... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله

 

  أخبار و متابعات

   
الشاعر أديب كمال الدين و"ذوتنة الحرف" . . . ح 2

حياة الخياري

تاريخ النشر       24/09/2007 06:00 AM


والآن – يا عزيزتي- ماهو الاسم الذي ترينه مناسباً؟ بتفصيل أكثر: لقد نال الجميع جوائزهم، فنالوا الدنانير والطيور والنساء. تماماً مثلما كانت إجابتهم للسؤال الذي بدا هنا أزلياً. فماذا عني؟ لقد أجبتُ الإجابة المربكة، المحيرة، الغامضة في حضرة القدر والدنيا والبحر والملك والمجتمع، ونلتُ – كما يبدو واضحاً - ما أستحق: قطع الرأس، لتنمو من دمي المتاثر على الأرض شجرة المعرفة: شجرة النور والسرور. وهي الشجرة التي قد تكون شجرة الحروف؟ لماذا قد ؟ بل هي شجرة الحروف التي تستحق التماهي معها إلى النهاية التي لا رجوع عنها.

- قال النفّري : "لقد عجز الحرف عن أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عنّي؟ ". والحرف عندك ليس تجربة شعر يُكتب بعمق، بقدرما هو تجربة حياة تعاش بمكابدة. إلى أيّ حدّ كانت حروفك قادرة على تشرّب كمّ المآسي التي عايشتها، ومتى تشعر بأنّ الحروف - فعلا- تخذلك؟

* لقد شُغِلَ النفّري الذي وصِفَ بأنه "كان مولهاً، لا يقيم بأرض، ولا يتعرف إلى أحد" بحبّ الله إلى الدرجة التي نسي فيه نفسه وأرضه ووطنه، إلى الدرجة التي يُقال عنها إنها درجة النسيان المطلق. ولِمَ لا؟ فالمهمة جليلة، والدنيا فانية لا ريب في ذلك، والمحبوب عظيم الشأن، قاهر القدرة، لطيف، مطلع على الأسرار فلا تخفى عنه خافية، غفور، مجيب للدعاء، بيده الخير وهو على كلّ شيء قدير. كيف، إذن، لا يذوب المحبّ في المحبوب؟ وكيف لا يبحث بحثاً لا أول له ولا آخر مَن أكلته الحيرة ومزّقه القلق ونبذته الطمأنينة وأرعبه ضعفه البشري وارتباكه الإنساني عمّن يفتح باب الجواب ويغلق باب السؤال؟

كلّ صوفيّ حقيقي لا يقيم بأرض، أي أرض، وإن أقام سنين عدداً.فحبّ الذي قال كن فيكون لا يشبه أي حبّ آخر. إنه جوهر الحبّ والسؤال والماهية. ما دام كلّ شيء يمضي لا محالة إلى التلاشي والفناء والعدم ولا يبقى على العرش إلا مَن كان عرشه على الماء. لابأس، إذن، من السياحة في أرض الله علّ المحبّ يرى المحبوب، وينير له ظلمته التي لا حدود لها وهو بين العامة والسوقة والغافلين. علّه ينير له شيئاً، ويجلو عن قلبه الهم، وعن عقله هول الدنيا وغربتها، حيث الناس نيام فإن ماتوا انتبهوا وقالوا كيف ولِمَ ومَن وعلام وإلامَ وممَن ومتى! سياحة النِّفَّري امتدت لعِظَم السؤال وزوغان الجواب وارتباك الحال وقلّة الناصر وتماهي الحال مع السراب، امتدّت حتى أكلت العمر كله ولم تترك منه شيئاً البتة، حتى قيل إن النِّفَّري لم يكتب شيئاً. فمن كان يطوف في الآفاق حتى أنفق العمر كلّه في الطواف، كيف له أن يكتب؟ أي كيف له أن يستكين ويهدأ بعضاً من الوقت ليكتب؟ وهكذا ظهر مَن قال إن ما كتبه النِّفَّري كان بخط ابنه أو حفيده أو تلميذه.كانت تجربة النِّفَّري جسيمة ومكابدته لا نهاية له. فالرجل مخلص في سؤاله تمام الإخلاص، وعاشق في حبّه إلى درجة الهيام، ومتيّم في محبوبه إلى الدرجة التي يصعب وصفها أو يستحيل، وعارف معرفة اليقين أن الدنيا لا تغرّ إلا السفهاء ولا تشغل إلا الأوغاد ولا تغوي إلا المارقين، فكان أن اتبع هدى مَن قال لن تراني ولكن انظرْ إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني، واتبع محبّة مَن دخل إلى الحضرة الكبرى فقيل له صفْنا فأوصى محبّيه أن كونوا كعابري سبيل، ثم اتبع حيرة مَن لولا تسبيحه لبقي في الحوت إلى يوم يبعثون، ثم اتبع خطاب مَن قال إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيباً. واتبع حوار مَن قال أنت تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسكَ إنكَ أنتَ علاّم الغيوب، ومن ثم اتبع، أولاً وأخيراً، نقطةَ مَن قال الحمد لله حمداً يليق بمَن خلق السموات والأرض وقدّر فيها أقواتها فكان الخالق، الرزاق، المعين، الكريم، العزيز، المتعال، الجبار، المهيمن، الحليم، الغفور، اللطيف، الحافظ، القاهر، الرحمن، الرحيم، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن.

كانت التجربة عظيمة والمسافة التي بدأت لم تكن لتنتهي. مسافة السياحة والبحث عمن وسعتْ رحمته كلَّ شيء ووسع علمه كلَّ شيء وأحاط بكلِّ شيء فلا تسقط ورقة ولا يولد مولود إلا بعلمه ولا تنتهي قصة الا وأعد لها ما يليق بنهايتها. ذلك الذي عجزت العقول التي مسيرها إلى الفناء عن كشفه فكانت القلوب هي الكاشفة، ولكن عبر سياحة الألم، ورحلة العذاب، وغول الحاجة، وربيع الزهد، وأنين الصوم، وصلاة الغربة، ودموع الوحشة والفقد والخوف والارتباك، ووجع الموت أو الاقتراب من الموت قاب قوسين أو أدنى.

