مصطفى الكاظمي في حوار مع مجلة "الشبكة العراقية "

المقاله تحت باب  أخبار و متابعات
في 
13/02/2007 06:00 AM
GMT



تعد مؤسسة الذاكرة العراقية نموذجا متميزا تعمل على أرشفة تأريخ الرعب والتعذيب التي مورست ضد الشعب العراقي وبكافة أطيافه أبان حكم النظام السابق وهي مقاربة للنماذج العالمية في أرشفة الجرائم ضد الإنسانية. وقد عملت مؤسسة الذاكرة العراقية على جمع ملايين الأدلة والوثائق التي توثق الجرائم التي أرتكبت في العراق منذ ثلاث عقود.

مصطفى الكاظمي إرتبط إسمه بمؤسسة الذاكرة العراقية وهو الكاتب العراقي الذي خرج من العراق في عصر الخوف حينما كان كل عراقي يلتفت الى الوارد ويشعر بظلال رجال الأمن يسدون عليه آفاق الطرقات ولأنه كان حالم كبير فكان يحمل الوطن في حقيبته ويحارب العسكرتاريا على صفحات وسائل الإعلام، لذلك سألناه أولا.

* مصطفة الكاظمي إرتبط أسمه بمؤسسة الذاكرة العراقية، ألا تشعر بالغبن إزاء هذه الحالة وأنت من كتاب المعارضة الدائميين؟

- أبدا، إذ لم يتذكرني أحد وبقي إسم المؤسسة حاشرا فهذا يكفيني، لأنه بالضبط ما أردناه نحن العاملين فيها، كنت أحد الموقعين على بيان المعارضة بعد غزو الكويت فكان التقارب بيني وبين البروفيسور كنعان مكية الذي كان يفكر آنذاك بإنشاء متحف كبير للجريمة البعثية يكون مكانه (ساحة الإحتفالات)

* لكنك دخلت العراق بعد سقوط النظام كإعلامي في شبكة الإعلام العراقي، فلماذا تركت العمل في التلفزيون فجأة بينما الإعلام العراقي يشهد تحولات خطيرة من المقروء الى الرمئي وإنتشرت الفضائيات بشكل سريع؟

- المجموع التي اسست شبكة الإعلام العراقي بمجملها إنتهت مهمتها بعد التأسيس حيث إتجه بعضهم الى إنشاء صحف خاصة وإذاعات وقنوات فضائية وعاد البعض الآخر الى منفاه حينما إصطدم بالواقع العراقي الجديد، والامر بالنسبة لي يعد مختلفا فقد إكتمل مشروع مؤسسة الذاكرة فكان لابد من التفرغ الكامل لتحقيق أهداف المشروع الكبير الذي يعتمد على وسائل الإعلام المقروءة والمرئية لتسجيل وأرشفة وتحليل الجرائم التي إرتكبها نظام البعث بحق الشعب العراقي بعيدا عن المنظار الطائفي الضيق.

* منذ أوائل التسعينات وأنت تنشر على صفحات الجرائد العربية مقالات تفضح جرائم النظام السابق وفي المقابل مايزال الإعلام العربي يغض الطرف عن تلك الجرائم مطالبا بدليل، أنتم الآن في مشروع التأريخ الشفوي تسجلون أدلة حية لشهود كانوا ضحايا لذلك النظام، ترى كيف سيتعامل ذلك الغعلام العربي بما تفعلونه؟

- يبدو ان كل ما يقدم من أدلة لا يكفي لتغيير وجهة نظر الإعلام العربي ولا أقول جمعه لما جرى في العراق وهذا نتاج التأسيس البالغ الدهاء ولسنوات طويلة من شراء الأقلام وإفتتاح مجلات وصحف عربية بأموال عراقية، كانت تلك المجلات تصدر في لندن وباريس وتلهج بإسم صدام وتتغنى بحروبه على البوابة الشرقية وكلنا يعرف النتيجة المأساوية لهذه الحرب التي خلفت أكثر من مليون قتيل.

طبعا هناك مراكز قوى إقليمية وعربية، سياسية وإعلامية كانت تجري على الدوام عمليات غسيل لجرائم وتمحو آثار حروبه.

