أملاك اليهود في مدينة الناصرية.. قصة مؤجلة

المقاله تحت باب  قضايا
في 
24/06/2016 06:00 AM
GMT



نقاش / علي الناصري

لم يعد لليهود العراقيين في محافظة ذي قار غير بقايا أملاكهم وارثهم المعماري والإنساني التي مازال بعضها قائما، وجزء كبير منها في خانة الذكريات.

 كان يعقوب كوهين آخر شخص على قيد الحياة من اليهود الذين سكنوا الناصرية حتى قرر مغادرتها مطلع السبعينات من القرن الماضي إلى البصرة ليتوفاه الله ويدفن هناك.

برحيل كوهين أسدل الستار على تاريخ حافل بالحياة والقصص الاجتماعية والثقافية المشتركة مازالت معالمها جليّة للعيان في البيوت ذات الشناشيل الخشب والعمارات وطرز الأبواب وزخارف الجدران.

 أغلب القصص عن اليهود في محافظة ذي قار تختزنه ذاكرة من تبقى من الرعيل الأول وأبنائهم الأحياء.

بعد عام 1948 تعرضت حياة اليهود لهزات قوية تحت ضغط السياسة واشتعال الحروب بين الدول العربية وإسرائيل، إضافة إلى ترغيب الدولة الإسرائيلية آنذاك لليهود العراقيين بحياة أفضل فهاجر إليها عشرات الآلاف منهم تاركين خلفهم إرثاً اقتصادياً كبيراً متمثلاً بالعديد من المصالح التجارية والعقارات والمباني.

يقول الحاج سالم تويلي وهو عسكري متقاعد من مواليد 1930 إن التاجر اليهودي يعقوب كوهين والمعروف بـ(أبو مير) ترك خلفه ما عرف بـ(خان النيدي) حيث كان يتاجر ببيع وشراء الصوف ولديه علاوة على ذلك (بودقة التيزاب) التي يجهز من خلالها صاغة الذهب بمادة التيزاب (حمض الأسيد أو ماء النار) وتستخدم في تنظيف الذهب.

ويضيف لـ"نقاش" ان الخان كان جزءاً مما تركه اليهود من أملاك في مدينة الناصرية والشطرة وسوق الشيوخ وفي شارع الجمهورية والقيصرية وبعضه مازال قائما.

تويلي يزعم أن اليهود تركوا مدينة الناصرية طواعية دون أن يتعرضوا لضغوط اجتماعية أو دينية عام 1948، لكن الأحداث السياسية دفعت بهم للرحيل، واكتملت هجرتهم إلى إسرائيل  بعد عامين.

هذه الهجرة شملت يهود العراق الذين انخفضت أعدادهم في العراق من (135) ألفاً عام 1948 إلى أقل من (100) شخص في 2003.

 ويقول "آثر اليهود لدى رحيلهم رهن أملاكهم لدى أصدقائهم من أبناء المدينة وفق ما عرف بالبيع (الدوري  أو الرهن) أي البيع مقابل ثمن على شرط استعادة الأملاك فيما بعد وإعادة المال المدفوع حين العودة".

ويتحدث الدكتور عبد الأمير الحمداني -أكاديمي وباحث في التراث والآثار-  عن رصد أكثر من (150) موقعا تراثيا في عموم محافظة ذي قار ما زالت قائمة بشكل أو بآخر ويقول لـ"نقاش" إن "هناك بيوتات وأسواقاً وخانات ومراكز ثقافية ودينية مبنية على شكل الشناشيل وبالآجر وزخارف وشرفات وكور خشبية نشأت مع بداية تأسيس المحافظة مطلع القرن التاسع عشر، البعض منها مختوم عمرانيا بنجمة داود التي تدل على أنها تعود لعائلات يهودية".

ويضيف "يذكر هنري فيلد في دراسة أعدها للمعهد الشرقي بشيكاغو خلال زيارته المدينة عام 1923، أنه كان يسكن الناصرية ما يزيد على (400) شخص يهودي من أصل أكثر من (400) عائلة في المدينة من مذاهب مختلفة".

 وبرغم تبدل معالم المدينة وتقوّض المباني القديمة فأن شارع الجمهورية ما زال يحتفظ ببقايا الشناشيل الخشبية والمباني العتيقة في ما يسمى (سوق العصمليين) حيث كان يعد أحد تجمعات  التجار وأصحاب الحرف من اليهود.

 يلوذ أبو جمال وهو من مواليد 1938 من حر الشمس ببقايا سينما البطحاء، حيث حفرت نجمة داود على جدرانها ، مستذكرا زمن صباه الذي وصفه بالجميل إذ أمضاه مع أقرانه اليهود حيث اللعب والأكل والمناسبات المشتركة.

 ويقول لـ"نقاش" ان "هذه السينما من أملاك اليهود إلا أنها استملكت من قبل الدولة وجرى تأجيرها لآخرين لا يعرفون قيمة المبنى التراثية وتاريخه فاستغلوه بصورة سيئة ولم يحافظوا على معماره".