هكذا قدّم النِّفَّري كشوفات رحلته السعيدة- المريرة. السعيدة والهدف هو الذي قال يا ابن آدم خلقتك وأنا أحبّكَ فبحقي عليكَ كنْ لي محبّاً. والمريرة حيث الجسد ضعيف، والملذات تحيط، والشهوات تطغى، والجوع كافر، والفقر أقسى من البحر الذي أغرق الفرعون، والعمى أطفأ العين فكيف ترى، والشوق إلى الأهل والخلان يذوب العظم، والمرض قليله كثير فكيف بكثيره؟ أية كشوفات هذه؟كشوفات النِّفَّري غريبة عجيبة لا تشبه كشوفات غيره من المتصوفة. فهي تتشكّل لتمّحي، وتكبر لتنهار، وتنمو حتى تكون عمارة ثم تختفي، وكأن الكلام في كلّ ما سبق وقيل لم يقل البتة. فالرجل يقول الشيء ونقيضه. الشيء ونقيضه دون زيادة أو نقصان! إنه كمن يصطاد سمكة عظيمة حتى إذا فرح بها، وفرح بها مَن رآها، انزلقت فعادت إلى البحر أو النهر فذُهل القائل ودمعت عينا الرائي. نعم، ذُهل القائل الذي سيسارع ليقول نقيض ما قاله سابقاً. وذُهل الرائي حتى أكله العجب فهو لم يرَ سمكة بهذا الكبر تُصطاد ثم بسرعة تنزلق إلى الماء، وكأنّ مَن أمسكها كان عاجزاً لا يمسك شيئاً أبداً.ثم يعيد النِّفَّري المحاولة ليقف في موقف جديد أو في مخاطبة ثانية أو في رؤية ثالثة ليصطاد سمكة أكبر من السابقة، سمكة تتلألأ تحت ضوء الشمس بندرتها وجمالها ونشاطها، ولكن لن يكون مصيرها إلاّ كسابقتها. فأيّ حظٍ سعيد هذا وأيّ خيبة مريرة؟!

لكن الحرف لديّ يحاول أن يُخبر وأنا أحاول أن أقول من خلاله وبه وفيه. وكلّ شيء رهن بالمحاولة وقانون المحاولة. وهناك، قبل كلّ شيء وبعده، قانون الموت الذي هو أكبر من المحاولة وقانونها وأكبر من الحرف رغم أن الموت حرف هو الآخر!

 

- "الموت حرف"! كثيرا ما شُغلتَ وشَغلْتنا بـ "ميم الموت" المتقدة حياة في شعرك. حرف الميم رقمه أربعون في حساب الجُمَّل ،ولا أتصوّر أنّ الصدفة هي التي كانت وراء عدد قصائدك الأربعين في كلّ مجموعة من مجاميعك الشعريّة الأخيرة ،أقصد "حاء" و"ما قبل الحرف...ما بعد النقطة" و"شجرة الحروف"، ناهيك عن مجموعتك "النقطة" بفاتحتها قصيدة "محاولة في الرّثاء" و مطلعها:

" في الأربعين

في العام الأربعين

جلست على باب الحلم"...

فما السرّ في شغفك برقم الأربعين؟ وهل لي أن أعتبره انفتاحا على منظومة الجفر التي يتقاطع فيها الرقميّ بالحرفيّ ،ويمتزج فيها الدلالي بالصّوفي والطلسمي؟أيكون الرّقم أو الفلك ،هو الممكن الفنّي والترميزي المنبثق من رحم الحرف ،والقادر على كسر نمطيّة شعريّة حروفيّة التصقت باسم المبدع أديب كمال الدين؟

* الأربعون رقم مقدس دينياً وشعبياً وسحرياً وفلكلورياً وخرافياً. فهو سن الحكمة والنبوة والنضج. وهو الرقم المليء بالأسرار ولطائف الأسرار. هو رقم يتزاوج فيه الموت مع الحياة، والممنوع مع المباح، والمدهش مع المخيف، والسعادة مع الضياع ،والذكرى مع النسيان، والنصر المبين مع الخسران الفادح.

وإذا أردنا الإفاضة فنحتاج إلى صفحات لا نهاية لها لشرح أسرار وخفايا ولطائف هذا الرقم. من الناحية الفنية، أعني في استخدامي الشعري للرقم هذا، فقد فصلّتُ ذلك تفصيلاً في قصيدتي "محاولة في الرثاء" المنشورة في مجموعتي النقطة الصادرة عام 1999. فيرجى العودة اليها قراءةً وتحليلاً لتنالي الإجابة الشعرية الأوسع والأفضل.

على المستوى الشخصي، فقد تعاملتُ مع هذا الحرف في مستويات عديدة منها ماهو شخصي ومنها ماهو روحي، ومنها ماهو طلسمي. ودخلت في تجارب عديدة معه وصولاً إلى الفيض الروحي والصوفي والمعرفي وغير ذلك.

أما الموت فهو الحرف الأعظم. إنه الحرف الذي لايسبقه حرف ولا يدانيه حرف. والحرف والحروفية، بل الشعر والشعرية، إنما هي احتجاج على الموت وتنديد به، ومحاولة للإلتفاف عليه وتحجيمه وتخفيف سطوته وحضوره وعنجهيته وعبثيته.

- لكن يبدو أنّ هاجس الموت كان قادحا فعّالا في الإبداع الشعري ، إذ تقول في ديوان "النقطة" :

" كلّما تعمّقتْ حفرةُ قبري أكثر فأكثر

كتبتُ شعراً أعمق فأعمق. "

ولم يختلف القرّاء والنقّاد حول ما تميّزت به قصائد مجموعتك "ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة" من كثافة شعريّة وعمق في الشّحن العاطفيّ ،وقرّاؤك يستبشرون خيرا بمجموعتك الأخيرة "شجرة الحروف" ، فهل لنا أن نستنتج – جدلاً- أنّ المنفى الأسترالي كان أعمق القبور التي حفرها القدر في حياتك؟

* يا له من سؤال!

ليس من الممكن يا عزيزتي اجتزاء مقطع شعري بلغة الشعر الاستعارية وحمّالة الأوجه والمؤولة بتأويلات عديدة لنستنتج أو نستولد منها حكماً نقدياً مكتوباً بلغة النقد العلمية الصارمة!

إنه ليس "القبر" الأسترالي هو السبب، فأستراليا جميلة إلى حد اللعنة، بل هو تراكم الخبرة الحياتية من خلال قراءة كتاب الروح والجسد بلغة التأمل المبنية على الفاصلة المكانية والنظر إلى الحريق داخلاً وخارجاً، وكذلك تراكم الخبرة الشعرية عبر توالي السنين وتعمّق الرؤيا والرؤية للأشياء والواقع، وازدياد وتيرة القراءة للشعر العالمي المتوفر في أستراليا على نحو كثيف يتيح الاطلاع على المنجز الشعري العالمي المترجم من عشرات اللغات إلى الانكليزية إضافة إلى ماهو مكتوب باللغة الانكليزية أصلاً. كل هذا عمّق من الإحساس بالحرف فالكلمة فالجملة فالمقطع فالقصيدة!

ولكي لا أبدو قاسياً نوعاً ما أسارع لأرد تحية الإطراء الجميلة التي نالتها منك مجموعتي الأخيرة "ما قبل الحرف .. مابعد النقطة"، أسارع لأرد التحية بمديح الشكر والامتنان!

- شاعري الحليم. . لا تشغل بالك بمعنويّاتي، فأنا مثلك بنت برج الحمل ،أفضّل العفويّة والشفافيّة والصدق ، ولا أتقن على الإطلاق التعاطي مع فنون المجاملات والإطراء.