* المهمة التي بدأتها مؤسسة الذاكرة العراقية وعبر مشروع التأريخ الشفوي بدت منذ البداية خطيرة وقد عرضت نماذج لعوائل المعدومين والسجناء السياسيين وكان خطابها مؤثرا وحزينا، ما الذي جعل (هذا الصوت) يخفت تدريجيا؟.

- التجربة ماتزال في بدايتها وهي تجربة جديدة نوعا ما، وبعيدا عن النماذج العالمية في أرشفة الجرائم الإنسانية، كجرائم الهولوكوست ولجنة التحقيق في المذابح التي حصلت في أماكن متفرقة من العالم كالبوسنة والهرسك ومذابح قبيلتي الهوتو والتوتسي، إلا ان مثالا عراقيا أنشيء في بداية السبعينات وسمي بمتخف الحزب وهي تجربة عراقية صرفة كان يعرض فيها على جدران منزل حسن البكر صورا لضحايا أحداث العنف في مدينتي الموصل وكركوك بعدتمرد عبد الوهاب الشواف وحوادث (السحل) في الشوارع بعد المواجهات بين القوميين والشيوعيين،

كذلك كان يعرض صور الضباط الذين أعدمهم عبد الكريم قاسم، لقد أصبح ذلك المنزل متحفا للألم ومزارا لطلاب المدارس الذين كانت الدولة تأمر بالمشاهدة الأسبوعية لتنشئة جيل من الشباب الغاضب على أعداء الحزب والثورة، وهذا المتحف الذي يضم أسلحة الحزب الأولى محدود في حجم معروضاته بالقياس الى الألم الذي تسببه به الحزب نفسه منذ إستلامه السلطة في السابع عشر من تموز عام 1968 وحتى سقوطه في نيسان 2003 حيث بدأت ماكينة الدعاية البعثية ترافق أعراس الشنق في ساحة التحرير بتهمة التجسس ثم أخذت حفلات الإعدام تطال الجهاز الحزبي نفسه في أولى التطهيرات بعد محاولة ناظم كزار وصولا الى التطهير الأخير الذي حدث عام 1978 على يد صدام وبين هذين التأريخين لم تكن جرائم الإبادة الجماعية وأعمال القسوة والتهجير قد بدأت بعد، فقد كان النظام مشغولا بترتيب بيته من الداخل حتى إذا ما جاءت الفرصة قبيل الحرب العراقية الإيرانية فبدأت بإعتقال وإعدام كوادر وقيادات حزب الدعوة والحزب الشيوعي وتهجير العوائل بحجة (التبعية) ثم تطورت الجريمة السرية الى جريمة علنية كالتطهير العرقي الذي تعرض له الأكراد في حملات الأنفال وضربهم بالأسلحة الكيماوية وصولا الى سحق التمرد في الجنوب بعد إنتفاضة آذار عام 1991 وما جرى بعدها من إعدامات بحق المنتفضين ودفنهم سرا في مقابر جماعية أكتشفت بعد سقوط نظام البعث وتبذل مؤسسة الذاكرة العراقية كل جهودها في كشف خارطة الجريمة البعثية كلها وبأدق تفاضيلها.

* ما تعدونه دمويا وجرائم وحشية، يعدها الآخرون دفاعا عن النظام او دفاعا عن النفس، وحينما تبدأ سلسلة التبريرات يستطيع أي نظام شمولي أو جهة سياسية ان تدرأ عن نفسها التهم وتلقيها على عاتق الجانب الآخر، وما يحصل الآن من عنف طائفي يؤكد تلك النظرية.

- ما يحصل الآن هو غير ما حصل بالأمس، العنف كانت تحتكره الدولة عبر الجرائم المنظمة التي كانت غايتها التخلص من المعارضين وعوائلهم ومسح آثارهم بالكامل حيث كانت الإعتقالات والتعذيب ثم الإعدامات تجري بسرية في جميع أنحاء العراق وبشكل خاص في أقبية المخابرات والأمن العامة، يلاحق بعدها ذوي المعدومين ويراقبون لسنوات طويلة لضمان سكوتهم وعدم إقامتهم مراسيم عزاء لضحاياهم، ولدينا الآن الملفات المليئة بالتقارير المرفوعة من وكلاء الأمن في مناطق سكنى الضحايا تحتوي على معلومات خطيرة تؤكد تعذيبا من نوع آخر طويل الأمد، كانت له آثار نفسية عميقة وأنت تستطيع قراءة آثار ذلك التعيب النفسي في وجوه أرامل المعدومين ووجوه أمهاتهم، فما الذي ستسمعه من إمرأة ظلت تنتظر عشرين عاما رؤية او إكتشاف قبر إبنها او زوجها دون جدوى.