 ولم تغب عن ذاكرته أسماء يهود المحلة التي سكنها "ما زلت أذكر حييم الصراف وخضوري هارون وشليمو بائع المواد الإنشائية وشوعا صاحب مكوى الملابس".

  فيما يقول الباحث التاريخي حسن علي خلف صاحب المؤلفات التسعة في تاريخ المحافظة، أنه عندما قرر العثمانيون تأسيس مدينة الناصرية احتاجوا لقوة اقتصادية ومالية جاذبة  تؤمن الكثير من المتطلبات ومنها تشغيل الأيدي العاملة وبناء حياة جديدة للمدينة الفتية لذلك كانت السيطرة الاقتصادية لليهود باعتبارهم مثلوا الأكثرية بين السكان آنذاك وامتلكوا القدرة الاقتصادية.

 ويضيف "كان على رأسهم (حكمة الله  كوبجيان) الذي يعد من كبار التجار, كما سيطر التجار اليهود على أغلب مفاصل التجارة والاقتصاد والأملاك، عدا أنهم تناقصوا تدريجياً بعد توسع المدينة وزيادة أعداد السكان المحليين والوافدين من المحافظات الأخرى إثر فتوى دينية بوجوب السكن فيها للحفاظ على عروبتها".

 يؤكد الفنان إحسان الفرج مواليد 1958 من طائفة الصابئة التي اشتهر  أبناؤها بصياغة الذهب أنهم استقوا فنون الصنعة من اليهود ويقول لـ"نقاش" لقد "كنا ضمن نسيج  اجتماعي واحد، وقد  عمل والدي مع الصائغ اليهودي ( خضوري هارون) وتعلم كثيرا من حرفته، لكن هارون رحل بعد أن صفى أملاكه".

 في الآونة الأخيرة ارتفعت أصوات اليهود العراقيين لمطالبة الحكومتين العراقية والإسرائيلية بتعويضهم عن أملاكهم وخسائرهم، لكن إميل كوهين، اليهودي العراقي الذي عاش أسلافه في البصرة، وصف في تصريح لصحيفة الشرق الأوسط، المطالبات التي تدعمها الحكومة الإسرائيلية  بأنها "مسألة سياسية ليست أكثر".

 وقال إن "يهود العراق يعرفون أنهم لن يحصلوا على أية تعويضات عما جرى لهم".

 وينفي مدير التسجيل العقاري علاء جاسم محمد في منطقة (صوب الجزيرة) في حديثه لـ"نقاش" وجود أملاك مسجلة لليهود في الوقت الحاضر، ويقول إنها تعرضت للمصادرة وقت هجرتهم وإسقاط الجنسية العراقية عنهم وما أعقب ذلك.

 ويقول "كان التوجه السياسي في تلك المرحلة ضد قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين، فكان رد فعل الحكومات العراقية المتعاقبة يتمثل بمصادرة أملاك اليهود العراقيين الذين غادروا البلد، واستمرت هذه السياسة منذ مطلع الستينات حتى حقبة النظام العراقي قبل 2003".

 ويضيف "من المفارقات  أن تقوم الحكومات بمصادرة أغلب أملاك اليهود في مدينة الناصرية باستثناء أملاكهم في قضاء الشطرة التي قاموا ببيعها بعد هجرتهم تحت مسمى أنهم مسيحيون، أما طريقة البيع فجرت من خلال سفارات دول أوربية  وعبر منح وكالات بيع لأصدقائهم داخل المدينة وإرسال المال تباعا إلى الدول الصادرة منها تلك الوكالات".

 وهو يرى أن أملاك اليهود ليس لها ذكر اليوم في سجلات الدائرة فاغلبها لم يسجل آنذاك على شكل ملفات ووثائق رسمية، ويقول "كان البيع والشراء يتم من خلال عقود شخصية يتم مداولتها بين السكان المحليين دون المرور بالدوائر الحكومية بسبب أن المناطق آنذاك لم تكتمل بالشكل الحالي إداريا ومعنويا".

 ويغدو الأمر صعبا بغياب الوثائق،  لكن الباحث حسن علي خلف يؤكد أن اليهود تركوا بساتين واسعة تحيط بالمدينة وأسواقا تجارية كبيرة ومبالغ طائلة إبان فترة التهجير بين 1948 و1952 ويقول "لا يمكن جرد كل تركتهم فبعض أملاكهم منحوها كهبات لأصدقائهم وخدمهم ومعارفهم وصديقاتهم وعشيقاتهم، بينما استولت الحكومات المتعاقبة على القليل من ممتلكاتهم، وبعضها استولت عليها أسماء معروفة تنعم بها حاليا".

 ويتحذّر خلف من ذكر هؤلاء لأن الحقيقة  كما يقول "قد تكلفني الكثير".

 وبرغم غياب الوثائق الرسمية في دوائر الناصرية فأن ذكريات الذين مازالوا على قيد الحياة ومعالم المدينة توثق تفاصيل ملكية واسعة ليهود الناصرية في مناطق مختلفة إلا أنها مقيدة بذمة المجهول، فيما يجري الحديث عنها بين الحين والآخر بشكل خجول سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي.