... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  مقالات و حوارات

   
حائط

ذو الفقار خضر

تاريخ النشر       20/10/2007 06:00 AM


المنظر : حائط قديم ضخم ، يقطع عمق المسرح .. لا يُعْـــرَف لونه من كثرة ما ملصوق عليه من لوحات اعلانية ومن كثرة قدمه ومن كثرة ما يحتويه من شقوق وتصدعات واخاديد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

شخوص المسرحية :

السكران : فقير الحال رَث الملابس

الصوت : جهوري

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(( موسيقى .... الفضاء المسرحي يوحي الى ليل دامس ... أصوات حشرات الليل تتصاعد ... يدخل السكران وبيمينه قنينة ذبيذ ... يدخل مترنحاً يدندن باغنية لا تفهم عباراتها من شدة نشوته وسكرته ...

يبحث في المكان ليجد مكان ينام عليه .. فيجد الرصيف الذي قرب الحائط ... يقف امام الحائط ...

يتبول ...

اثناء التبول يسمع السكران صوت جهوري يدل على استيقاض صاحب الصوت من نومه العميق ..

السكران يلتفت يميناً وشمالاً .. لا يأبه لذلك .

يواصل التبول .... ))

الصوت : ألم يكفيك استيقاضي من منامي

السكران : (( هرعاً خائفاً رامياً قنينة نبيذه من شدة مفاجأته )) من الطارق .... ؟؟ عفواً من اين ها الصوت ؟؟!! ...

(( يبحث السكران عن مصدر الصوت .. لم يعي بان الصوت هو صوت الحائط ... يأخذ قنينة نبيذه من الارض مرة اخرى ... يتكيء على الحائط حائراً ..... ))

الصوت : أأفــفــــف ... كم رائحتك نتنة ... أف ....

السكران : آه ... من انت .؟؟؟

(( يقوم السكران بالبحث مرة اخرى ... يشرب قليلاً من النبيذ ))

السكران : يبدو اني قد اسرفت في الشرب كثيراً هذه الليلة ..

(( يجلس على الرصيف .. ينتزع حذاءه ليضعه تحت رأسه كوسادة ... ينام .. يغط في نومه حتى يقوم بالشخير ...))

الصوت : هَيْ ..... انت ... يا نتن .

(( السكران ينهض مرعوباً ))

السكران : من ؟ .. من ؟؟... أغلقوا الابواب ... أقلقوا الشبابيك (( يذهب الى الحائط لكي يغلق النوافذ )) آووووه ... لا نوافذ على هذا الحائط .. لقد نسيت ...

(( لحظات من المراقبة ))

السكران : لكن من اين هذا الصوت (( يكلم قنينة النبيذ )) هل من المعقول يا صديقي الحميم بانك انت الذي جعلني اتخيل كلك هذا الهراء ؟ ..

الصوت : اذا قررت النوم بقربي فقرر اولاً بان لا تشخر .

السكران : (( خائفاً ولكن بشيْ من التملق والقلق )) أأأووه ... كــ .. كفى ... قل لي من .. أ .. أأنت

(( السكران يهرب الى وسط المسرح خائفاً من المجهول ))

الصوت : أنا خلفك

السكران : ليس لدي صديق بهذا الاسم ..

(( الصوت ضاحكاً ))

السكران : وعلام الضحك يا خلفك .... اظهر لي وسألقنك درساً قاسياً وسأبارزك بسيفي المهندِ

(( يشهر قنينة نبيذه .. يتبارز في الهواء بواسطة قنينة النبيذ .. يضرب بها هنا وهناك دون ادراك .. يتصاعد الصوت بالضحك .. السكران يقع من كثرة ضرباته الخاطفة في الهواء ... يقع ارضاً ))

السكران : اووووه كفى ... لو كنت رجلاً لواجهتني .

الصوت : انا لا اخشى مواجهتك

السكران: اذن لم لا تأتي وتقاتلني .. ؟

الصوت : لا استطيع الحراك أبداً

السكران : ماذا ؟؟ لا تخشى مواجهتي ؟؟ ويحك .. دلني على مكانك وسآتي اليك حالاًَ ..

الصوت : وما أنت حتى اخشاك واخشى مواجهتك ؟؟ انظر لى ملياً .. انظر ماذا حل بي فقد تغير لوني .. تغير شكلي منكم .. رائحتي اختلفت .. حتى العصافير لم تعد لتحط عليّ هاربتة مني لما فعلتموه بي . اصبح شكلي يفزعها ..

السكران : الى ماذا انظر ؟؟؟ هي ياهذا .. دلني على مكانك ان لم تستطع الحراك كما تدعي انت .

الصوت : حسنا ً .....أ نا خلفك مباشرة..

(( السكران ينتبه الى ماهو خلفه فلا يجد شيئاً سوى الحائط ... لكنه لم يدرك بان المتحث هو الحائط نفسه ... يفكر ملياً .. يردد عبارة الصوت الاخيرة ـ انا خلفك مباشرة ـ ....... يتسائل مع نفسه ))

السكران : من الذي خلفي ..؟؟؟ من ؟؟ من ؟! آآه وجدتك .. ياملعون ... حسناً سأربيك جيداً .. آه منك .. أتهزء بي ..؟؟

(( يذهب الى الرصيف ليأخذ حذاءه الذي انتزعه ))

السكران : حسناً سألقنك درساً لن تنساه أبداً .... اتريد ان تقود انقلاباً عليَّ .. ويحك .. ساقتلعك من جذورك ... ساكبت ثورتك ضدي ... إذن خذ يامتمرد .. خذ ياعميل ... خذ ياجاسوس .. خذ يا متخاذل .. خذ

(( يضرب مؤخرته بحذائه وبقوة ... يستمر الضرب ))

الصوت : (( ضاحكاً )) كم انت مجنون .

السكران : (( يتوقف عن ضرب مؤخرته .. يدعكها )) يالهي .. من أنت ؟

الصوت : انا الحائط الذي خلفك وليس مؤخرتك .

(( السكران يضحك عالياً ... ينفجر من الضحك ... يتحول ضحكه الى شيء من الهستيريا والممزوجة بالخوف ))

الصوت : صدقني

السكران : (( بخوف )) حائط يتكلم ؟؟؟؟

الصوت : وما الغرابة في ذلك ؟

السكران : اذن عليَ ان اعتذر .

الصوت : مني ؟

السكران : لا .. من مؤخرتي .. لاني تهمتها باطلاً . (( السكران يلتفت الى مؤخرته )) انا آسف يا عزيزتي .. آسف .. لن اكن دبلوماسياً معك .. آسف ... (( يلتفت الى الحائط مؤنباً اياه )) .. كله بسببك .. انت كله بسببك جعلتني اضربها .

الصوت : كفاك تفاهة .. كان واجباً منك ان تعتذر مني أولاً

السكران : وعلام اعتذاري منك؟

الصوت : لانك تبولت علي حتى ايقضتني من منامي العميق أولاً .. وثانياً إتكأت عليَ بغير استأذان مسبق مني . وثالثاً نمت بقربي شاخراً.

السكران : عفواً .. ولكن منذ متى وانت لك رأي ؟؟؟

الصوت : (( بحزن )) مـــاذا؟

السكران : الم تحاسب من قام بلصق هذه الاعلانات على وجهك ..؟ الم تحاسب من ثقب جسدك ...؟ الم تحاسب من هَرَّءَ بدنك ؟ الم ....(( قاطعه))

الصوت : اتريد مني ان احاسب الاحزاب التي تلصق عليّ ماتريد ان تكذب به على الناس ..؟ اتريدني ان احاسب الشضايا التي اخترقت أجساد البشر في هذه البلاد ؟ أولائك البشر الذين هم لا يقوون على محاسبة تلك الشضايا . فكيف لحائطً عجوز يستطيع ان يحاسب .. الـ ...

السكران : (( يقاطعه )) كفى .. أرجوك ..

الصوت : (( بشيء من الاقناع )) نعم .. كفى.

السكران : نعم كفى .

الصوت : سمعتك ياحمار .

السكران : (( متفاجئاً )) انا حمار ... أنا ؟!!!

الصوت : نعم ألم تقرأ ما مكتوب على بدني اثناء تبولك علي ... كان مكتوباً البول للحمير هنا .. وانت احد المتبولين .. إذن انت حمــــار .

السكران : (( بشيء من الفرح )) حقاً ..! ؟ واخيراً وجدت تسمية لي ... واخيراً قدري ربطني بعنوان .. الحمار ... الحمار .. اسم رائع ..بالنسبة لي .