وإذا كان صوت المؤسسة قد يبدو خافتا بسبب القتل اليومي الذي تواجهه الآن نفس الفئات المعارضة لنظام البعث، فلأن القتلة هم أنفسهم اليوم يحاولون إسكات هذا الصوت او خنقه بإرتكاب جرائم جديدة أشد فضاعة.

* خفوت الصوت، هذا لم يستمر على حد علمي فقدش اهدت على شاشة العراقية برنامج (ضوء) الذي يتكفل بالجريمة كلها، ألا ترى ان إسم البرنامج يبدو (لطيفا) إزاء بشاعة الجرائم التي يعرضها؟.

- طبعا، هنالك أسماء كثيرة يمكن ان نطلقها على برنامج مثل هذا الذي يعرض على شاشة العراقية بالتعاون مع مؤسسة الذاكرة العراقية، فأسماء مثل: صناعة الخوف، حدود القسوة، جرائم العصر الى آخره من الأسماء التي قد يكون لها حكم مسبق لما سيراه المشاهد، نحن أردنا إسما محايدا لا تحريضيا، إسما يترك للمشاهد فسحة للتفكير، وهو بالضبط ما يقصده مشروع التأريخ الشفوي، الذي يعرض شهادات الضحايا دون عملية مونتاج او إدخال أي نوع من المؤثرات الصوتية او الصورية، أننا هنا نتعامل مع وثيقة وعادة ما تكون الوثيقة (خشنة) وغير منمقة، مثل ورقة في ملف قديم، ممزقة الأطراف، باهتة الألوان، الشكل قد يكون وبالا على المضمون. نحن لا نريد ان نقود المشاهد بإستلاب عواطفه، نريد مخاطبة العقول لا القلوب.

* هل هناك مؤشرات تلمسون من خلالها تعاطف جميع المشاهدين او تفاعلهم مع الضحايا؟.

- لمسنا ان فئة كبيرة من المشاهدين يتفاعلون مع الضحايا بحكم معرفتهم المسبقة بالممارسات اللاإنسانية لنظام البعث ولكن ليس جميع المشاهدين يتعاطفون مع الضحية فهناك شريحة من المجتمع العراقي ماتزال تؤمن بأفكار النظام الشمولي وتعيش على ذكراه وتتمنى عودته وهنا تكمن المشكلة.

ان عوائل الضحايا المعدومين والضحايا الذين عاشوا بعد سنوات طويلة من الإعتقال ليسوا بحاجة لمن يذكرهم بآلامهم. أننا في مؤسسة الذاكرة العراقية ومن خلال مشروع التأريخ الشفوي الذي يعرض كفقرات قابلة للمناقشة في برنامج (ضوء) نريد إنتاج خطاب عقلاني وليس آيديولوجي، خطاب إنساني بالدرجة الأولى، يمكن ان يشمل تأثيره الطرف الآخر أيضا، الطرف الذي قام بدور الجلاد او عوائل أولئك الجلادين، أقاربهم، أصدقائهم، الذين ينظرون الى أنفسهم كأبطال حاربوا (الخونة)، و(الجواسيس) وحاربوا المعارضة، والصور والأفلام والملفات التي تحتفظ بها مؤسسة الذاكرة في ارشيفها الضخم ترينا بالضبط الصورة الحقيقية لما كان يحصل في أقبية الأمن العامة حينما يتحول (الإنسان) الى وحش كاسر يأكل لحم أخيه حيا تحت شعار الواجب. أنها شعارات إبتدعتها مخيلة مريضة، شوفينية، لا عودة إليها ما دام العقل العراقي لا يتوقف عن التفكير ولا يشل العنف حركته، ان مشروع الذاكرة العراقية يبدأ أولا من تنشيط تلك الذاكرة بجرعات من الحقيقة المؤلمة وثانيا ترك مساحة للتفكير والمراجعة دون تحريض او إلغاء.