لذلك أرجو أن يتّسع صدرك لحوارنا الذي أسعدني بأن تحوّل إلى جدال لعلّه أثرى وأجدى من بعض حوارات "السين: سؤال " و"الجيم: جواب" ، الأشبه بالاستجوابات البوليسيّة التي يعجّ بها زمننا العربيّ التعيس، وقد صَوّرَها بفنيّة عالية مشهدُ نقطتك المشدودة على كرسيّ الاعتراف في المقطع الأخير من "قصيدتي الجديدة" .

بعد هذا الاستطراد أعود للرّد على الردّ:

أوّلا أنا ممّن يجدّفون ضدّ تيّار ما أسميتَه "لغة النقد العلميّة الصارمة" ، وممّن يؤمنون بأنّ التواصل النقدي المعرفي مع الشعر ومع الكلمة وخاصّة مع الحرف يكون مشوّشا مشوّها لا محالة إذا لم يسبقه من الباحث أو النّاقد ،تواصل وجداني، وتناغم فكري وروحي في آن معا ، فكلّ ناقد قارئ ، أوّلا وأخيرا ، أو هكذا يفترض.

ولا يتسنّى لقارئ "عابر" ، أو لـ"ناقد وصولي" (تناولته أنت بالنقد في أحد المواضع الشعريّة) أن ينهض بعمليّة تأويل قصيدة ، فما بالك إذا كانت قصيدة رمزيّة حروفيّة، حمّالة أوجه . هذا رأيي ، لكنّي أحترم كلّ ما خالفه من آراء.

من هذا المنطلق كان سؤالي حول "مدى عمق قبر منفاك الأسترالي" –بدوره- حمّال أوجه فأنا أدرك جيّدا أنّ منفاك قبر وجود وإيجاد ولم يكن يوما قبر نسيان وممات، وأنّ حاء الحياة والحبّ والحريّة لا تنبع إلاّ من أشدّ قبور الوجود غؤورا وعمقا.

ثانيا ،إنّ "قسوتك" في الرّد طريفة بقدر ما هي خلاّقة فقد حملت معها جوابا على سؤال طالما راودني، وأوحت إليّ بآخر يستفزّني بالطرح:

خطابك التّالي الذي صدّرْتَ به قصيدة " قاف " ، وهي فاتحة مجموعتك الشعريّة "نون" ،كان من أوّل نصوصك الشعريّة التي لفتت انتباهي بجرأة صياغتها قبل شعريّتها :

" لكلّ مَن لا يفهم في الحرفِ أقول:

النون شيء عظيم

والنون شيء صعب المنال

انه من بقايا حبيبتي الإمبراطورة

ومن بقايا ذاكرتي التي نسيتها ذات مرّة

في حادثٍ نوني عارٍ تماماً عن الحقيقة

ومقلوبٍ،حقاً، عن لبّ الحقيقة

وهكذا اتضح لكم كلّ شيء

فلا تسألوا، بعدها، في بلاهةٍ عظيمة

عنمعنى النون!"

تساءلتُ حينها كيف لشاعر أن "يتطاول" على قارئه بمثل هذه الحدّة فيستخفّ بمدى قدرته على التمثّل الإيحائي ؟ ثمّ ،لِمَ يفرض "وصايته" على نونه ويصادر حريّتها في أن تثرى وتتلوّن بعيدا عن دواة كاتبها وقلب عاشقها لتحيا حياة جديدة مع كلّ قراءة وتأويل؟ وها أنا أظفر منك بجواب ضمنيّ: أنت شاعر شديد الغيرة على شعره ، يحبّ تملّك حرفه ويستميت في الدفاع عنه، غير أنّه يعي تمام الوعي أنّ شعره ،شأنه شأن أبجديّته وحرفه، يصبح ملكا مشاعا بمجرّد أن يعرض للقراءة. فما الحلّ إذن؟

حتّى أوضّح الجواب، سأستوحي "ومضة" من مشهديّة الحرف التي اختصّ بها أسلوبك الشعري، إذ كثيرا ما أتخيّلك ممسكا بيد حرفك رافضا أن تتركها حتّى في "عقر بيت" القارئ أو مكتبه.ولا غرابة في الأمر ، فكلّ قارئ أو ناقد هو عندك "متّهم إلى أن تثبت براءته" التي لن تثبت يوما ،لأنّ معاييرها – براءة القارئ - مترسّبة في وجدان الشاعر وتَمثُّلِه الذاتي لحروفه ، تمثّلا من المستحيل أن يتكرّر ما دامت لحظة القراءة مفارقة للحظة الكتابة.

ولي في قصيدتَيْ "قصيدتي الجديدة" (**) و"قصيدتي الصبيّة" (***) خير شاهد على كلامي ،حيث المتلقّي الحاضر الغائب إمّا لامبال، وإمّا أبله ،وإمّا سفّاح يجلد قصيدة تنزف نقاطا وحروفا دون أن تبوح بأسرار يحتكر عاشقُها ومريدُها فكَّ شفرتها (Décodage).

مع أنّي أتوهّم أنّ قارئك أولى بالشفقة من حرفك ، وأنّ ناقدك من يُخشَى عليه من سطوة قصيدتك وليس العكس ، فلا مناص من أن أسألك: إلى أيّ حدّ تخشى على قصيدتك الحروفيّة من "مشرحة" المناهج الحديثة في النّقد الأدبي؟ثمّ هل يعيش الشعر العربي المعاصر أزمة في التلقّي برأيك؟

* شكراً على هذا السؤال الذي أبادر لأصحح أخطاء قد وقعت فيه. ليس هناك من " تطاول" على القارئ بل هناك شيء من التهكم المرير المغلّف بروح السخرية من المرموز لتناقضاته العجيبة فهو - كما وردت في المقطع المذكور- " شيء عظيم" و" شيء صعب المنال" وهو أيضاً "من بقايا حبيبتي الإمبراطورة" و"من بقايا الذاكرة التي نسيها- الشاعر- ذات مرّة في حادثٍ نوني عارٍ تماماً عن الحقيقة، ومقلوبٍ،،،حقاً، عن لبّ الحقيقة"!! ألا ترين هذه التناقضات والأضداد العجائبية التي ستحير القارئ – لاشك- وتتركه في حيرة عميقة؟! حسناً لقد طلب الشاعر ألاّ يقع القارئ فيها!

إذا كنتِ غير مقتنعة بجوابي هذا وتصرين على معنى " التطاول" . فهذا من حقك لأن الشعر تأويل، رغم أن تأويلك للنص هو لي لعنق القصيدة بقسوة!

أياً يكون الأمر، ففي شعري تجدين العديد من هذه الأمثلة فتارة ترين الشاعر "يتهكم" بمرارة من أقرب الأقربين اليه: من حبيبته حين تغلفها الأنانية والقسوة والطغيان، ومن زمنه حين يتحول إلى زمن الأدعياء والكذابين والانتهازيين، ومن حظه إذ يفسد عليه كل شيء، ومن أصدقائه حين لا يفهمونه حد المغالاة في عدم الفهم، بل تصل السخرية المريرة من ذات الشاعر ذاته حين تتمسك ببرائتها المفرطة وصدقها القاسي في زمن اللابراءة واللاصدق! وهكذا فليس هناك من شيء مقدس في الفن يا عزيزتي!

وفي الشعر العربي والعالمي عشرات الأمثلة التي تؤكد مثل هذا التهكم وهذه السخرية التي ترينها مثلاً عند الحطيئة وابن هرمة وديك الجن من الأقدمين وعند نزار قباني والبياتي ومظفر النواب من المحدثين. ولا تنسي مقولة بودلير المدوّية: أيها القارئ، أيها المنافق!"

أما الخوف من النقد فلا أظنني أعاني منه الآن . في بداياتي واجهت صعوبة حقيقية في تقبّل النقد لشعري الحروفي، خاصة وأن مَن تصدى في البدء لحروفياتي لم يكن يعرف الكثير عن الحرف وأهميته وأسراره ولطائفه ومعانيه. لكن بمرور الزمن وتعدد المجاميع الشعرية الحروفية التي كتبتها فقد تغيرت الصورة تماماً وصار النقاد يستمتعون بما أكتب ويؤيدون هذا الأسلوب لتفرده وتميزه وقد بدأ ذلك التقبّل والنجاح والحضور بقوة مع مجموعتي (نون). ولا أخفيك سراً أنّ الناقد الدكتور مصطفى الكيلاني كان من أوائل النقاد الذين انتبهوا - لحسن الحظ – إلى أسلوبيتي الحروفية الجديدة، فكتب مقالة نقدية متميزة لقصيدتي "طلسم" المكتوبة في أواسط الثمانينات والمنشورة في نهايتها ضمن مجموعة" جيم". وهذه القصيدة كانت من أوائل الحروفيات التي كتبتها. ثم جاءت مقالات ودراسات عيسى الصباغ، واثق الديني، فوزي كريم، أ. د. بشرى موسى صالح، عيسى حسن الياسري، عبد الستار إبراهيم، د. رياض الأسدي، علي الفواز، خضير ميري، واثق الدايني، عباس عبد جاسم، فاروق يوسف، د. حاتم الصكر، عبد الجبار البصري، نجاة العدواني، فيصل عبد الحسن، ناجح المعموري، إسماعيل إبراهيم عبد ، د. محمد صابر عبيد، يوسف الحيدري، معين جعفر محمد، هادي الزيادي، د . إسماعيل نوري الربيعي، حمزة مصطفى، د. جلال الخياط، محمد الجزائري، علي جبارعطية، هشام العيسى، صالح زامل حسين، أمير الحلاج، ركن الدين يونس، بشير حاجم، ريسان الخزعلي، هادي الربيعي، د. قيس كاظم الجنابي، عبد الأمير خليل مراد، رياض عبد الواحد، جمال جاسم أمين، فائز ناصر الكنعاني، حسن النواب، د . محمود جابر عباس، أ. د. عبد الواحد محمد، علاء فاضل، زينب أحمد، وسام هاشم، علي عبد الحسين مخيف ، فؤاد العبودي، فاضل الكعبي، عبد العال مأمون، عبد المعز شاكر، د . مقداد رحيم، أ. د. عبد العزيز المقالح، أ. د. عبد الإله الصائغ، د. عدنان الظاهر، د. حسن ناظم، د. ناظم عودة، عدنان الصائغ، أحمد الشيخ، د . حسين سرمك حسن، وديع شامخ، رعد كريم ، صالح زامل حسين، صباح الأنباري ، وديع العبيدي، عبد اللطيف الحرز، عبد الرزاق الربيعي، علي الامارة، خليل إبراهيم المشايخي، مالكة عسال، جمال حافظ واعي، شوقي مسلماني وغيرهم.

وفي شعري عموماً هناك أنواع متعددة من النقد تصلح لتناول مجاميعي الشعرية. وقد أشار الأستاذ الدكتور عبد الواحد محمد إلى ذلك في مقالته عن مجموعتي "النقطة" والمعنونة "ظاهرة التكرار الإيقاعي في (النقطة)" والمنشورة في صحيفة العرب اللندنية بتاريخ 16 حزيران 2000 حيث كتب قائلاً: "إنّ هذا الديوان يفتح أمام الناقد أبواباً مختلفة لأداء مهمته النقدية. فهناكبـابللنقد السايكولوجي وباب للنقد الواقعي وللنقد الواقعي السحريوباب للنقد الاجتماعي، وباب للنقد الشكليأي للنقد اللغوي ـالأسلوبي".

وأنا أرحب دائماً بأي أسلوب يتخذه الناقد منهجاً للوصلة والوصول، شريطة أن يقرأ القصيدة بروح متفتحة ودون أن يحاول لي عنق القصيدة وتقويلها ما لا تقول!

أما القول بأنّ الشعر العربي يعاني من أزمة تلقي فهذا صحيح، لأنّ الكثير من الشعراء والشاعرات في أقطارنا العربية يفتقدون إلى الفهم الدقيق لمسألة بنية القصيدة، ولمسألة النمو العضوي في القصيدة، ومسألة الاقتصاد في اللغة، ومسألة القاموس الشخصي للشاعر، كما يعانون من الخواء الروحي والإنساني أحياناً. فالكثير منهم لايملكون تجارب روحية أو إنسانية ذات شأن أو عمق. وتجدين جملهم الشعرية وصورهم الفنية مليئة بالتغميض والترهل والتقعير والهذيان اللامجدي حتى تتحول قصائدهم إلى مايشبه ركاب عربة القطار الذين لا يعرف بعضهم بعضاً البتة ولا يجمعهم أي جامع سوى العربة. مثل هؤلاء الشعراء يهرفون بما لا يعرفون! وهذا جعل مسألة التلقّي في تفاقم مستمر إلاّ من رحم ربي.

– ثمّة لحظة يستأثر بها المبدع دون سواه من البشر ، لكنّها تستثير فضول البعض – وأنا منهم – إذ تبقى غائمة مستعصية على الإدراك. إنّها لحظة استيلاد القصيدة. وفي قصيدة "سهرة صامتة"14 حاولت أن تقرّبنا من عالمك الخاصّ بأن وضعتنا في صميم طقس يمارسه الشاعر لينعم بوصل الحبيبة القصيدة، حين " تشعل الشمعة"

" فيحضر على الفور

ملاك الحياة وشيطان الشّعر."

هلاّ جلّيت لنا ملامح مثل هذه "الخلوات" التي تضعك في حضرة الحرف والتي تردّنا إلى مفهوم "الرئيّ" عند فحول الشعراء القدامى ، وإلى ثنائيّة "المكاشفة والمشاهدة" عند مشائخ الصوفيّة. ومتى يفلت النصّ الشعريّ من قبضة الوعي ويستهتر برقابة صاحبه؟

* ليس هناك من قانون معين أو محدد أو خاص أو ثابت لكتابة القصيدة. كلّ قصيدة حروفية أو غير حروفية تولد ضمن قانونها الخاص بها. أحياناً تجيء لتوثّق لحظة رؤيا نادرة أو لحظة حزن عميقة أو لحظة اندحار أسود أو لحظة بكاء أسطوري أو لحظة مكاشفة وامضة أولحظة تأمل في الذي يأتي والذي لا يأتي أو لحظة ضياع لا قرار له. لكنها للأسف لا تجيء البتة لتوثّق لحظة سعادة ما. ربما لقلة لحظات السعادة في حياتي أو ربما لأنّ الشعر والفرح لا ينسجمان. فالشعر هو ابن الحرمان والانكسار والسؤال قبل كل شيء، وليس ابن الانتصار واليقين والمسرّة.

وغالباً ما أحضر إلى الورقة ومعي السطور الأولى من القصيدة، أعني أن السطور الأولى من القصيدة فقط هي الحاضرة أو المكتملة أو الوامضة في رأسي بعبارة أدق. ويبقى عليَّ أن أطوّر هذه السطور وأنمّيها لتكتمل القصيدة في شكلها المكتوب.

وأثناء الكتابة أعتمد أسلوباً هو مزيج من الوعي واللاوعي في تسطير الجمل. وعلى قدر توازن الوعي واللاوعي وعلى قدر فرادة ما أكتبه في تلك اللحظة تبزغ قيمة القصيدة فنياً كما أعتقد وأخمّن. فإن انتهيت فإنني أعود إلى القصيدة لأنقحها، وغالباً ما أعيد التنقيح ثلاثاً. والتنقيح عملية لا أمارسها إلاّ بمزاج رائق فهي تتطلب تركيزاً وانسجاماً مع النص. وفي التنقيح تبرز مسألة لطيفة فهناك قصائد تتطلب قدراً محدوداً من التغيير في حين أن قصائد أخرى تتطلب تغييراً واسعاً وحذفاً لمقاطع وإضافة أخرى، أي أنها تحتاج إلى إعادة كتابة، ربما بشكل جذري.

- تتواتر على لسان الشعراء الرّمزيين إحالات على "عناصر خلفيّة " تقدح عمليّة الإبداع من قبيل ظاهرة "جنون اللّغة" و" دروشة الحرف" و "شيطان الشعر". ألا تشاطرني الرأي في أنّ القصائد النّابعة ممّا – وراء الوعي، وممّا - وراء اللغة (Meta- langage) تبقى فوق مستوى التأويل بمعنى أنّ حروفها كتبت لتُعاش لا لتُدرس؟

* حسناً، ولكن ما هو دور النقد يا ترى إذا سلّمنا بصحة هذا الرأي؟

ينبغي للنقد، برأيي، أن يدرس كل أصناف الكتابة الشعرية ليتألق في كشف خفاياها وينمو في نصّ موازٍ للنص الشعري ومكمّل له ومنسجم معه ليعطينا نقداً قادراً على الإبداع – تماماً كالشعر المبدع- ولا يكتفي- خوفاً من الوقوع في الصعوبة- بكتابة تعليقات فضفاضة تخلو من المشاركة الفاعلة في كشف تفاصيل العمل الشعري المنقود، تعليقات هي أشبه بصيحات الاستحسان والإعجاب لمعلّق رياضي في مباراة لكرة القدم!

- من مظاهر تعميق الصور الشعريّة عندك استلهام إيحاءات اللون والشكل ، وهذا واضح في انتقائك للوحات تصدّرت أغلفة مجاميعك الشعريّة وجمعت بين البعد الطلسميّ والبعد التشكيلي الفنّي. فهل تستمدّ حروفك ألوانها وأشكالها وحضورها المسرحي على ركح القصيدة ،من تداعيات نفسيّة عفويّة أم من مرجعيّات رمزيّة قصديّة وواعية تنبع من عنايتك بالفنّ التشكيليّ وانفتاحك على المسرح الغربيّ؟

* أنا مهتم بالفن التشكيلي وأتابعه مثلما أهتم بالمسرح الغربي. وقد كتبتُ العديد من المقالات عن كتاب المسرح الكبار أمثال: شكسبير وشيلر ويوجين أونيل ولويجي بيرندلو ووليم سارويان وبيكيت. وقد أفادتني قراءة النصوص المسرحية في استخداد الحوار الداخلي والحوار الخارجي في قصائدي وكذلك في استخدام الأقنعة في شعري كقناع هاملت في قصيدة " محاولة في هاملت" – مجموعة النقطة- وقناع التوحيدي في قصيدة: "إشارات التوحيدي"- مجموعة جيم- وقناع المعري في قصيدة : "المعري في التيه"- مجموعة جيم .

أعتقد أن قراءة المسرح ضرورية جداً لأيّ شاعر يريد أن يعمق تجربته الشعرية وينميها ويقودها صوب التميز والتفرد ولا يفوقها هذه القراءة شيء في الأهمية سوى تعلم إحدى اللغات الأجنبية ذات الحضور الاستعمالي الواسع كالانكليزية أو الفرنسية أو الإسبانية.

إنّ حروفي تستمد حضورها من مصادر شتى: قرآنية وصوفية وروحية وعشقية وفلسفية وفكرية وسحرية ومسرحية وتشكيلية ولغوية وحلمية وطفولية وذاتية. من كل هذا المزيج المتعدد والمتنوع والمختلف لدرجة التناقض ربما، أستمد استخداماتي للحرف لأؤكد - ولله الحمد - حضور الحرف جديداً ومتجدداً في كلّ مرّة !

- في خضمّ حوار الفنون والآداب والحضارات، ألا يخشى الشاعر أديب كمال الدين على حرفه الرّوحانيّ الصوفيّ من أن يعاني قلقا في بيئته الحادثة ، أو أن يشكو غربة في غرابته؟

* نعم هذا صحيح ، لكنّ الأصح منه أن الغربة تنمّي عند المغترب أنواعاً من القلق لم تخطر على البال! ولذا تشكو الأغلبية الساحقة من المثقفين من القلق بأنواع شتى ودرجات شديدة العمق.

إنّ القلق هنا ليس فقط على حياة الحرف من الارتباك أو الضعف أو الوهن أو الفتور أو الموت بل القلق على حياة صاحب الحرف وكاتبه من الارتباك أو الضعف أو الوهن أو الفتور أو الموت!