الصوت : ماذا ؟

السكران : نعم انا لا شيء .. انا مثلك .. انا اعاني مما تعانيه انت ايضاً .. اعاني من الاهمال .. اعاني من آثار الكدمات والتعرية التي نحتها قدري على وجهي .. انا اعاني من اللوحة الاعلانية الملصوقة على وجهي رغماً عني .. تلك اللوحة التي كتب عليها .. ـ أنا اضحك إذن انا موجود ـ ولكن علامَ ضحكي ؟؟ لا اعرف لمَ ان ضاحكاً رغم الالم الذي احمله .. (( يواجه الحائط )) انظر الى وجهي .. انظر .. هذه الكدمة رسمتها الحرب الاولى .. وهذه الكدمة نحتتها شضية الحرب الثانية .. وهذه الكدمة خلقتها عقوبة تلقيتها في الحرب الثالثة . . وهذه الكدمة نحتتها .. نحتتها زوجتي .. انظر .. انظر هذه الكدمة الرابعة .. وهذه الخامسة .. والسادسه هنا والسابعه هناك .. هناك . ..

الصوت : ((يقاطعه )) كفى هراءاً .. اتخلق بيني وبينك مقارنة ..

اسكران : ماذا ؟؟! (( يجثو على ركبتيه ))

الصوت : ارجو ان لا تشبهني بكيانك .. فأنا على الاقل لم أكلَّ من دغدغة المسامير التي تخترق بدني .. فما زلت شامخاً لحد هذه اللحظة .. فأنا كالشجرة .. لو مُت اموت واقفاً ..

السكران : ماذا تعني ؟

الصوت : اعني ان المواقف التي شاهدتها وشاهدت لحظة وقوعها لم يشهدها شيء اخر ،، فأنا كالتاريخ .. جسدي مؤرِخ صادق .. إقرأ ما مكتوب عليّ .. شاهد ما هو ملصوق بي .. قم .. اطلع .. حتى تعي ما انت ومن انا .

(( السكران يقف .. لحظات من الصمت .. موسيقى .. يذهب الى الحائط .. يتلمسه .. يتأمله ملياً ))

السكران : آه .. ان وجهك كوجه رجل عجوز .. قد طوى الزمن جلده طيات عديدة . (( يواصل التأمل )) آه .. ما هذه الصورة .. ؟؟

الصوت : من صورة صاحب الحاجبين الغليضين ؟

السكران : نعم ... لم يبقى من صورته شيء سوى عيناه القادحتان بالمكر .. أما الباقي فلا .

الصوت : انه صعلوك .

السكران : كيف يكون صعلوكاً ؟؟ يبدو لصورته بانها موضوعة هنا لغاية اعلامية .. يبدو انه مرشح سياسي لانتخابات ما .

الصوت : وهذه الايمنع بان يكون صعلوكاً .. فأنا اعرفه منذ كان صغيرا ماسحاً للاحذية . كان يعمل بقربي .. كان يجلس على هذا الرصيف ليزاول صبغ احذية المارة ..

السكران : ماسح احذية صغيراً .. وعندما كبر اصبح مهما حتى وضعوا صورته هنا عليك ..؟ كيف ..؟!!

الصوت : لانه اتقن اللعبة .. فكان بتمرن عليها يومياً بعد انتهاءه من عمله .

السكران : اية لعبة .. لقد شوقتني لسماع المزيد .. اخبرني ارجوك .

الصوت : حسناًَ ... سأروي لك قصة هذا الطفل الرجل .. اجلس

(( السكران يجلس على الرصيف منصتاً ))

الصوت : حينما كان طفلاً وبعد انتهاءه من عمله وفي وقت استراحته يجمع حوله اصدقاءه المتسكعين مثله .. كانوا اربعة .. هو صباغ الاحذية والثاني ماسح زجاج السيارات .. والثالث المتسول والرابع بائع الخضار .. كانوا يجتمعون ليلعبوا لعبة الدوران حول الكرسي .

السكران : والكرسي كان لمن ؟

الصوت : الكرسي كان ملك لماسح الاحذية .. فكان يجلس عليه اثناء صبغه لاخذية المارة .

