم أبو حسون في مقالاته، وأنتهاء بيوم الحلم الموعود ، أقصد يوم العودة ، وقد كان أغلب الحديث يدور مع أبي حسون ، عن سمفونيته الرائعة، وكيف تنبأ الشاعر الدراجي بمصيرالطاغية قبل سنوات ثلاث، خاصة وهو يقول له (وين تروح ياظالم) ؟ فتعالوا معي لهذا الحوارالممتع

 * لنبدأ حوارنا معك أخي فالح، من قصيدتك الرائعة (وين تروح ياظالم) تلك القصيدة التي تعرضها القناة الفضائية العراقية ، وقنوات عراقية أخرى ، أثناء جلسات محاكمة الطاغية صدام ، والتي أصبحت حديث الناس في الداخل والخارج ، متى كتبت هذه القصيدة ؟
 ** بعد سقوط النظام الدكتاتوري مباشرة ، وبعد أكتشاف المقابرالجماعية، وعرض مآسيها عبرالقنوات الفضائية العربية والعالمية ، كنت ومجموعة من الزملاء في دولة الكويت الشقيق ، نعد ونقدم البرامج الاذاعية الجديدة ، من أحد أستوديوهاتها، ونبثها من اذاعة خاصة في أم قصر، بخاصة وقد تعذرعلينا البث من بغداد، بعد ضرب الاذاعة والتلفزيون العراقية ، وتدميرها للأسف تدميراً شاملاً في عمليات القصف الجوي ، وفجأة ، وأنا اتابع عبراحدى الشاشات، توافد الناس على أحدى المقابرالجماعية في العراق، وهم يبحثون عن ضحاياهم ، حيث صراخ الأمهات ، ونحيب الآباء ، وعويل الأبناء، يدمي القلب، ويذبح الروح ، ومن بين هذا الركام السريالي، لمحت في المقبرة من بعيد زوجة اخي (أم سلام) وهي تحمل بين يديها بقايا جمجمة ، فصرخت كالملدوغ ) : أنه أخي ، هذا رأس أخي ! )
وأنخرطت في نوبة هستيرية شديدة، أختلط فيها البكاء بالنواح ، والصراخ ، بالشتائم ، ولم أهدأ ، ألا بعد أن ( شبعت بواجي ونحيب) على الرغم من أني أعرف ، بل ومتأكد ، بأن أخي أبا سلام قد استشهد قبل عشرين عاماً ، صحيح أنهم لم يسلموا لنا جثته بعد أعدامه ، لكنهم أعطونا وقتها ( شهادة وفاة ) مختومة بختم مستشفى الرشيد العسكري !! وكم كان الموقف محرجاً لي حين اتصلت بأهلي بعد مشهد الجمجمة ، وأخبروني بأنهم لم يتمكنوا لحد هذه اللحظة من العثورعلى رفاة أخي أبي سلام ، كما أني عرفت منهم أيضاً ، بأن المرأة التي رأيتها عبر شاشة التلفزيون، لم تكن زوجة أخي قط ، وأن الجمجمة التي في يدها هي ليست جمجمة أخي !! وقتها شعرت بشيء غريب ، شيء لا أستطيع وصفه الآن حتماً، هو ربما خليط من ندم ، وفشل ، وأحباط ، وألم، واحساس عال بالفجيعة والمرارة ، حتى شعرت ساعتها بأن فمي يمتلىء بالعلقم تماماً، في تلك اللحظة أدركت أن كل هؤلاء الضحايا هم اخوتي ، وان لم تلدهم أمي ، وأن جميع الجماجم المثقوبة ، والمنتشرة على أديم هذه المقبرة ، هي جماجم اخوتي بلا استثناء ، وأن كل أولئك النساء المكلومات المتشحات بالسواد والفجيعة، هنَّ أم سلام ، أومثلها ، في تلك اللحظة ، وفي حالة اللاوعي تماماً ، أنسلت روحي قبلي الى احدى الغرف الفارغة في المبنى ، ووجدت نفسي ممتداً على الأرض، كان أمامي على الأرض حشد من الأوراق الناصعة، وقلم ، وعلبة سجائر، وعلبة ثقاب، لم أستخدم منها غيرعود واحد،اذ صرتُ بعده (أورِّث السيجارة من الأخرى)! وبعد ساعتين من الكتابة المتواصلة والمتدفقة ، خرجت من الغرفة منهكاً، مرهقاً، وكأنني أخرج من تحت أنقاض زلزال ، أومن نزال مصارعة مع أسد ، وحين خرجت من الغرفة وأنا أحمل بيدي الأوراق، لم أكن أعرف ماذا كتبت بالضبط ، وماذا أنجزت خلال خلوتي تلك ، لكني كنت أعرف، بأني كتبت شيئاً ذا جدوى !!
قد يعتقد البعض الآن، بأنني أبالغ في الأمر، أوأنني أعطيت الموضوع أكثرمن أستحقاقه، لكنها والله هي الحقيقة ، لاغيرها، فالظروف، والمناخ النفسي السائد وقتها، والمزاج في تلك الأيام ، بل وفي تلك اللحظة ، ليس مثل ماهو عليه الآن، المهم، اني وبعد ان خرجت من الغرفة ، ألتفَّ حولي الزملاء ، وكلهم متشوق لمعرفة ماكتبته ، بخاصة وأني كنت في حالة دراماتيكية مهيئة لكتابة عمل تراجيدي تام، وما أن بدأت أقرأ لهم من ماكتبته ، حتى بدأ البعض بالبكاء، وخاصة النساء منهم ، اذ كانت الزميلة المذيعة ايمان حسين أول الباكين، ثم تلتها الزميلة المخرجة مفيدة السلمان ، فعشتار التميمي ، وبدأ نشيج الرجال يتعالى أيضاً، ويتصاعد نحيبهم ، لقد كان البكاء مراً، وقوياً ، فقد كان لكل منهم قصة مدمية مع نظام صدام ، وفي بيت كل واحد منهم ضحية من ضحايا المقابرالجماعية ، لذلك فقد كان هَم القصيدة هَماً جماعياً ومشتركاً أيضاً، ها هوالدمع يلمع بين عيني الزميل حميد الكفائي ، ويتدفق من عيني الدكتورعلاء فائق، وينزل على وجنتي عودة وهيب ، وحميد الياسري ، وشميم رسام ، وصادق الركابي ، وغيرهم من الزملاء الأحبة ، وحين انتهيت من قراءة النص، استرحت تماماً، وشعرت بأني أفرغت كل أحزاني، وتخلصت من كل أثقالي مرَّة واحدة !! لذلك كان رأي الزملاء أولاً ، أن أقرأ هذه القصيدة - الملحمة - عبر شاشة التلفزيون الكويتي، لكي تصل الى جميع العراقيين في الداخل ، والخارج ، لكني رفضت ذلك ، لكون القصيدة طويلة ، وفيها أصوات متعددة ، ومنلوجات داخلية ، وتحتاج الى رؤية وسيناريو خاص ، فالقصيدة - وبصراحة - نص شبه مباشر، لايتوفرعلى شعرية منبرية ، بقدر مايتوفرعلى تكنيك فني وحواري خاص، ليس لأنه بمثابة رد فعل سريع على فعل كارثي فحسب، بل ولأني أردته أن يصل لكل الناس، وبمختلف مستوياتهم، وأن يفهم من قبل الجميع أيضاً، فضلاً عن النص- وبشهادة كل من كان معي في الأستوديو آنذاك - كتب مرة واحدة ، ولم تتح له، ولي أيضاً ، فرصة، لاعادة كتابته مرة ثانية ، لذا فأن فكرة قراءته كقصيدة عبر شاشة التلفزيون لم ترق لي بتاتاً ، وهنا قدحت الفكرة برأس الدكتورعلاء فائق، بأعتباره مخرجاً مسرحياً ) ، فصاح بصوت عال : وجدتها.. وجدتها !! )
قلت من هي التي وجدتها ياصديقي ؟
قال : الفكرة ، والفكرة برأيي، هي أن تتحول القصيدة من نص شعري انسيابي ، الى برنامج حواري ، يشترك فيه أكثر من صوت، ويتداخل به أكثرمن شخص، على أن ترتل ، أوتغنى الأبيات الشعرية التي كتبت في النص ترتيلاً أحادياً ،أي بدون أية آلة موسيقية !!
وبدون نقاش، وافقت على هذه الفكرة، بل وفرحت لها ، ثم أسميتها ( سمفونية المقابر). وهنا أشركت معي الزميل والصديق العزيز حميد الياسري، في كتابة بعض التعليقات التي ستأتي على لسان مقدمي البرنامج ، في حين بقي النص الشعري كما كتبته دون تغيير، أو اضافات، وقد لقيت هذه الفكرة اسناد ودعم الزملاء جميعاً، بخاصة المسؤولين عن الأذاعة .
  * كتبتَ العديد من القصائد التي أداها كبارالمطربين العراقيين، أمثال كاظم الساهر، وفؤاد سالم، وسعدون جابر، ورياض أحمد، وغيرهم ، ولكننا وجدنا ان قصيدة وين تروح ياظالم، التي أداها القاريء المبدع باسم الكربلائي ، تختلف أختلافاً جذرياً عن أسلوبك الغنائي المعروف ، كما أن خط الكربلائي ، هوالآخر يختلف عن خطك الفني ، اذن كيف تم أختيار باسم الكربلائي ، وكيف تم الأتفاق معه على اداء مثل هذا العمل ؟

** لا أخفي عليك أخي طارق ، بأن الفضل في اختيار القاريء باسم الكربلائي ، يعود للصدفة أولاً ، وللدكتورعلاء فائق ثانياً ، أذ كنت قبل ذلك قد رشحت (بيني وبين نفسي) الفنان الكبير كوكب حمزة لتلحين ، واداء بعض المقاطع منها، ليس لأن كوكب حمزة ملحن كبير، وذو ذهنية، ورؤية لحنية متقدمة فحسب ، بل ولأن صوت كوكب أيضاً يتوفر على طاقةهائلة من الحزن الجنوبي، والوجع العراقي الجميل ، وللحق فأن سماعي بقرب مجيء كوكب الى الكويت، قد شجعني على أن أضعه واحداً من الأحتمالات، لكن المخرج علاء فائق كان يفكر بشيء آخر تماماً ، أذ كان قد وضع في باله دون أن أدري اسم القارىء باسم الكربلائي ، وبينما كنت مع الدكتورعلاء فائق في استوديوالنظائر الكويتي ، نسجل حلقة من أحد برامجنا الاذاعية المعتادة ، سأل علاء أحدالعاملين في الاستوديو، عن القارىء باسم الكربلائي ، مستفسراً عن الوسيلة التي تمكننا من الاتصال به ، فما كان من ذلك العامل ، الاَّ ان يبتسم ويقول : هذا هو باسم الكربلائي أمامكم !!
وهكذا لعبت الصدفة دورها في الموضوع ، وما أن طرحنا الفكرة على باسم ، وشرح له علاء الأمر، حتى فرح الرجل بها ، وتفاعل معها جداً ، وللحق فلم يضع أي شرط علينا ، بل ولم يطلب أي شيء منا ، سوى أنه أراد أن يقرأ النص ، وحين تسلَّم النص ، وقرأه بعد ذلك ، اتصل بنا معلناً موافقته ، واعجابه بالفكرة والنص أيضاً ، وهكذا بدأنا التسجيل في استوديوالنظائر التجاري حالاً ، علماً بأن القاريء باسم الكربلائي ، قد أدى العمل لوحده فقط ، فهوالصوت الرئيسي ، وهوالكورس أيضاً ، كما انه لم يتقاض درهماً واحداً عن تسجيل هذا العمل، على الرغم من أن فترة تسجيله قد استغرقت عشرين يوماً تقريباً ، أخذت من وقته ، ومن رزقه الكثير ، كما اني والمخرج علاء فائق ، والزملاء حميد الياسري وصادق الركابي، وايمان حسين ، لم نتقاض أجراً عن العمل أيضاً، لذلك فأن تكاليف العمل بأكمله ، لم تتجاوزالعشرة آلاف دولار، هي كلفة ايجارالأستوديو، ومخرج الاستوديو فقط ، دفعتها شبكة الاعلام العراقي، مقابل عمل دراما أمده تسع وخمسين دقيقة !!

*هل كنت تتوقع هذا النجاح الباهر للقصيدة ، وهل كنت تتوقع لها ان تصل الى مسامع هذه الجماهير الغفيرة ؟!

 ** لا أخفي عليك ، بأن النجاح الذي حققته هذه السمفونية ، قد تجاوز توقعي ، وتوقع جميع الزملاء، ليس لأن العمل لايستحق هذا النجاح ، بل لأني لم أتعامل من قبل مع هكذا لون وشكل فني ، ناهيك عن أن تعاملي مع الأخ باسم الكربلائي ، هو تعامل يحدث لأول مرة بيننا، لقد نجح هذا العمل جماهيرياً بشكل مذهل ، على الرغم من أن الجهة التي أنتجته ، وهي شبكة الاعلام العراقي ، قد حاصرته أول الأمر حصاراً تاماً، اذ لم تبث منه غير ربع ساعة ، وعن طريق الأذاعة فقط ، ولمرة واحدة لم تتكرر، وأظن ان عدم ادراك مديرة الأذاعة وقتها ، وكذلك مديرعام الشبكة آنذاك ، لفحوى العمل ، وتفاصيله الفنية والسياسية ، بخاصة وهما من الاخوة المسيحيين اللذين تنقصهما الخبرة والمعرفة بمثل هذه الأطوار والمناخات الحسينية الموجعة ، اذ اعتقدا ، اضافة الى تحريض عدد من البعثيين العائدين للعمل في الاذاعة والتلفزيون، بأن هذا العمل هو( لطميات) لا وقت لها الآن بالمرة ، فالزمن هو زمن (التحرير) والأفراح ، والانتصارات ، وأن هذه البكائيات واللطميات ، تذكِّرالناس بمآسيهم ، وأن من واجبنا - والكلام للجماعة في شبكة الاعلام العراقي - أن ننَّسي الناس أحزانهم ، لا أن نذكِّرهم بها !! وهكذا وضع هذا العمل الجميل بقصدية على الرفوف ، وقد ساعد في ذلك ، خروجي المبكر من العمل في الاذاعة ، اذ اختلفت وقتها مع الأمريكيين المشرفين على الشبكة ، واصطدمت معهم أثناء التفاوض بقوة ، مما أسفرعن فسخ عقدي مع الشركة الأمريكية ، وعودتي السريعة الى مكان اقامتي ، وللحق فقد ساندني في موقفي هذا حشد من العاملين في الشبكة، منهم حميد الياسري، وصادق الركابي ، وايمان حسين ، وعشتارالتميمي ، وغيرهم من العاملين الوطنيين الطيبين ، الذين فسخت عقودهم معي أيضاً ، في حين أن عدداً من زملائنا العاملين في الاذاعة ، قد تخلى عني في ذلك الأجتماع ، بل وصوَّت ضدي ، على الرغم من أن جميع الطلبات التي تقدمتُ بها الى الأمريكيين وقتها، هي طلباتهم وليست طلباتي ، وهي احتياجات بعضهم، وليست أحتياجاتي ، ناهيك عن أن بعض الشروط التي طرحتها على المندوبة الأمريكية في ذلك الأجتماع ، كانت شروطاً وطنية صرفة، تتطلب مساندة جميع العراقيين الوطنيين!! المهم يا صاحبي ، أن العمل وضع على الرفوف، وأخفي عن العين تماماً ، ولولا الجهد الشخصي للزميل علاء فائق ، لما ظهر هذا العمل اطلاقاً ، حيث استطاع أن يهرِّب نسخة منه الى احدى الاذاعات المحلية ، التي راحت تبثه بكثافة مميزة طوال اليوم ، وما أن سمعه الناس ، حتى راحوا يسجلونه على أشرطة خاصة ، ثم راحوا يتبادلونه فيما بينهم كالأشرطة السريَّة، خصوصاً من ذوي الشهداء ، وعوائل ضحايا المقابرالجماعية ، وبعد ذلك راح أصحاب الشركات يتفننون في انتاجه ، ومونتاجه أيضاً ، اذ أدخلوا عليه مشاهد من مآسي المقابر الجماعية ، وبعض اللقطات القديمة من العمليات الوحشية للنظام البائد ، فأصبح يباع في الأسواق كشريط فيديو( صوت وصورة ) حتى أني سمعت بأن أكثر من مليوني نسخة قد بيعت منه ، اذ لم يخلو بيت عراقي مفجوع بجرائم صدام من هذا الشريط ، ناهيك عن قيام أغلب أصحاب محلات العصائر والمرطبات ، وكذلك المقاهي ، وسيارات الأجرة الكبيرة ، ببث هذه السمفونية المؤلمة طوال النهار، وهي دعاية مجانية لم تخطر في بال أصحاب الشركات التسجيلية !! فاتني أن أذكر لك، بأن الدكتورعلاء فائق، قد منتجَ (متطوعاً) بعض اللقطات التلفزيونية، مع مقاطع صوتية من هذه السمفونية ، فتداخل صوت باسم الكربلائي الجميل، بصرخات الضحايا ، وأنَّات ذويهم، ليظهر لنا وعبر دقائق قليلة ، صوراً مذهلة ، لنظام أذهل العالم كله بوحشيته وجرائمه الجماعية المفزعة!! لذلك فقد نجحت هذه الدقائق القليلة ، أثناءعرضها من قبل القناة العراقية بعد اعتقال الطاغية في الحفرة الحقيرة بساعة واحدة نجاحاً كبيراً، وما المقاطع التي تبثها الفضائية العراقية هذه الأيام، قبل وبعد جلسات محاكمة صدام، الا بعض تلك المقاطع التي منتجها علاء فائق قبل أكثرمن سنتين، وللحق، فأن الادارة الحالية لشبكة الأعلام العراقي المتمثلة بالسيد حبيب الصدر، غيرمعنية ، أو مسؤولة لما تعرضت له سمفونية المقابر من حصار مقصود قبل سنتين ونصف تقريباً، بل على العكس، فأني أرى بأن الأدارة الحالية ، قد أسهمت كثيراً باعادة شريط السمفونية الى الواجهة مرة ثانية ، من خلال وضع بعض مقاطعها ( كتايتل ) للمحاكمة !! ومن الجدير بالذكر، أن الأخ باسم الكربلائي ، قد فاجأني بأدائه الرائع ، والجميل، وبصبره العجيب في التسجيل، وخاصة في عدد الاعادات المضجر والممُل ، وكذلك بحسه الوطني ، والانساني ، وبالتزامه الشديد بمواعيد الاستوديو، وقد ندمت كثيراً على عدم معرفتي بهذا الأنسان الرائع من قبل ، وحزنت أيضاً لأني لم أكن قد سمعت باسمه قبل اليوم ، ومع شديد الثقة ، فأن ماحصل لهذا العمل من تفوق ونجاح، قد فاق توقعي ، وتوقع الزملاء الذين شاركوني العمل ، بل وحتى توقع باسم الكربلائي نفسه ، وأظن أن ثمة أسباباً كثيرة قد وقفت خلف نجاح هذه السمفونية، ولعل من أبرزها، صدق العمل ، ونزاهة النص ، واخلاص العاملين ، وأداء باسم الكربلائي المذهل ، اضافة الى الظروف النفسية، التي عرض فيها هذا العمل .

* من المؤكد أنك فوجئت ببث القصيدة من شاشة الفضائية العراقية، قبل وأثناء الجلسة الأولى لمحاكمة الطاغية صدام ، صف لنا مشاعرك حينها ؟

**هل تصدقني لو قلت لك ، بأني وزوجتي تقابلنا واحداً مقابل الآخر دون اتفاق ، حيث انسابت الدموع من عينينا معاً ، ورحنا نبكي بحرقة ، على الرغم من أن المحكمة قد بدأت في الساعة الثانية من بعد منتصف الليل بتوقيت كالفورنيا ، وعلى الرغم من أن (حس الليل مسموع) فقد كان نشيجنا يسمع خارج الشقة ، لقد تأكدت لأول مرة في حياتي ، من جدوى الشعر ، وأيقنت من نبوءة الشاعر ، لقد كنت أعي تماماً حين قلت لصدام قبل ثلاث سنوات : ( وين تروح ياظالم ... من كل هذي المظالم ) ؟!
أما عن مشاعري أثناء المحاكمة، فوالله ياطارق ، كنت أشعر بزهو فريد ، وسعادة طاغية ، على الرغم من أن التلفزيون، لم يعرض غيرمجتزإ صغير من هذه السمفونية ، وتحديداً المقاطع التي تبدأ ب( وين تروح ياظالم... الخ ) وهنا أحب ان أذكر لك، بأن هناك تسجيلاً اضافياً بصوت الكربلائي أيضاً ، أقتطعناه من الشريط (السيدي) كي لايكون السيدي طويلاً ومملاً، وللعلم بأني والأخ علاء فائق نحتفظ شخصياً بهذا التسجيل، والذي لم يسمعه أحد !! وسننشره ، أو نبثه في يوم ما حتماً ، وبهذا تكون مدة السمفونية هي ستين دقيقة .

* تكتب الشعر ، والمقالة السياسية ، كما تكتب مقالات في الأدب ، والفن ، والرياضة ، اضافة الى اعداد وتقديم البرامج الاذاعية ، أين يجد فالح الدراجي نفسه بين هذا الخضم المتلاطم ، والمتعدد من الاتجاهات الابداعية ؟
 ** عزيزي أبا سنان ، ربما أنت اكثرالجميع يعرف مزاجي الفني، ويفهم رغبتي الأنتاجية ، وميولي الثقافية، ولكني سأفترض أنك لاتعرف شيئاً عني ، فأقول لك : حين بدأت أعي الحياة ، وأعرف تضاريس المجتمع ، وخطوط الطول والعرض فيه، اتخذت طريقاً رياضياً، حيث اتجهت الى لعبة كرة القدم أولاً ، وأصبحت لاعباً في فريق السكك (الزوراء حالياً ) كما لعبت في صفوف منتخب الشباب لفترة قصيرة جداً، ثم اعتزلت الكرة ، وأنا في أوج تألقي وصعودي الفني ، حيث اعتزلت وأنا في العشرين من عمري ، والسبب في كل ذلك يعود ، لكوني قد تعرضت لفايروس الأدب الجميل ، والحقيقة فأن عدوى الشعرأنتقلت لي من زملائي في المدرسة ، وأصحابي في المنطقة أيضاً ، فقد كان معي في ذات الصف، الشاعر كريم العراقي ، والقاص عبد جعفر، وقبلنا كان الشاعر حسن المرواني ، وهناك كاظم أسماعيل الكاطع ، وعريان السيد خلف ، وجمعة الحلفي ، والقاص عبد الله صخي ، والقاص داود سالم، وغيرهم من المبدعين ، والحق يقال ، فأن الشاعر كريم العراقي، الذي كان قد سبقني بالتعرض لفايروس الشعر بسنة تقريباً ، أكثرالأشخاص الذين حرضوني على كتابة الشعر، ربما لأني كنت أقرب أصدقائه، وربما لأني كنت الطالب المميز بينهم في درس اللغة العربية، وخاصة في موضوعة الاعراب ، حيث كان مدرسو اللغة العربية في متوسطة المصطفى ، ومن ثم في ثانوية قتيبة، يعتمدون عليَّ كثيراً في اعراب الأبيات الشعرية، وبعد بلاء الشعر، ابتليت بالسياسة ( وهذه قصة طويلة تحتاج الى مقابلة وحدها ) !
وهكذا تراني اشتبكتُ بخيوط الرياضة والشعر، والسياسة ، من حيث لاأدري ، فالرياضة عشقي الأول، وقد قيل يوماً( نقِّل فؤادك حيث شئت من الهوى، ما الحب الاَّ للحبيب الأول ) .
والشعر وجعي الجميل الذي لا أريد الخلاص منه قط ، والسياسة ليست همي الشخصي فقط ، وهي ليست كارثتي الفردية، بقدر ما هي هم ، وكارثة الناس جميعاً، سواء من رغبها ومضى لها طائعاً ، أومن لم يردها بالمرَّة ، وبناء على هذا الهم الجماعي ، فأني اليوم أكتب الرياضة بنفس وحِس سياسي، فلا تستطيع أن تفرق بين الرياضي والسياسي في كتاباتي 
 ( فقد تداخلا وتشابك الأمر) وأنت تعرف جيداً ، بأني وبعد سقوط النظام، كنت أكتب عموداً، ولمدة سنتين ونصف في جريدة رياضية تصدر في العراق ، اذ لم يكن هذا العمود غيرعمود سياسي ، يفضح جرائم النظام السابق، وانتهاكات ( مشعول اللشة عدي ) وكذلك أفراد عصابته ، الذين يتربعون الآن على رئاسة أغلب المفاصل الرياضية في العراق، ويمكن القول بأن حسين سعيد، الرئيس الحالي للأتحاد العراقي لكرة القدم ، والنائب الأول لرئيس اللجنة الأولمبية هو واحد من بقايا عصابة عدي ، أظن أنك تعرف ياطارق ،لأنك كنت معي تقاتل بعمودك الرياضي في ذات الجريدة ، كيف كان القراء يستقبلون مقالاتنا، وكيف كانوا يهرعون الى مقرالجريدة للاستفسارعنا ، لوتأخر مقال احدنا يوماً !! أما في مجال الشعروالأغنية والمقالة بشكل عام ، فأني لا أخفيك  بأن الهم السياسي ، أو سمه الهم الوطني قد زحف على كل خارطتي اللغوية ، وتربع بظله ، وطغى بلونه على كل ألواني الثقافية، ولست نادماً في ذلك قطعاً ، فقد اخترت الأمر بنفسي ، فأنا أحمل في عنقي ديناً للعراقيين ، وللعراق الجميل ، ولن أفي هذا الدين حتى الموت!! وللمفارقة ، أو ربما للتأكيد على أصطباغ أوراقي باللون الوطني السياسي دون غيره ، أهديت حبيبتي أم حسون في عيد ميلادها أول أمس، قصيدة سياسية، وطنية من الوريد الى الوريد( فتصوَّر)؟
لذا لا تستغرب لو قلت لك ، بأني بتُ اليوم أكتب المقالة الرياضية ، والقصيدة الشعرية ، والمقالة النقدية الأدبية ، والبرنامج الأذاعي بحس سياسي صرف ، وبقلم سياسي ذي لون واحد ( أقصد لون الوجع العراقي ) وهو أمرأظن سيرافقني حتى تحرير رقاب أبناء شعبنا من سكين الأرهاب ، وحتى تحقيق العدالة الكاملة والمساواة والحرية ، وحتى أرى قناديل الفرح مضاءة في باب كل بيت عراقي ، وحتى أرى العراقيين يقفون جميعاً بوجه الطائفية ، ويغنون جميعاً للعراق الواحد، فالعراق هوحبنا الوحيد، بل والأوحد حتى النفس الأخير .
* متى غادرت العراق،وأين عشت بعد المغادرة، وأين تعيش الآن ، وماذا عملت خلال هذه الفترة ؟

** غادرت العراق في نهاية عام 1996 بعد أن اشتدت المراقبة عليَّ ، وكثر السريِّون في متابعتي ، بل وحتى في احصاء أنفاسي ، وقد جاء هذا الأمر نتيجة لأسباب كثيرة ، كان آخرها القصيدة التي القيتها في يوم مولد الأمام الحسين عليه السلام ،  في جامع الزهراء( في سوق مريدي بمدينة الثورة والصدر) وقد صادف أن كان مولد الامام الحسين عليه السلام يأتي قبل أقل من شهر من( عيد ميلاد صدام ) وحين جئت الى الجامع ملبياً الدعوة التي تلقيتها من القائم على شؤون الجامع ، وجدت أن الحضوركبير جداً جداً ، بل ومدهش ومخيف ، وكأن سكان مدينة الثورة قد جاءوا جميعهم اليوم للمشاركة في حفل مولد سبط الرسول ، وحين اعتليت المنبر الشريف لألقي قصيدتي، لمحت مسؤول الأمن وحاشيته جالسين تحت المنبر مباشرة ، وكنت أعرف هذا المسؤول من خلال أستدعائي الدائم ، مع عدد من أفراد العائلة، لمراجعة دائرة الأمن باعتبارنا من عوائل(المجرمين ) !
وما أن سمعتُ تكبيرالحاضرين وصلواتهم بوجهي ، حتى انتابتني لحظة فروسية خارقة ، وشعرت بأني اليوم( بحب الحسين، وبموقف هؤلاء الناس المؤمنين)أقوى من هذا المسؤول ، وأقوى من الأمن، بل وأقوى من النظام كله، لذلك قررت أن أقرأ قصيدتي دون أن أحذف منها بيتاً شعرياً واحداً مهما كانت النتائج ، وقد وضعت الأعدام أمامي ، وهنا بدأت قائلاً :
الليلة عيد وخلِّي كلنه نحتفي ... اسنين ماشفنه الفرح وأعياده
اذا مو بحسين بيمن نحتفي ... وياهو يسوَه النحتفي بميلاده
حسين كَمرة ، والكَمر ما ينطفي .. وشعلته لآخر زمن وكَاده
حُبَه ثابت بالكَلب مايختفي ... وجمره يلسع غصباً اعله أرماده
ويوم طاح حسين في أرض الطفِ ، ألله مَد ايدَه لحسين أوساده
الرسول اغتاظ واحتد النبي ... وبالسماء أتعطلت العبادة
حتى جبريل اختنكَ من البجي ... يالهواشم طاح عين كَلاده
دمعة طفرت من أبو اليمَّه علي .. وضلع من الزهرة شكَ أضماده
القضية اتهون لو بس ياعلي ... عالحسين الطاهر وأولاده
لاتزال اسيوف تذبح ياعلي ... بالحسين وشيعته وأحفاده