- في سياق تفاعل الثقافات تطرح مسألة الترجمة، وأنت درست الترجمة في بغداد وتخصّصت فيها ثمّ حصلت على دبلوم الترجمة الفوريّة في أستراليا ، كما أنّ قصائدك قد ترجمت إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة والرومانيّة والكرديّة . ويتجلّى احتفاؤك بترجمة شعرك في العنوان الإنكليزي ( Before the letter … After the Dot )الذي يطالعنا به غلاف مجموعتك الشعريّة الأخيرة " ما قبل الحرف ... ما بعد النقطة."

لئن عُدّ النصّ النّثري "مضمونا" أو "محتوى" تتيسّر ترجمته ، فإنّ النصّ الشعري يبقى "شكلا لمحتوى" أو " شكلا لمعنى" ( Une forme du sens )، ومترجم الشعر إذ ينقل "المعنى" فإنّه غير قادر على نقل "شكل المعنى" لأنّ هذا الشكل يعتبر امتدادا لوجدان الشاعر، ولذاكرة ثقافيّة وبنية فكريّة تمخّض عنها الشعر في لغته الأمّ .

انطلاقا من هذه المعادلة كيف يتسنّى ترجمة قصائدك الحروفيّة - التي تشرّبت الوجداني والقرآني والصوفي والفلكي- دون أن تفرغها من شحنتها الرّمزية المتشابكة مع نسيج اللغة العربيّة والثقافة الإسلاميّة ؟

في هذه الحال، ألا تسلب الترجمةُ حرفَك روحَه، ومن ثمّ تحدّ من "شعريّة" قصيدتك؟

* أؤكد - بشكل عام - في ترجمتي لشعري أو لشعر سواي على الأعمال التي تعتمد في حضورها الإبداعي على"الثيمة" أكثر من اعتمادها على مفارقات اللغة والتلاعب بالألفاظ. ذلك أن "الثيمة" يمكن أن تجتاز صعوبات الترجمة بنجاح ليبقى العمل محتفظاً بزبدة جدواه الفنية. أما العمل الفني الذي يعتمد في حضوره على مفارقات اللغة فذلك لا سبيل إلى ترجمته البتة. كذلك أؤكد، قدر المستطاع، على الأمانة في الترجمة، مع منح القصيدة ما تستحق من شاعرية دون الاساءة إلى هذه الأمانة بل الحفاظ عليها بكل الوسائل الممكنة. هذه هي الخطوط العامة لأسلوبيتي في الترجمة أما التفاصيل فانها تتطلب حديثاً له بداية وربما لا نهاية له.

وعند الحديث عن ترجمة شعري فإن قصائدي الحروفية لا تُترجم على الإطلاق! وقد ترجمتُ بعضها إلى الانكليزية ونشرته في مجلة أسترالية مرموقة فاستصعب القراء الأستراليون القصائد لكنهم تفاعلوا بشكل عميق مع القصائد غير الحروفية. وكان ذلك درساً عملياً لي في استحالة ترجمة القصائد الحروفية لشدة التصاقها بلغتها الأم: العربية. وهكذا صرتُ أؤكد على ترجمة قصائدي ذوات " الثيمة" فهي بخلاصتها الإنسانية والروحية قد تستطيع أن تقفز فوق حاجز اللغة الصعب!

- تعدّ "معضلة المعنى" أحد شواغل الشعر العربي المعاصر، ولا يخفى أنّها قد حظيت بعنايتك نقدا وشعرا إذ تقول: "أعظم ما في الشعر

أنّه يصيّر جنوننا الفادح

حروفاً لا معنى لها ."

ونلمس في مجاميعك الشعريّة – ولا سيّما في أخبار المعنى – إقرارا بعبثيّة البحث عن المعنى.

فعلى أيّ العناصر الفنيّة تعوّل لسدّ " الفراغ الدّلالي" الذي تتركه حروفيّاتك في ذهن قارئك؟

* ليس هناك فراغ دلالي تولده قصائدي الحروفية، بل على العكس هناك دلالات متعددة للمعنى. وبحسب القصيدة المكتوبة، فإنّ هذه الدلالات قد تصل واضحة، متماسكة، وغنية لذهن القارئ وقد تصل إليه مشوشة أو غائمة.

هناك جانبان: القصيدة وكم الشعرية المتحقق فيها، والقارئ ومدى قدرته الثقافية على تفهم الشعر واستيعابه. إذن، فلا خيار لديّ سوى التأكيد على الشعرية المبثوثة في القصيدة وتعميق حضورها ليكتمل حضور القصيدة روحاً ومعنى لدى القارئ.

وقد أشرتُ في جواب سابق إلى أهمية استخدام الحرف بطريقة حسية بعيداً عن الذهنية التي أعتبرها ألد أعداء الشعر أولاً، وأشير هنا كذلك إلى ضرورة استخدام الجمل البعيدة عن الإطالة والإطناب والتقعير والحشو والتهويم ثانياً، وإلى ضرورة كتابة القصيدة بطريقة شديدة الاقتصاد في الصور والألفاظ ثالثاً، وإلى ضرورة متابعة القصيدة في نموها العضوي بدقة شديدة رابعاً، وإلى ضرورة اختيار العنوان المناسب خامساً وأخيراً.

- إذا كان للشعر جمهور خاصّ ، فإنّ للحرف جمهور أخصّ. مَن مِن القرّاء "تستأمنه" على حروفك؟ أم تعتقد القصيدة الحروفيّة في متناول "عموم" القرّاء؟

* لا أستأمن أحداً على شعري أو حروفي. فأنا أكتب لنفسي في المقام الأول دون أن يتقاطع ذلك مع اهتمامي بالقارئ البتة. قد يبدو هذا للبعض كلاماً متناقضاً لكنني لا أراه كذلك. وأعتقد جازماً أنه عبر استخدام الصورة المجسّدة المكتوبة بطريقة تمسّ الأعماق والابتعاد عن الذهنية واللغة المقعرة والهذيان اللغوي الذي لاطائل من ورائه، أعتقد أن ذلك كله يجعل من وصول الشعر عامة – والقصيدة الحروفية جزء منه – إلى عموم القراء أمراً ممكن التحقيق!