السكران : وما هي لعبة الدوران حول الكرسي .؟

الصوت : هذه لعبة مشهورة في هذه البلاد كثيراً .. كيف لا تعرفها ؟؟

(( السكران يدعك فروة رأسه ... يومئ بالنفي .. يشرب قليلاً من النبيذ ))

الصوت : حسناً .. لا احب ان اطيل عليك بحديثي .. كانوا اولائك الصبية الاربعة مجتمعون ليكونوا حلقة مغلقة فيتمركزهم الكرسي .. ثم يبدأون بالركض حول الكرسي ومع صمت الايقاع يتسابقون في ما بينهم بسرعة الجلوس على الكرسي ،، فمن يكون الاسرع يكون هو الجالس .. ومن يكون هو الجالس يكون هو الفائز .. فكانوا يتبارزون فيما بينهم بهذه الطريقة . كان صباغ الاحذية هو الفائز دوماً .. لانه كان يعرف كيف يقتنص اللحظة المناسبة حتى يسبقهم في الجلوس على الكرسي ليشعر بنشوة الانتصار.. فاستمروا الصبية الاربعة على هذه الشاكلة لعدة سنين حتى ضجر الصبية الخاسرين فتركوا اللعبة ولم يزاولوها مع الصبي ماسح الاحذية بتاتاً . فاذا للسنين قد دارت بها الأيام وبعد عقدين من الزمن تفاجأت بلصق احدهم لصورته علي . مكتوبٌ عليها .. انتخبوا مرشحكم ابن بلدكم البار .. فتيقنت حينها بانه كان يتمرن منذ كان صغيراً للحصول على كرسي آخر وهو كرسي الحكم . فكان هذا مراده .. فلا فرق بين كرسي صباغ الاحذية وبين كرسي الحكم .. ولا فرق بين الصراع في الحصول عليهما .

السكران : معك حق .. انها قصة غريبة لصورة متهرءة ملتصقة على جدارٍ عقيم مثلك ..

الصوت : أنا عقيم ؟

السكران : نعم انت عقيم .. ولا احد يستطيع قول غير ذلك .. فلا اعتقد بان هناك جدار في هذا العالم يشبهك (( لحظات )) ارجوك .. اخبرني المزيد عنك ..

(( بينما الصوت صامتاً .. يقوم السكران بتحسس الجدار بملمسه .. يتفاجأ بوجود اخدود ضيق منحوت في الحائط ... يمد يده في ذلك الاخدود فيجد عدة قطع معدنية من النقود .. ))

السكران : ما هذا ؟؟ نقود ؟؟!

الصوت : انا ليست ملك لك .. دعها .

السكران : لمن ؟... لا تقل لي هذا جيبك .

الصوت : لا هذا ليس بجيبي .. هذا جيب الفتاة العجوز ..

السكران (( مستغرباً )) الفتاة العجوز ؟؟ ! من هي الفتاة العجوز ؟ارجوك اخبرني بقصتها .. قصصك مشوِّقة جداً

الصوت : انها لا تزيد دهاءاً عن دهاء الصبي الغليض الحاجبين .

السكران : ماسح الاحذية ؟؟

الصوت : نعم .

السكران : ومن هي ؟

الصوت : انها متسولة تستعطي من المارّةِ.

السكران : وماذا بعد؟

الصوت : كنت اشاهدها مرتين في اليوم .. مرة ذاهبة في الصباح الباكر عندما تبدأ عملها في التسول , ومرة عائدة عند مغيب الشمس حينما تكتفي بما جنته من تسولها .

السكران : وكيف اطلقت عليها اسم الفتاة العجوز ؟؟ هناك غرابة في الامر .

الصوت : لانها خدعتني كما خدعت من استعطت منهم .. كانت هيئتها هيئة امرأة عجوز ، بتحدب ظهرها وبتثاقل خطواتها وبارتجاف اطرافها .. كانت تغطي وجهها بقطعةٍ من وشاحٍ اسود عتيق لكي لا يعرفها احد . ولكي لا يكشفها احد على حقيقتها .. ففي احدى الايام وفي ساعة المغيب أتت تلك المرأة العجوز .. فوقفت امامي .. تأملت انحاء كياني للحظات وذهبت ... وفي اليوم الثاني أتت صباحاً .. وقفت امامي مرة ثانية .. فتأملتني مرة اخرى .. هزت رأسها حتى ذهبت لرزقها ... فشغلتني بتصرفها الغير المعتاد ، حتى صرت انتظر مجيئها رغماً عني ..

تأخرت عن وقتها المعلوم للمرور امامي .. وبعد مغيب الشمس تماماً .. وبعد خلو الشارع من المارّة .. لمحتها من بعيد متلفتة مقبلة نحوي .. فتحدثت مع نفسي وقلت : اخيراً وبعد انشغالي بانتظارها أتت تلك المرأة العجوز . .. نعم اتت .. ولكني تفاجأت ، فكانت متثاقلة الخطوات حدباء القامة رعشاء الاطراف ، فأثناء قربها لي ، زال تقوس ظهرها وازدادت خطواتها المتجهة نحوي رشاقة .. وراحت رعشة اطرافها .. ثم وقفت امامي فإذا بها تزول وشاحها عن وجهها حتى دهشت لما رأيت ..

السكران : (( يقاطعه )) ماذا رأيت ؟؟؟

الصوت : رأيت وجهها .. وجهها الذي بات كبدر أضاء ظلمة الطريق في ذلك الليل الهاديء .. وجدتها شابة جميلة الوجه ناصعة البشرة .. وفاجأتني اكثر حينما اخرجت عتلة حديدية من تحت جلبابها .. فبدأت تنهش بي في مكانٍ واحد في بدني ..

تناسيت الم نهشها بي من شدة اندهاشي لما أراه منها .. وبين الحين والاخر تتوقف ملتفة نحو يمينها وشمالها .. لكي تراقب اذا لو رأها احد المارّة .. فباتت تواصل الحفر في بدني حتى صنعت هذا الاخدود . وبعد انتهاءها وضعت فيه كيساً صغيراً يحتوي على عددٍ ليس بالقليل من القطع النقدية . تلك القطع النقدية التي جمعتها بواسطة تسولها .. وبعدها رجعت لوشاحها الاسود العتيق فغطت وجهها واخفت العتلة التي نهشتني بها وتأملتني ملياً ... فأبتعدت عني ... ابتعدت عني عائدة لهيئتها ذات القامة الحدباء والاطراف المرتعشة والخطوات المتثاقلة .. حتى غاصت بين الازقة العمياء التي لم تنتبه لي ولها .. تلك الازقة التي لم تبكي لحالي ولم اتأن لهول ما أشاهده وما اعانيه .. بِتُ افكر ملياً في تلك الفتاة العجوز .. بتُ مندهشاً متسائلاً في كيفية تأديتها لدور المرأة العجوز طوال النهار والليل وبدون هفوات .. حتى بدأت نجوم السماء بالاختفاء وبدأ لون السماء بالتغير .. وابتدأت العصافير بالزقزقة استعداداً لنهار آخر .. حينها وقعت بصيرتي على تلك المرأة مرة اخرى .. فرأيتها مقبلة نحوي مسرعة .. متجهة لجيبها الذي صنعته في بدني .. فاذا بها تأخذ ذلك الكيس الذي وضعته مساءاً .. ولشدة عجلتها في امرها اوقعت تلك القطع النقدية سهواً ودون علمها ... تلك القطع التي في كفك الان .. فولت راكضة في الاتجاه الاخر ولم تعد ليومنا هذا ..

السكران : لا أصدق هذه الحكاية .

الصوت : انا في باديء الامر لم اصدقها رغم حدوثها معي ورغم كوني الشاهد والمجني عليه .. ولكن بما انها من جنس البشر صدقتها ..

(( السكران مذهولاً ))

الصوت : ولان هل عرفت سبب تسميتي لها بالفتاة العجوز ؟

السكران : هــا ... ؟ مـــماااذا ؟! .... نعم .. نعم صدقت .

الصوت : ان في كل جزء من بدني اثر لحكاية مرة . ذكرى لقصص مؤلمة

السكران : لا استطيع الاستمرار في تقليب صفحاتك مرة اخرى ..

الوت : ولا أنا استطيع البقاء واقفاً .. فقد ازداد ثقل الاثارعليّ.

السكران : (( محاولاً لتغيير الموضوع )) عفواً ... يبدو أنك لا تسمح بأخذي لهذه النقود .. سأضعها في محلها .