- المتتبّع لمسيرة حروفك يلاحظ أنّ حاء الحبّ قلّما تنعم بوصال بائه . إذ كثيرا ما تشكو من الحبّ المجتزأ الذي يحيل على نموذجين من المرأة : واحدة تهب قلبها وتبخل بجسدها ، وأخري تمنح جسدها ولكن مفرغا من كلّ عاطفة. معادلة يترجمها المقطع الشعري التالي من ديوان النقطة :

"هل أبيع حبّي؟

قد فعلت

ومن اشتراه؟

اشترته النساء اللاّتي لا حاء في بائهنّ

ولا باء في حائهن.ّ"

شعرك في "حاء / باء" المرأة ،هل لنا أن نعتبره عصارة تجارب واقعيّة لامست الشرق والغرب ، أم أنّه مجرّد "افتعال فنّي" يتعمّده الشّعراء أحيانا حتّى تظلّ المرأة كائنا وهميّا ،ويظلّ معها الحبّ المكتمل محض إمكان يشحذ قريحة الشاعر وحرفه حتّى يهيّئه في كلّ مرّة لقصيدة مرتجاة؟

* نعم. المرأة: الأنثى هي خلاصة الذكر/ الرجل/ الشاعر وجدواه ومسرّته وفرحه وعذابه وقلقه ولاجدواه. الأنثى هي ماضيه ومستقبله. وهي بالتأكيد حاضره الذي ينتج في فضائه ما يُقـّدر له من نصوص. وعلى هذا تكون هيمنة الأنثى في النص منطقية جداً وضرورية جداً. تصوّري معي عالماً ليس فيه إلاّ الرجال. أيّ عالم ممل هذا يا إلهي!

المرأة وحدها هي التي تستطيع أن تكسر حاجز الملل، لكنها عند الشاعر تستطيع أيضاً أن تكسر حاجز الصوت أيضاً! وهي تستطيع أن تصبّ في روحه الفرحَ صبّاً مثلما تستطيع أن تكسر له زجاج روحه ليبقى ملتاعاً حتى النفس الأخير. هذه هي الأنثى: جسد ورماد، قصور وخرائب، حياة وفناء.

أما عن الانسجام بيني وبين الأنثى، فأنا آخر مَن يحق له الحديث عن هذا الانسجام! لأنه انسجام لا وجود له من قريب ولا من بعيد! ربما يكون الحديث عن علاقة الارتباك مع الأنثى أو التضاد هو الأدق. وقصائدي تكافح من أجل أن يسود بيني وبين الأنثى، بأشكالها المعقدة وبأسمائها المختلفة، نوع من السلام حتى وإن كان سلاماً بالاسم فقط.

من سوء حظ الرجل أو من حسن حظه أن الجمال كله كان ولم يزل في جسد المرأة وليس في أيّ شيء آخر في العالم، ومن سوء حظ الرجل أو من حسن حظه أنه لا يستطيع التخلص أو الفكاك أبداً من أثر هذا الجمال السحري الذي يحمله هذا الكائن اللطيف جداً، واللامبالي جداً، والمغلق على نفسه، والمفكر بطريقة مختلفة عن الرجل، وعصية على استيعابه!

- "ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة" عنوان شعريّ يحيل على عمق معايشتك للحرف، لعلّي أجد فيه تقاطعا مع " ما قبل الحرب .. ما بعد الغربة " : عنوانا يختزل البعد الدرامي لحياة الحروب والمنافي التي عشتها. إذا ما اعتبرنا "الما-قبل" و"الما-بين" ترسّبا في مساحة من الإبداع احتكرها الحرف والنّقطة، ومساحة من الحياة طوّقتها الحرب والغربة، فكيف يتراءى أمام أديب كمال الدين فضاء "الما- بعد" : ما بعد نقطة شاعر صوفيّ ، وما بعد غربة إنسان عراقيّ؟

* أعاني من أنواع عديدة من الغربة، وليست الغربة المكانية بأولها على أية حال.
وهكذا وبسبب من تعقيد المسألة وتجذّرها في الأعماق، فإنني "وضعت" الغربة في "كيس" خاص في جسدي. هل سمعتِ بحالة يعاني فيها الإنسان من إصابته بإطلاقة نارية لتستقر الرصاصة في جسده، ولأسباب كثيرة، في مقدمتها رغبة الجسد في البقاء على قيد الحياة، فإنه يقوم ب"تكييس" أو "تلييف" الإطلاقة فيحدّ من خطرها المميت ويحدّ إلى حدّ ما من آلامها الوحشية؟

لقد استقرّت الغربة:الرصاصة في أعماقي داخل كيس خاص. ما اسم هذا الكيس الذي أحاط بالغربة- الرصاصة وروّضها إلى حدّ ما؟ أهو الشعر؟ أهو الحرف والنقطة؟ أهو الحرفنقطة؟ المهم أن الغربة بمخاطرها وآلامها تحت السيطرة حتى الآن، ولكن ليس لدرجة التصالح على الإطلاق!

لقد تحدثت عن الغربة المكانية، آخر أنواع الغربة التي تعرّفت إليها، لكن الغربة الإنسانية أكبر من ذلك دون شك. وهكذا تبدأ غربتي، كإنسان وكشاعر، بتعبير حروفي، من غين الغربة ولا تنتهي بتائها المربوطة!

لقد كنتُ مغترباً وأنا أعيش حتى وسط الوطن، ووسط المجتمع العام والخاص، ووسط النخبة الثقافية التي ما أن حاولت الاندماج معها حتى اكتشفت مبكراً صعوبة وربما استحالة ذلك لأنها تتخذ من الايديولوجيا تحديداً لماهية الإنسان. كانت الغربة بمرور السنين تشتدّ والثمن الذي أدفعه لكي أبقى حياً وسط حروب مدمرة وحصارات وحشية وتهميش إعلامي وثقافي غالياً. بعبارة أخرى، كانت الغربة داخل الوطن عذاباً حقيقياً لم يعرفه الاّ القلّة من الذين اختاروا معي صفاء الكلمة وشظف العيش وارتياب الآخر وتشكيكه وتهميشه بدلاً من مسخ الموقف والاندماج بالمؤسسة. وما أن وصلتُ إلى أستراليا حتى بدأت غربة أخرى تطلّ برأسها:إنها غربة اللغة. ولحسن الحظ فإنني قد أعددت نفسي لها إعداداً جيداً حيث درست الأدب الانكليزي بكلية اللغات بجامعة بغداد في التسعينات. لكن الغربة كما اكتشفتُ ليست لغوية بل أوسع من ذلك،إنها حضارية، وهي غربة تقوم، في الغالب، على اصطدام الحضارات والثقافات. وأنا القادم من الشرق الفقير المحبَط هو مَن سيكون نقطة اصطدام الشرق بالغرب !بالطبع هناك، قبل هذا كلّه، غربة الإنسان في هذا الكون. إنها الغربة الأقسى. هي غربته وهو يحاول عبثاً فكّ طلاسم الموت: الوجه الآخر للحياة. هي غربة تطلق شرار الشعر فيَّ أبداً، وتدلّني، منذ كتابتي لقصيدتي الأولى وحتى الأخيرة، على انحسار الأمل لا انحسار السؤال. هذه الغربة هي رديف عظيم للسؤال الشعري، رديف يتبعني كظلي!

 

 

(*) قصيدة: اكتشافات الحرف

شعر: أديب كمال الدين

(1)

حينَ قبـّلَ الحرفُ النقطة

اكتشفَ الوردة

وحينَ احتضنها بقوّة

اكتشفَ الحبّ

وحينَ أطلقها لتطيرَ فوق قلبه

اكتشفَ الهذيان

وحينَ صهرها ما بين ذراعيه

اكتشفَ اللّذة.

(2)

وحينَ وضعها تحت جسده

وصارَ هو الشراع

وهي السفينة

اكتشفَ البحر

وحينَ باحَ لها بسرّه المكنون

اكتشفَ الشِعْر

وحينَ علّقها فوق الشجرة

اكتشفَ البيضة

وحينَ اعترفَ لها

كالطفلِ الذي ضيّعَ حقيبته المدرسية

بذنوبه ووساوسه وهلوساته

اكتشفَ الدمعة.

(3)

وحينَ صرخ بها

في لحظةِ فراقٍ سوداء

اكتشفَ النهاية

وحينَ رفسها

في لحظةِ غضبٍ زرقاء

اكتشفَ الجنون

ثم حينَ طعنها

وسالَ منها دمُ الكلمات

اكتشفَ الموت

ومات!

(**) قصيدتي الجديدة

شعر: أديب كمال الدين

أعطيتُ قصيدتي الجديدة

بأصابع الارتباكِ والرغبة

إلى الحسناءِ الجالسةِ بجانبي في الباص

قلتُ لها: ضعيها بين النهدين

لتتعرّفي إلى سرّ القصيدة

ومعناها الأزليّ.

لم تأبه الحسناءُ لكلامي

وتشاغلتْ بحقيبتها الحمراء

وهاتفها الصغيرِ المليء بالمواعيد.

ثم أعطيتُ قصيدتي الجديدة

للطفلِ الذي يلعبُ في الحديقةِ العامة

قلتُ له: العبْ معها

ولكَ أن تصنعَ منها لُعَبَاً لا تنتهي

بألوان قوسِ قزحٍ لا حدّ لها.

فصرخَ الطفلُ باكياً

وولّى بعيداً.

ثم أعطيتُ القصيدةَ للنهر

قلتُ له: خذْها

إنها ابنتكَ أيضاً

أيّها الإله المُلقى على الأرض

باركْ سرّها

وتعرّفْ إلى معناها الأزليّ

أيّها الأزليّ.

لكنّ النهرَ ظلّ يحلمُ ويحلم

محدّقاً في الأقاصي البعيدة

دون أن يعيرَ كلامي انتباهاً.

وحدهُ الشرطيّ اقتربَ منّي

وصاحَ بصوتٍ أجشّ

* ماذا في يدك؟

قلتُ: قصيدة جديدة.

* فماذا تقولُ فيها؟

قلتُ: اقرأها لتتعرّف إلى سرّها ومعناها.

فأخذها منّي

ودخلَ غرفته السوداء

دخلَ ليربطَ القصيدةَ إلى كرسيّ حديديّ

ويبدأ بجلدها بسوطٍ طويل

ثم أخذَ يضربها بأخمص المسدس

على رأسها

حتى نزفت القصيدةُ حروفاً كثيرة

ونقاطاً أكثر

دون أن تعترفَ بسرّها ومعناها.

 

 

(***) قصيدتي الصَبيّة

شعر: أديب كمال الدين

(1)

وضعت القصيدةُ رأسها مابين ركبتيها

وبكتْ كأيّ صَبيّة

فكّرتْ: كيف ستعلن عن أسرارها؟

هل سَتُمجّد البحر؟

سوف تُتهم بالطبيعيّة!

هل سَتُمجّد النار؟

سوف تُتهم بالمجوسيّة!

هل سَتُمجّد الحبّ: أقماره وغواياته؟

سوف تُتهم بالإباحيّة!

هل سَتُمجّد الحرف

وترقصُ في سحره كالدراويش؟

سوف تُتهم بالحروفيّة!

هل سَتُمجّد الشرّ؟

سوف تُتهم بالشذوذ!

هل سَتُمجّد الله؟

سوف تُتهم بالتصوّف!

(2)

ما الذي ستفعله هذه الصَبيّة؟

لم تكنْ تعرف شيئاً سوى الدمع.

وضعتْ رأسها مابين ركبتيها

وبكتْ من جديد!

(3)

استمرَّ بكاءُ القصيدةِ ألفَ عام

حتى تحوّلتْ إلى ملاكٍ عجيب

طارَ فوقَ البحر والنار

طارَ فوقَ الحبّ : أقماره وغواياته

طارَ فوقَ الحرف راقصاً كالدراويش

طارَ فوقَ الشرّ والحقد

طارَ فوقَ المحبّة.

(4)

استمرَّ صعود ُالقصيدةِ ألفَ عام

وكانَ الذي قالَ: (كنْ فيكون)

ينظرُ إليها سعيداً

سعيداً تماماً

مثلما أمّ موسى

وقد رُدّ إليها ابنُها

بعدما كادَ يغيّبه البحرُ والدهر.ى يوم يُبْعَثون!

إلى يوم يُبْعَثون!

**********************************

1أديب كمال الدين/لويجي بيرندلو: مسرحة الألم (www.adeb.netfirms.com)

2أديب كمال الدين/ النِّفَّري: الشطح الخلاّق!(www.adeb.netfirms.com)

(ملاحظات موجزة عن تجربة النِّفَّري عبر مقدمة سعيد الغانمي لأعماله الصوفية)

3د. مصطفى الكيلاني/ ما بين (نون) و(النقطة) لأديب كمال الدين: كتابة النص الشعري المختلف (نفس المصدر أعلاه)

4 مقتطف من حوار أجراه معه د.شاكر نوري- جريدة القدس العربي – لندن 1999

5 المصدر السابق.

6 الجوهري/ الصحاح - دار الكتاب العربي .ط1 بيروت 1967 . مادّة ( حرف)

7 الزمخشري / أساس البلاغة – دار بيروت للطباغة والنشر 1965 (ص22)

8د. عدنان الظاهر – أديب وكليوبترا – دراسة نشرت بموقع الشاعر أديب كمال الدين (www.adeb.netfirms.com)

9 عنوان قصيدة للشاعر أديب كمال الذين ضمن مجموعته الأخيرة " شجرة الحروف".

10ديوان نون

11عنوان قصيدة من ديوان حاء (ص 147)

12ديوان نون

13 " الحرف يتشظّى.. النقطة تتدروش " عنوان قصيدة للشاعر أديب كمال الدين- شجرة الحروف – دار أزمنة – عمان ص 88

14 " ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة" ( ص 135)


رجوع



100% 75% 50% 25% 0%


مقالات اخرى لــ  حياة الخياري


 
 

ابحث في الموقع

Search Help

بحث عن الكتاب


انضموا الى قائمتنا البريدية

الاسم:

البريد الالكتروني:

 


دليل الفنانيين التشكيليين

Powered by IraqiArt.com 


 

 

 
 
 

Copyright © 2007 IraqWriters.com All Rights Reserved.

 

 

Developed by
Ali Zayni