(( السكران يضع النقود في الاخدود .. يلتفت صدفة لأثر آخر على الحائط .. يتفاجأ فيُرعَب كثيراً .. يبتعد عن الحائط ... يبدأ بالتقيؤ لما شاهده من منظر مؤلم .. يتقيأ ... ))

الصوت : لماذا تتقيأ ؟

السكران : عفواً ... انه .. انه .. مفعول النبيذ .. آآآه ..

الصوت : لا تكذب :

السكران : لا .. آآه (( يواصل التقيؤ ))

الصوت : قلت لك لا تكذب علي ... فأنا اعرف على ماذا وقعت عيناك ..

السكران : ارجوك ... قل لي ... كيف تحملت ذلك ؟

الصوت : افعالكم جعلتني لا آبه لشيء

السكران : كيف تحتمل التصاق الدماء المشوية المنثورة على بدنك ؟ ... كيف تحملت التصاق هذه خصل الشعر المحروقة على وجهك ؟.... كيف تحملت رائحة الآهات المشوية لأصحاب هذه الاجزاء البشرية الملصوقة بك ؟... انها فتات لأناس محروقين ..

الصوت : ولِمَ تستغرب .. انه مشهد يميز جدران هذه البلاد .. ان الاشلاء البشرية الملصوقة على الجدران اصبحت جزء من هويتنا في هذه البلاد .. من خلالها يمكنك ان تميزني عن باقي جدران الكون بأسره .

السكران : لكن ألا يمكنك ازالتها عنك ... فمظهرها جداًً ....

الصوت : (( يقاطعه )) وما الفائدة من ازالتها .. حتى لو ازلتها فصورة لحظة التصاقها بي لا تفارقني ابداً .. لا أستطيع ان انسى لحظة تشبثهم بي هروباً من السنة النار والحديد المتشضي .... لا أستطيع ان انسى ساعة صَهُرُهُم بقربي ومزج كيانهم بكياني ...

السكران : لا .... سأساعدك .... سأساعدك في انتزاع هذه الاثار من عليك ..

(( السكران ينتفض ويقوم بأزالة ماهو متبقي من اشلاء بشرية محروقة من على الحائط ))

السكران : يجب ان تبقى شامخاً نظيفاً .. يجب ان تبقى رائحتك زكية .. يجب ان يبقى بدنك سليماًً .... فأنا .. أنا احببتك لتجاربك .. نعم احببتك .. جعلتني احسدك .. جعلتني اقول لنفسي ليتني كنت حائطاً .... ليتني كنت حائطاً .. اتمنى ان اكون مثلك ..

الصوت : (( يقاطعه )) ارجوك توقف .. كفــــــى ...

(( السكران يهدأ من حالته الهستيرية ))

الصوت : ما الفائدة من ذلك يا صديقي ؟ حتى العصافير قد هربت مني .. لم تعد لتحط فوقي .. الفراشات ... الفراشات لم اعد اشاهدها تطير من امامي ... كدت انسى اشكالها والوانها ... سأنسى الجمال وشكله .. بقيت وحيداً منتظراً ساعة هدمي ..

السكران : لا لست وحيداً .... فأنا بقربك ... ولن افارقك ..لن افارقك مهما حل بي .. فأنا لا شيء بالنسبة لك ..

(( السكران يقف بجانب الحائط ... يقف منتصباً دون حراك ... مجسداً شكل عمود كهربائي ... صامتاً ))

الصوت : ارجو منك ان تحتمل ما احتملته انا ..

السكران : ان لم اكن بقوة الحائط .. لن أقوى على احتمال اهوال الزمن في هذه البلاد .

(( يقف منتصباً كالعمود الكهربائي .. ينتهي الليل .. تدخل اجواء ساعات الفجر في الفضاء المسرحي .. موسقى ... يدخل سكران آخر وبيمينه قنينة من النبيذ ...... يدندن باغنية غير مفهومة تكون نفس الاغنية التي كان يغنيها السكران الاول .. يتكيء على العمود ــ السكران ــ ... يشرب رشفة من النبيذ ... يدور وجهه الى العمود ــ السكران ــ يبحث عن مكان ما لشيء ما ... يتبول على العمود الذي كان هو السكران الاول ))

****اظلام تام****

**** ستار ****

تمت في 14/10/2007

** ملاحظة : وصف الحائط هذا قد لا ينطبق على جدران العالم لما يعانيه ... فهو حائط عراقي ..!


رجوع


100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  ذو الفقار خضر


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni